حياكة الكلام
"يحيى.. أنت عيد ميلادك إمتى؟"
أؤمن أن هناك فارقاً دائماً بين الحقيقة والواقع، ربما لا يوجد إجابة واحدة صحيحة على هذا السؤال، لكن تتحدّد لدي بمدى شعوري بالقرب والمحبة من الشخص السائل، إذا كان موظفاً يسجل بيانات في مصلحة ما أو مقابلة عمل بالتأكيد سأقول له 10 أغسطس المسجّل في شهادة الميلاد، فهذه الحيرة الحميمية لا تولد في هذه المواقف، لكنها موجودة في سؤال الحبيبة أو الصديق/ة، هل أقول له/ا تاريخ ولادتي الحقيقي، الذي لا أعرفه بالتحديد بسبب تأخر تسجيلي في شهادة الميلاد؟ أعرف أنه يقع بين الثلث الثاني من شهر يوليو والثلث الأول من شهر أغسطس.
ربما سألت أبي أكثر من مرة واختلف رده، المرة الأولى كان في عمر ما بعد الطفولة وكنت أريد معلومة محددة غير مشوشة. ربما قال لي تاريخاً محدداً لا أتذكره، ومرة أخرى في عمر المراهقة، حيث هناك مساحة إعادة الاكتشاف والبحث في المعلومات الموروثة؛ فقال لي إنه لا يتذكره بالتحديد، ولكنه في تلك الفترة التي ذكرتها.
لا أعرف إن كان أبي حكيماً لتلك الدرجة، ويعرف أن الموضوع سيصبح بالنسبة لي أكثر من مجرد رقم على ورق، وإنما يشبه بحثاً عن ذاكرة وهوية مفقودة. لا أعرف إن كان قد نسي فعلاً أو ادعى النسيان، وهل بمنظوري هذا اهتمامه بي يكون بمجرد التذكّر؟ لا أعرف أيضاً إن كنت أريد تاريخ ميلادي بالتحديد أم أني بداخلي أشعر أن هناك أشياء تظل أجمل مادام يحيطها الغموض؟ ربما لهذا السبب لم أسأل أمي التي قد تمتلك ذاكرة أفضل.
****
"ماما هو مين يحيى ده... مش أنا اسمي (.....)؟".
كانت هذه الجملة الطبيعية لطفل في السادسة من العمر، تقدم له أمه في المدرسة الابتدائية، يتعرّف على نفسه باسم جديد. لم أكن أستوعب الأمر في البداية، فأنا لم أكد أتخطى معرفة ماهية الأسماء، فإذا تغير الاسم تغير الشخص، كيف يكون لي اسمان؟ هل بذلك صرت شخصين؟ هل تمزح أمي أم أنها كانت تخدعني طوال تلك الفترة، أم أن للمدرسة اسماً خاصاً بها؟
"ماما هو مين يحيى ده... مش أنا اسمي (.....)؟". لم أكن أستوعب أن لي اسمين في البداية، فأنا لم أكد أتخطى معرفة ماهية الأسماء، فإذا تغير الاسم تغير الشخص... مجاز
لم يكن هناك وقت للإجابة على كل هذه الأسئلة من أمي أمام موظفة شؤون الطلاب، فقطعتها بضحكة إحراج وإجابة موجهة للموظفة غير مكترثة بي: "أصل ده اسم الدلع بتاعه، وإحنا مش بنناديه بيحيى في البيت".
****
"يحيى" قال أبي: "هذا هو اسمك". ثم غاب في الممر اللولبي للسماء.
الحكاية قد تبدأ من خلاف بين الأب والأم على اسم مولودهم الثالث، تريد أمي تسميتي محمد وأبي يريد تسميتي يحيى، بعد فترة عشرين يوم، يأخذ أبي القرار منفرداً ويضعهم أمام الأمر الواقع. ربما كان الخلاف على الاسم تعبيراً عن خلافات كثيرة، وربما كان هذا القشة التي قسمت ظهر العلاقة وأدت للانفصال بعد أشهر قليلة من ولادتي.
هذا القرار النرجسي والمندفع من أبي هو الذي جعلني أحسب على برج الأسد، رغم أنه من الوارد أن أكون من برج السرطان أو خليطاً بينهما، والرواية الأخيرة الأكثر ترجيحاً أو تفضيلاً لي هي أني أقع فريسة بين البرجين، ومن محاسن الصدف أن تسمية البرجين خارج إطارهما يليق بهما الفريسة، فلأسد له فريسته والسرطان له فريسته، ولكن هذا تفسير سلبي، لكن التفسير الإيجابي هو أن السرطان يشبه أمي بينما الأسد يشبه أبي. ربما أراد أبي بصورة رمزية بجعلي أنتمي للأسد أن يقول لي: "أريدك أكثر شراسة لأني سأتركك في الغابة وعليك أن تفترس سرطانك قبل أن يفترسك". كأني ولدت على فطرة السرطان وقام أبي بتأسيدي.
مثلما صار لي اسمان صار لي شخصيتان أتأرجح بينهم، ربما أحسن استخدام الشخصية المناسبة أحياناً وأخرى أخفق، وفي مواقف نادرة أصالحهم كما لو أني أصالح أبي على أمي. السرطان يجعلني شاعراً أكتب ما أحب لأكون نفسي، والأسد يجعلني بائع كلام، أهتم بالرائج وما يرضي أغلب الناس بحسابات المكسب والخسارة. السرطان يصلح للحب الأفلاطوني غير المشروط، يعرف الإخلاص والتضحية، والأسد يصلح للعلاقات الدنجوانية العابرة. السرطان يحسن الإنصات ويتأمل بصمت، والأسد يحب الظهور وإبهار الآخر. السرطان يبكي بصدق والأسد يبتسم ابتسامة مزيفة. السرطان هاو يعمل بمزاج، والأسد محترف يهتم بكثرة الإنتاج. السرطان إنطوائي وله أصدقاء قليلون يملؤون عالمه الهادئ، والأسد اجتماعي، يحركه الصخب وأن يكون صديق الكل ليجتمعوا حوله.
"يحيى" قال أبي: "هذا هو اسمك". ثم غاب في الممر اللولبي للسماء... مجاز
ربما وصفي يدلّ أني بذلك أكره الأسد وأحب السرطان، لكن لا. هذا وصف مجرد وليس سبّاً، فالسرطان بعفويته يورّطني والأسد بحزمه ينقذني كما ينقذ الأخ الأكبر الأخ الأصغر.
****
كلما كبرت أشعر أني اقتربت في الشبه من أبي الأسد، وكلما نظرت في صورتي صغيراً أجد أني أشبه أمي السرطان. السرطان يعيدني لطفولتي كما يعيدني لحضن أمي، هو مثل اسم الدلع الذي لم أذكره في البداية، لأني رفضت أن أنادى به في عمر المراهقة وبداية إثبات الرجولة، لأني كنت أخشى من نظرة الناس بعدما صرت رجلاً وأنادي باسم كهذا في الشارع، بالتأكيد لن يأخدني أحد على محمل الجد، لكن ربما أحنّ لهذا الاسم في الأوقات الحميمية مع نفسي، وأنادي نفسي به، وربما أتذكر من أحب وأقول له: "هذا اسمي الحقيقي، أنت لا تعرفني جيداً يا صديقي. أنت تعرف ما أريدك أن تعرفه".
حتى في العلاقات العاطفية غير المكتملة، وربما السبب أني لم أسترح لأن تعرف إحداهن الاسم أو الشخصية كاملة، لكن عندما أجد الفتاة التي أستطيع أن أتعرّى معها كاملاً لأنها تهتم بالبراءة أكثر من الجاذبية، فستتعرف وحدها على هذا الاسم، وربما حينها أيضاً أعرف عيد ميلادي الحقيقي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...