شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
حفلات الوداع تهزم موسم الأعراس في صيف بيروت

حفلات الوداع تهزم موسم الأعراس في صيف بيروت

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والمشرّدون

الأحد 21 أغسطس 202210:27 ص

"لن يبقى أحدٌ هنا… حتى نحن"، قالها لي شريكي في منتصف سهرة وداع صديقنا المُهاجر إلى نيوزيلاندا بحثاً عن حياة جديدة. "لم أكن أعرف أن نيوزيلاندا وجهة هجرة للبنانيين!"، قلت لصديقي، فأجابني بأنها ليست كذلك، ولكنه "سيحاول".

سهرة واحدة اجتمع فيها حوالي ثلاثين صديقاً وصديقة، كثيرون منهم من المهاجرين سابقاً و"المطلّين" علينا صيفاً، والباقون بدون استثناءات تُذكر "مشاريع مهاجرين".

قمت بجولتي التفقدية لأطمئن على الجميع، فاكتشفت أن حفلة وداع الصديق هي في واقع الأمر حفلة وداع ثلاثة أصدقاء. صديق آخر سيرحل إلى كندا وثالث إلى إسبانيا.

صديقي المهاجر إلى كندا أربعيني وأب لولدين. يعمل في قطر منذ أكثر من عشر سنوات، ولكنه قرر الهجرة لأن لبنان لم يعد منزلاً تضمن عودتك الآمنة إليه وفي قطر "نعيش كل عمرنا زواراً" أخبرني بحزمِ مَن يريد إقناع نفسه بجدوى قراره.

كندا! هو خامس صديق أعرف هذا الأسبوع أنه سيهاجر إليها. نفس البشرى السارة عبّر عنها أربعة غيره: "وصلنا قبول طلب الهجرة إلى كندا".

كيف أصبحت كندا جزءاً من يومياتنا؟ كيف لقرار آتٍ إلينا من النصف الآخر من العالم، من تلك القارة اللعينة، أن يؤثر على حياتنا بهذا الشكل الوقح والحميمي؟

"لطالما غلبتني الخرائط. لم أنجح يوماً بحفظ مواقع الدول والمدن مع أنني خريجة علوم سياسية. ولكنني اليوم حفظت مواقع الدول التي تأوي أحبائي، حتى أنني صرت أحسب المسافات بينهم، والطرق الأنسب لزيارة العدد الأكبر منهم برحلة واحدة"

لطالما غلبتني الخرائط. لم أنجح يوماً بحفظ مواقع الدول والمدن مع أنني خريجة علوم سياسية. شيء ما في عقلي لا يتقبل الجغرافيا وتعقيداتها وينساها بعد ثوانٍ من قراءتها. ولكنني اليوم أرى نفسي متمرسة بخريطة الهجرة المستجدة. حفظت مواقع الدول التي تأوي أحبائي، حتى أنني صرت أحسب المسافات بينهم، والطرق الأنسب لزيارة العدد الأكبر منهم برحلة واحدة. ساعة ونصف تفصل نيويورك عن تورنتو. هكذا رسمتُ مساراً خيالياً لرحلة تجمعني بشخصين عزيزين متناسية حاجتي إلى تأشيرتيْ سفر ودولارات تموّل رحلتي.

كمعظم سكان لبنان، علاقتي مع هجرة الأحباب ليست مستجدة. فأنا الأخت الصغرى لثلاثة أشقاء وأخت، جميعهم تركوا البلد فور تخرجهم من الجامعة. بقيتُ هنا وحيدة بقوة الأمر الواقع أكثر من القرار. وجود إخوتي خارجاً خفّف الحاجة الاقتصادية لهجرتي، نظراً لقدرتهم على إعالة أهلي إنْ اقتضت الحاجة. بقيت وحدي. "ناطورة المفاتيح" صار لقبي من باب المزاح عندما يسألني الأقارب إذا كنت أنوي اللحاق بإخوتي. "ناطورة المفاتيح"! يا له من تصوير رومانسي لواقع مقيت حتى اللعيان. فالواقع ليس كمسرحيات الرحابنة التي تنتهي دوماً بغلبة الخير على الشر. هنا الشر مُنتصر ومتمركز في مكانه، حتى لو بقي وحيداً من دون شعب يعكّر صفو يومياته.

"هل نرحل فعلاً يوم نترك البلد، نحن مَن آمنا يوماً بقدرتنا على التغيير؟ هل نرحل؟ أو نترك أنفسنا هنا ونهرب لنحافظ على أجسادنا حالمين بالاجتماع مع أنفسنا يوماً ما في بلد يسمح لنا بالحياة؟ هل نرحل فعلاً؟ لا أعرف، ولكننا من المؤكد لن نبقى"

كان أسبوعي متعباً. فيه حفلات وداعٍ وعرس ودفن. هكذا هي بيروت، أستاذة التناقضات. نعيش فيها كل يوم حياة كاملة، ونستفيق في اليوم التالي جاهزين لحياة أخرى، في اختبار دائم لقدرتنا على التحمل.

هذه السنة، قرّرَت بيروت أن تهزم موسم الأعراس وتستبدله بموسم الوداعات، فطغى الاحتفال بالمغادرين على حفلات الزواج وتغيّر صيف لبنان. يمرّ هذا الفصل وكأنه مصرٌّ على ترك الأرض قاحلة من بعده. لا فصول جديدة ولا أياديَ تزرع وتحصد عن جديد، ومستنقعات وِحدةٍ تكبر وتتجذر.

"لن يبقى أحدٌ هنا... حتى نحن". أعيدها وأكررها وأصدّقها مرغمة. هل نرحل فعلاً يوم نترك البلد، نحن مَن آمنا يوماً بقدرتنا على التغيير؟ هل نرحل؟ أو نترك أنفسنا هنا ونهرب لنحافظ على أجسادنا حالمين بالاجتماع مع أنفسنا يوماً ما في بلد يسمح لنا بالحياة؟ هل نرحل فعلاً؟ لا أعرف، ولكننا من المؤكد لن نبقى.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard