شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
بين ضفاف الرمل وجسور الماء، فلنرسم الماندالا

بين ضفاف الرمل وجسور الماء، فلنرسم الماندالا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 18 أغسطس 202212:00 م

يقول أفلاطون في كتابه القوانين: "إنّنا دمى الإله وعلينا أن نلعب حياتنا بطريقة جيدة". لم يكن أفلاطون إلّا أول المحذّرين بأنّ الواقع الذي نحياه ما هو إلّا مجرد وهم. لقد عبّر عن هذه الفكرة بقصة الكهف واستفاض في شرحها، عندما بيّن بأنّ الواقع هو محاكاة مزيفة لما هو حقيقي. لكن بعيداً عن التفسير الميتافيزيقي لمقولة أفلاطون والتي يجب قراءتها وفق اللحظة التاريخية التي قالها فيها. لقد كانت أثينا مهزومة من قبل إسبارطة، وإن كانت هذه الهزيمة قدرية، لكنّها مزيّفة، فالواقع التاريخي مجّد أثينا لا إسبارطة.

العب اللعبة

ترك لنا أفلاطون فسحة للأمل تتمظهر في عالم المثل، وذلك بأن نخرج من ذلك الكهف إلى ضياء الحقيقة، لكن مع رواية "ماندالا" للروائي الأردني مخلد بركات، الصادرة عن دار الأهلية، يبدو الأمل معبراً عنه بأعظم مخاوف الإنسان، ألا وهو الفناء التام كنجاة نهائية من الخيوط القدرية التي تحكم حيوات البشر، أسواء كان ذلك في الواقع المزيف، أم في عالم المثل/ ما بعد الموت، فهل يعني ذلك أنّه لا إمكانية لنا أن نلعب حياتنا بطريقة جيدة؟

لقد ذكر هيدغر في كتابه "مبدأ السبب" بأنّ الترجمة الأصح لمقولة الفيلسوف ليبنتز: "وجِد العالم بينما كان الإله يحسب"؛ هي: "وجِد العالم بينما كان الإله يلعب". هل يحسب تعني يلعب، أم أن هيدغر وهو الشاهد على عنف الإنسان في القرن العشرين يدعونا لأن نخفّف من جدية نظرتنا إلى قدرية سياقات هذا الكون، فهذه اللعبة التي يخوض غمارها الإنسان، والتي لا ترى في اللاعبين إلّا مجرد دمى المسرح الأوديبي، حيث لا نجاة من خيوط القدر، حتى لو تم قطعها، كما فعل أوديب عندما سمل عينيه، فاللعبة مستمرة وفق خيوط أخرى تمسك الدمى من أرواحها. ولذلك لا حلّ إلّا بأن نلاعب اللاعب الأكبر بما يظن أنّه يحكمنا من خلاله، أي بالحياة والموت، وذلك بأن نجعلهما طوع إرادتنا. ولنضع مقابل مرآة القدرية مرآة الاحتمالية، حيث تصبح الغايات كلمة في جملة نكتبها نحن، لا أحد آخر.  

مع رواية "ماندالا" للروائي الأردني مخلد بركات يبدو الأمل معبرًا عنه بأعظم مخاوف الإنسان، ألا وهو الفناء التام كنجاة نهائية من الخيوط القدرية التي تحكم حيوات البشر

يعلن شكسبير بأنّ المسرحية هي كل شيء، لا شيء خارجها. هذا المعنى جاء ما يشبهه على لسان ميساء إسحق، تلك الأنثى التي سلبت عقل الدكتور صلاح العوّاد المختصّ في علم النفس، والذي كان في خضم محاضرة بعنوان "تفكيك الشخصية العربية المهزومة من منظور علم النفس". أدخلت ميساء الدكتور صلاح في مرايا لعبة ماندالا هي سيدتها، معلنة زمن الفضيحة، فالرمل هو مرآة في النهاية، والمرآة سراب في خاتمة الغايات، والسراب ماء يولد منه اللاعبون من حبر راوٍ عليم بكل شيء، هكذا صوّرته ميساء في ذهن صلاح العوّاد، لكن لماذا أشار الراوي العليم الذي له هيئة قزم إلى سحابة قطنية عندما جاء صلاح إلى ميعاد اللقاء مع ميساء، ولم يجدها في شارع الملك فيصل، قرب نصب دلّة القهوة العربية في العاصمة عمّان! هل كان يحذّره من ميساء، أم يورطه أكثر باقتفاء الأثر وهو ابن الصحراء؟

ذكر هيدغر في كتابه أنّ الترجمة الأصح لمقولة الفيلسوف ليبنتز: "وجِد العالم بينما كان الإله يحسب"؛ هي: "وجِد العالم بينما كان الإله يلعب"

أليس الدكتور صلاح سليل الأعراب الأوغاد الذين خرجوا من رمل الصحراء وغيّروا مرايا العالم ورسموا ماندالاتهم الخاصة؟ فما الذي حدث حتى هزموا أمام الصهاينة؟ كأن يغرق صلاح في مقتبل عمره في بئر رومانية في عام 1967 أو تقتله رصاصتان في العنق بسبب انتسابه إلى الحزب الشيوعي، في معتقل مبنيّ في صحراء كأنّه ساعة رملية من خليج الرمل إلى محيط الرمل.

الماندالا نوايا الرمل والماء  

تسرد الرواية حيوات عدّة أشخاص عبر انعكاسات مرايا عديدة، فمن صلاح، البدوي الشيوعي الأردني الدكتور في علم النفس، إلى يحيى التنوري، الشاعر المندائي العراقي حفيد المتنبي، إلى عبد السلام العياشي، الثوري المغربي الذي قاتل عن فلسطين في بيروت، إلى شوكت الضبع، المسيحي صديق السلاح مع العياشي في الدفاع عن ست الدنيا، إلى هدية البصري التي قُتل أبوها البعثي الذي رفض دخول العراق إلى الكويت، فاغتيل من رفاقه في الحزب، إلى صيته، ابنة عم صلاح من عمّه مجحم العسكري الذي عاد من هزيمة حزيران وأيامها الستة شهيداً.

هذا السرد يقابل بمرآة ميساء التي تكشف لصلاح سرابية هذه الحكايات، فيحيى ليس إلّا عميلاً سهّل للأمريكان دخول بغداد، والعياشي ليس إلّا داعشيّاً في بلاد الشام، مبدِع حرق الأسرى في الأقفاص، وشوكت الضبع ليس إلّا سارقاً، وهدية ليست إلّا ابنة ذلك البعثي الذي قتله يحيى التنوري الذي بدّل بندقية قلمه من الكتف الشيوعي إلى الكتف البعثي، أمّا صيته، فليست إلّا أخت صلاح من أبيه بعدما جبّ عقم أخيه مجحم.

هل انتهى تعاكس المرايا بين صلاح وميساء؟ أبداً فالمرايا انعكاساتها تمتد إلى الأبد، حيث صلاح كان نزيل معتقل في صحراء تم تصفيته فيه، ودفن في زاوية زنزانة عبد السلام. ذلك الثوري الأخير الذي شعر بحجم المؤامرة عندما أدرك أنّ السفينة التي أقلّت الثوار الفلسطينيين إلى تونس ليست سفينة نوح، فلم يبق له إلّا أن ينتظر تلك الخيول البيضاء التي عقد النصر بأعرافها، والتي أخرجت للنبي إسماعيل وستعود في آخر الزمان.

وليس المندائي إلّا شاعراً شيوعيّاً صار بعثيّاً بقدرية التاريخ، وتزوج من هدية البصري قبل أن يقتل رفاق الدرب أباها، ليكتشف أنّها خنثى، فلا يضنّ بها، فينجوان عبر تمثيل لقاء شاعر بأنثى محجبة على ضفاف دجلة، هي تقصّ له حكاية مقتل أبيها، وهو يروي شغفه وشغفها بين ذكر وأنثى عندما عارضتهما البيولوجيا باستثناءاتها. فيما ينتهي شوكت الذي قبض على ضبع وقيّده بحزامه  وجرّه إلى معسكر الفدائيين تعبيراً عن رغبته بالقبض على كل الضباع التي تهدّد بيروت، إلى أن يكون نزيل كرسي متحرّك، تستجدي زوجته المال من أجل دوائه.

تتكاثر المرايا كحبات الرمل في رواية "ماندالا"، فالموتى أحياء، والأحياء موتى، والموت مرآة الحياة، والحياة رمل الموت

تتكاثر المرايا كحبات الرمل في الرواية، فالموتى أحياء، والأحياء موتى، والموت مرآة الحياة، والحياة رمل الموت؛ هكذا تقود ميساء صلاح في الماندالا التي تتجلّى بأشكال عديدة كالنجمة السداسية الموشومة على جسدها، لتكشف له عن ست لوحات لشخصيات الرواية وست غرف تكشف فيها أسرارهم، وأمام باب كل غرفة تضاجع ميساء صلاح لتنجب منه ستة أطفال، وكأنّهم الأيام الستة للهزيمة، وكل ذلك يتدفّق من حبر القزم الراوي العليم الذي تقود ميساء قطاره المليء بالركّاب إلى معتقل آخر. لكن من هي ميساء: إنّها ميساء اتسحاق مردخاي، من يهود الدونمة الذين حاولوا أن يقنعوا السلطان عبد الحميد أن يعطيهم فلسطين.

هل بذلك وصلنا إلى الذروة السردية حيث تتفكّك الانعكاسات إلى رمل وضوء، لن يكون ذلك متاحاً قبل أن نملك المفاتيح التي وردت على لسان الشخصيات، كيلا تكون نهايتنا الفجائعية مثل صلاح، الذي لم يكن له من حل أمام ديكتاتورية الراوي العليم إلّا بأن يهرب من قطار السرد إلى موته الحقيقي، لكي يخرج من اللعبة السردية التي تنحت تاريخ المنطقة في ظلمة أقبية المعتقلات والهزائم المتكرّرة أمام عدو استحوذ على صناعة البورتريهات، فشكّلها كما يريد، فالثوري يصبح داعشيّاً بموجب قوة من يملك الخطوط والألوان، فيما يغدو الشيوعي بعثيّاً بسطوة الريشة وإطار اللوحات.

تبدو الإجابة التي تطرحها رواية "ماندالا" بأنّنا حتى نلعب أدوارنا بشكل جيد في الحياة، لا بدّ أن نثور على السرديات المتقيّن منها والمتشكّك بها في تاريخ المنطقة

ليس عنوان الرواية إلّا مفتاحاً لبنيتها السردية، فالماندالا تمثّل رسماً تجريدياً عن الكون والتي اعتبرها يونغ وسيلة لكشف الوعي الجمعي واللاشعور وتأخذ أشكالاً عديدة. كانت الماندالا تعتبر وسيلة لدفع السحر أو الوهم عن عين الناظر إلى واقع هو محاكاة زائفة للحقيقة. وهذا ما تلعبه رواية مخلد بركات، فهي ماندالا سردية على القارئ أن يلوّن أشكالها، أي أن يفكّ الرموز التي نشرها الروائي على ألسنة شخصياتها وألّا يكون كميساء التي ارتهنت عن وعي لتلك اللعبة الجهنمية التي يخطّها القزم، لتكون ضحية لسرد تاريخ متوهّم عن أرض الميعاد، فتصنع من سرابه يقين الوهم.  

 لم تكن ميساء اتسحاق مردخاي ضنينة بالأسرار على صلاح، وكأنّها لم تعد تخشى شيئاً، فاللعبة السردية لتاريخ المنطقة أصبحت فضيحة لا تستر عوراتها بالأسرار، فلقد أسرّت له بكل تفاصيل اللعبة التي لا فكاك منها، حتى وهو يرى أطفاله منها يساقون إلى ذات المعتقل الذي ضمّه مع العياشي ويحيى، هكذا شعر صلاح بأنّه لا جدوى حتى من البكاء بين يدي زرقاء اليمامة.  

أنتَ إنسان حرّ، فاقطع خيوط الدمى

كان القطار الذي تقوده ميساء يشقّ رمل الصحراء إلى معتقل ماورائي، يجلس بجانبها القزم الذي ما فتئ يكتب الماضي والحاضر والمستقبل في هذه المنطقة، أليست هزيمة حزيران هي الحبر الديكتاتوري والاستعماري الذي يخطّ في اللوح المشطور إلى رمل وماء جغرافيا الموت في هذه البلاد، التي تمتدّ بشكل أفقي كساعة رملية، لا يتحرّك فيها الزمن، ولا الرجاء؟

لنكسر الخشبة التي سنمثّل أدوارنا عليها ومن ثم نصلب، ولنهدم المسرح، ولنرمي المخرج في كواليس جنونه، ولنخرج إلى الضياء، فلن يخسر الموتى غير الدود في قبورهم

كان أوديب شجاعاً عندما قطّع خيوطه/ سمل عينيه. وكان صلاح شجاعاً عندما هرب إلى موته الحقيقي، لكن مَن سيقتل ذلك القزم الذي يتحكّم عبر سواد حبره ببياض الأنفس البشرية ويحولّها إلى ليل معتقل في زنازين، ليس أولها سجون الأنظمة العربية، وليس آخرها غوانتانامو وسجن أبو غريب؟

تبدو الإجابة التي تطرحها الرواية، بأنّنا حتى نلعب أدوارنا بشكل جيد في الحياة لا بدّ أن نثور على السرديات المتقيّن منها والمتشكّك بها في تاريخ المنطقة. إذن لنكسر الخشبة التي سنمثّل أدوارنا عليها ومن ثم نصلب، ولنهدم المسرح، ولنرمِ المخرج في كواليس جنونه، ولنخرج إلى الضياء، فلن يخسر الموتى غير الدود في قبورهم. لكن إنْ خرجوا إلى الضياء، فهناك احتمالية أن تتحوّل الديدان إلى فراشات، فأجمل ما في هذه اللعبة الكونية ليس القدرية، بل إمكانية أن نكون قادرين على خلق موتنا وحياتنا سواء بسواء.

وكأنّنا في جلسة تحليل نفسي حيث نسمح للمكبوت الذي يتحكّم في ماضينا وحاضرنا أن يخرج إلى العلن بخيره وشره، فليس من عورة نخجل منها غير أن نترك مستقبلنا بيد لعبة جهنمية، لا رمل لنا فيها ولا ماء، ألهذا أشار السارد الأكبر إلى تلك الغيمة المتمثّلة بميساء، وكأنّه يقول لصلاح بأن ميساء قد تماهت مع اللعبة، فثرْ أنت، وحرّرني من قيد قدريتي وامنحني ألوهية الاحتمالات؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image