شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
صناعة الكشك الصعيدي في آب... مخزون الحب والطعام والأغنيات

صناعة الكشك الصعيدي في آب... مخزون الحب والطعام والأغنيات

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والنساء

الجمعة 19 أغسطس 202211:36 ص

في آب/ أغسطس من كل عام كانت جدتي تصحو مع أصوات الديكة فجراً، ترتدي ثوب التسوق الأسود، وحذاء يتحمل وعورة الطرق، وتذهب إلى سوق "البدرمان" وهي قرية في جنوب صعيد مصر بالمنيا، من هناك تشتري القمح بسعر لا يجرح جيوب الفقراء، إذ لا توزن الغلال بل تباع "بالكِيّلة" وهي إحدى طرق الكيل التقليدية، وتضع في فم الحقيبة عُقداً من الحلوى تعقدها جيداً بخيط من الكتان،.

تعود إلى المنزل متهيئة لصناعة "الكَشْك" المخزون الشتوي من المخبوزات المصرية القديمة الذي يصنعه أهل الصعيد.
حينما تجمع الجدة الأواني الكبيرة في المنزل تبدأ الرحلة التي قد تستغرق ثلاثة أسابيع، يوضع القمح في الأواني ونظل لأيام متتالية نبحث عن الحصى المختبئة والأعشاب الصغيرة المتناثرة بداخله، وحينما ننجز هذه المرحلة نذهب إلى النيل.

الجدّة... ولمّة الجيران والأقارب 

اعتادت جدتي أن تبارك الغلال بغسلها في مياه النيل ظناً منها أن هذه الطريقة ستضمن لها الوفرة، وبعدها يوضع القمح في إناء باتساع خمسة أمتار مملوء بالمياه ومثبت على رأس جمرة من النيران حتى يُطهى. في هذا المشهد الريفي يتجمع أطفال القرية حول القدر وفي يد كل منهم طبق منتظراً أن تعطيه الجدة حفنة من القمح المطهو والمسمى "بليلة".

اعتادت جدتي أن تبارك الغلال بغسلها في مياه النيل ظناً منها أن هذه الطريقة ستضمن لها الوفرة

يتقدم جيران الجدة والأقارب ليساعدونا في نقل القمح وهو ساخن إلى المنزل، فبعد تصفيته من المياه يوضع على سطح المنزل فوق حصير يصنع خصيصاً من نبات "الحَلفْ" للقمح المسلوق، حيث يُفرد لحوالي أربعة أيام حتى يجف تماماً، حينها نأخذه إلى ماكينة الطحن عند الجارة، وتطحن الغلال بدرجة لا تصل إلى مرحلة الدقيق بل يكون القمح جزئيات صغيرة كما "الفَريك" الذي يستخدم في حشو الإوز والبط.

تتحدث عنايات محمد لرصيف22 عن مرحلتي طحن القمح، في المرحلة الأولى يُطحن ويُعزل منه الدقيق الصافي، وفي الثانية يطحن ويعزل منه القمح الخشن ليُطحن من جديد. لا تزيد تكلفة الطحن عن 50 جنيهاً.

اختبار ملوحة اللبن

تذهب الجدة إلى قريباتها وجاراتها وصديقاتها وتخبرهن بموعد تقطيع عجين الكشك، في اليوم الأول تأتي إليها أكبرهن سناً لتتذوق طعم العجين وتختبر درجة ملوحة اللبن الرائب، فإما أن تزيده بالماء أو تزيده بالملح، وتبدأ في صناعة العجين عن طريق خلط اللبن بالقمح المطحون، وتضيف الشطة الحارة أو الكمون كنكهة.

يتجمع أطفال القرية حول القِدر وفي يد كل منهم طبق منتظراً أن تعطيه الجدة حفنة من القمح المطهو والمسمى "بليلة"

تقول سعدية عبدالبديع، إحدى السيدات التي تبيع اللبن الرائب لرصيف22 إنها تخزّن اللبن في أوانٍ مصنوعة من الفخار "الزير" وتضيف إليه الملح الخشن حتى لا يتعفن ولضمان عدم تكوّن الديدان، ثم يُغسل الإناء الفخاري يومياً بقطعةٍ من الفخار أيضاً، ويوضع في أسفله رماد محروق حتى لا تنبعث منه روائح كريهة، تبيع سعدية الإناء الواحد بسعر مرتفع قد يصل إلى 1800 جنيه. 
يأتي يوم الكشك في العادة السبت أو الخميس أو يوم السوق في القرية، فلكل قرية يوم خاص بها يُعقد به السوق، في فجر يوم السوق تذهب الجدة من شراء اللحم الطازج الذي سيُطهى للرجال الذين سيجهزون عجين الكشك قبل تقطيعه، بشرط أن يكونوا أقوياء ولديهم القدرة على عجن أجزاء القمح باللبن بقوة بالغة.

بعد صلاة العصر تحضر فتيات العائلة إلى دارنا، ونجلس جميعاً على الأسطح نقطع عجين الكشك قطعاً صغيرة بنصف حجم قبضة اليد من الداخل ونصنعه في شكل دوائر، تشترط الجدة على الفتيات أن يغطين شعورهن حتى لا يتطاير الشعر في العجين، وأن يغسلن أيديهن، وأن يمنع دخول الذكور نهائياً حتى تجلس الفتيات على راحتهن.

غناء وقصص حب في ليلة الكشك

تدور أختي الصغيرة بين الفتيات وهي ترقص وعلى يديها تحمل العصائر والمشروبات للضيفات، وتوزع الحلوى ابتهاجاً بهذا اليوم، وتجلس الجدة وفي يدها العكاز، تغني أناشيد الأبنودي، ومنها:
"يا ابو اللابايش يا قصب عندنا فرح واتنصب
جابوا الفستان على قدها  نزلت تفرج عمها
قال يا حلاوة شعرها  تسلم عيون اللي خطب"
وتردد الفتيات خلفها، ربما ما من أغنية مخصصة لهذا اليوم لكنها كانت تغني كل أغاني الأعراس وكأنه يوم عرس.
كانت الجارة التي تريد تزويج ابنها تأتي يوم الكشك إلى بيتنا بدون دعوة لكي تختار عروساً له، إذ تراقب الفتاة التي تراها مناسبة وتختبر أسلوبها بالحديث معها، وربما قبل أن يجف عجين الكشك تأتي الجارة لدعوتنا لخطبة إبنها.

في فجر يوم السوق تذهب الجدة لشراء اللحم الطازج الذي سيُطهى للرجال الذين سيجهزون عجين الكشك قبل تقطيعه، بشرط أن يكونوا أقوياء ولديهم القدرة على عجن أجزاء القمح باللبن بقوة بالغة

تأخذ كل مجموعة فتيات جانباً، فمنهن من تتحدث عن الزواج وتجربة ممارسة الجنس فتحكي عن ليلة زفاف صديقتها، وأخريات يتحدثن عن وسائل منع الحمل ومن بينهن واحدة زوجها أقسم عليها بالطلاق ألا تضع أي وسيلة لمنع الحمل، لأن "كل طفل يأتي برزقه، ولن نحرم ما أحله الله" وأخرى تحلم بمولود ذكر مثل جارتها التي أنجبت ثلاثة ذكور واحداً تلو الآخر وهي لم تنجب أي ذكر وهو ما يضعها في حرج، أما المراهقات الصغيرات فيتظاهرن بالحديث عن المدرسة لكنهن يتحدثن عن قصص الغرام التي يغرقن بها ونظرات الحب والابتسامات المتبادلة بينهن وبين عشاقهن.
تقول نورا محسن لرصيف22 وهي من مدينة سمالوط، شمال المنيا، إنهم يقطعون عجين الكشك دون تدويره ويتركونه على الأسطح الخرسانية كي يجف لمدة أسبوع وبعدها يتم تخزينه، "احنا بنقطع الكشك زي أهل سوهاج لكن أهل جنوب المنيا بيعملوا الكشك زي أهل أسيوط".

صوامع الكشك

تصنع أمي صوامع تخزين الكشك منذ بداية فصل الصيف من الطين الأزرق، وهو الطين اللبن الذي تجلبه من إحدى الترع الصغيرة بالقرية أو القرى المجاورة، حيث تضيف للصومعة سوراً بارتفاع خمسة سنتمترات كل عدة أيام لإعطائه الوقت الكافي ليجف، وبنفس الطريقة تصنع "كوانين الطهي" أي موقد الطين الذي توضع فوقه الأواني الصغيرة، وتصنع أيضاً "طُباعة البتاو" وهي إسطوانة طينية متسعة بلا غطاء تشبه الصوامع لكنها أكثر اتساعاً، أما "البتاو" فهو أحد أنواع المخبوزات المصرية القديمة التي تصنع من الذرة الشامية ويضاف إليها غلال "الحلبة" المطحونة حتى لا تتعفن.

بعد أسبوع يجف عجين الكشك، وتبدأ أمي في تخزينه، فتضعه داخل الصوامع التي تثبتها في وجه الشمس فوق سطح المنزل، ويجب أن تغطي أشعة الشمس هذه الصوامع طوال النهار وإلا فإن الرطوبة والبرودة تتسببان في تعفن الكشك وتغير رائحته وطعمه.
تقول إسراء دياب، من أهالي مدينة المنيا، إن أسرتها لا تصنع الصوامع لتخزين الكشك بها وإنما ترى الكثير من هذه الصوامع داخل القرى، وتضيف أن الكثيرين لجأوا مؤخراً لاستبدال طرق تخزين الكشك بوسائل مختلفة مثل أن يضعوه في أكياس مصنوعة الكتان أو الصوف، بسبب تناقص تصنيع الصوامع.
توزع الجدة طبقاً من الكشك لكل بيت من بيوت الجيران والأقارب والأصدقاء، نتحدث هنا عن حوالي نصف بيوت القرية، فأحباؤها كثر بالرغم من تكلفة صناعته الباهظة، وهذه العادة لا تنقطع في كل عام، وليست جدتي وحدها من يفعلها، فكل الأحبة يقدمون للجدة أطباقاً أيضاً من كشكهم.

توزع الجدة طبقاً من الكشك لكل بيت من بيوت الجيران والأقارب والأصدقاء، نتحدث هنا عن حوالي نصف بيوت القرية، وهذه العادة لا تنقطع في كل عام

كانت هناك طريقة واحدة تعودت أن أتناول بها الكشك، وهي أن أضعه في ماء ساخن بعض الوقت ثم أتناوله مع الشاي، صباحاً كوجبة إفطار، عندما التحقت بالجامعة وجدت الزميلات يتحدثن عن طريقة عمل الكشك بالبيض ومرة أخرى بإضافة الزبدة الفلاحي إليه، وغيرها بإضافة الدقيق والشُربة والبصل وتسمى هذه الوصفة الكشك التركي، اللطيف أننا سنجد في كل مدينة طريقة مختلفة.
دائماً ما يأخذني الحنين إلى القرية والكشك والسهر بين النساء والاستماع لحكاياتهن أو حين يسألنني عن الفنانات اللواتي يظهرن في الأفلام والمسلسلات، وهل لكوني أعيش في القاهرة وأعمل في الصحافة فأنا على مقربة منهن؟ هل أتحدث معهن؟ هل يعرفن قريتنا ويرغبن في زيارتها؟ ولو كانت الأمنيات سهلة لكنت حققت كل أمنياتهن.



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image