شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
في موزمبيق، بائعة عطور أخبرتني بالبرتغالية أنّ أصولها عُمانية

في موزمبيق، بائعة عطور أخبرتني بالبرتغالية أنّ أصولها عُمانية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتاريخ

الخميس 1 سبتمبر 202205:31 م

هي "الأندلس المنسية"، تقع في قارة، قد لا تكون أرض الأحلام، فهي ليست أمريكا، ولكنها أرض الخير، السمراء، تعاقب عليها غُزاة، طمعاً في خيراتها، وآخرون طمحوا في تطويرها، والتأثير عليها.

موزمبيق.

في ثلاثية "جزر القرنفل"، "ماليندي"، "عروس القمر"، تناول الروائي اللبناني محمد طرزي صراع الأمم على تلك البقعة من العالم، والحلم الأفريقي الضائع. كان لتلك الروايات وقع آخر، وهي تبرز الدور العماني والعربي في نهضة البلاد التي لا تنتهي الكتابة عنها، وكأن هناك سحراً يشدنا دوماً نحوها، ليتابع الكاتب رحلته الأفريقية برواية "أفريقيا-أناس ليسوا مثلنا".

عاد طرزي من شرق أفريقيا بكنوز عربية أهّلته للسرد والخيال الروائيين، وأهّلت روايته "جزر القرنفل" إلى اللائحة الطويلة في جائزة الشيخ زايد، كما حصدت جائزة غسان كنفاني عام 2017، وفازت رواية "نوستالجيا"' بجائزة بكار توفيق للرواية عام 2018.

اسم "موزمبيق"

موزمبيق، هذا البلد الأفريقي المرتبط لدينا بالطرافة، يرى طرزي أن اسمه (موزمبيق) قد يكون "مشتقة من كلمتين مألوفتين في العربية، (موسى) و(بيك)، وهو اسم المؤسس الأول لهذا الكيان".

سافر طرزي إلى موزمبيق بهدف العمل، موظّفاً في شركة، كان ذلك في عام 2007. يقول لنا عن تلك المرحلة: "لم أملك ترف اختيار البلد الذي سأعمل فيه. بطبيعة الحال، يتأثّر المرء بالأمكنة التي يعيش فيها، ويصبح جزءاً منها، فيكون نتاجه الأدبيّ أو الفنيّ بشكل عام انعكاساً لتلك الأمكنة".

منذ وصوله إلى موزمبيق لاحظ طرزي الحضور التاريخيّ العربيّ (والعماني تحديداً) الخجِل بعض الشيء في الشرق الإفريقي، فظنه منسياً، أو شبه منسي: "لم تكن لديّ فكرة عن ذلك الحضور العمانيّ المديد في شرق إفريقيا، قبل أن ألتقي بائعة عطور في مابوتو (عاصمة موزمبيق)، أخبرتني بالبرتغالية أنّها من أصول عمانيّة، وأنّ أجدادها وصلوا إلى إفريقيا منذ قرون بعيدة"، يقول طرزي.

"أثار قولها فضولي، تتبّعتُ خيط الحكاية، حتى وجدتُني في زنجبار، فكانت "جزر القرنفل".

أصول عمانية

آلاف السنين، عمر الحضور العماني شرق إفريقيا. التقى طرزي بأفارقة من أصول عمانية ويمنية، فيقول: "وجدتهم جزءاً من النسيج الإفريقي، مندمجين مع سكان الساحل الشرقيّ، الذين هم مزيج من الهنود والزنوج والعرب والشيرازيين".

أغلب من التقى بهم كانوا يعتزّون بجذورهم العربيّة، لكنّهم ينسبون أنفسهم إلى البلدان التي يقيمون فيها، بحسب طرزي. يضيف: "لعلك تابعتَ تصريحات الروائيّ التنزانيّ قرنح عقب فوزه بجائزة نوبل، إذ قال ما معناه أنه يعتزّ بجذوره العربية، لكنّه يرى نفسه زنجبارياً".

"يعتز بجذوره العربية، ولكنه يرى نفسه زنجبارياً"؛ "التقيت ببائعة ورد، أخبرتني بالبرتغالية أنها من أصول عمانية"... شخصيات من أصول عربية في مناطق شرق إفريقيا حكمها عرب

تناولت رواية "جزر القرنفل"، فترة حكم العماني الإمام سعيد بن سلطان في زنجبار منذ 1840، وكشفت العديد من الجوانب التاريخية للشخصية، ومن أهم المواضيع التي تطرقت لها هي الرق أو العبودية التي يلصقها الإنكليز بالعرب، وحاولت بشكل ما تبرئتهم من تلك التهمة، وإيضاح الفرق بين شكل العبودية في الشرق والغرب، وجاء على لسان إحدى الشخصيات، وهي تصف الإنكليز قائلة: "استبدلوا عبودية المزارع بعبودية المصانع واستبداد الإقطاع باستبداد رأس المال".

يعلق طرزي على تلك الجملة: "الغاية من تلك العبارة الحوارية هي التأكيد على رفض التهم النمطيّة، سواءً وجّهت للعرب أو لغير العرب، وفي موضوع النخاسة تحديداً، يتبيّن من بعض المراجع أنّ أهم تجار العبيد كانوا زنوجاً، تاجروا بأسرى قبائلهم".

بن ماجد 

حاول طرزي من خلال رواية "ماليندي" إنصاف أحمد بن ماجد الذي أدرجته اليونسكو كشخصية عمانية تاريخية ومؤثرة، وتبرير تعاونه مع فاسكو دي جاما، والبرتغاليين في اكتشاف الطريق الجديد، الذي يقود أوروبا مباشرةً إلى الهند.

يقول طرزي: "لنا، نحن العرب، أن نزهو بابن ماجد، سواءً تعاون مع فاسكو دي جاما أو لم يتعاون. إنه ملاح العرب الفذّ، وعلينا أن ننظر إلى مغامراته وعلومه البحريّة نظرة البرتغاليين إلى دي جاما، ونظرة الجنويين أو الإسبان لكولومبوس، غير أنّ البعض منّا يهوى تشويه الأيقونات، وتلطيخها بالخيانة".

وحول المراجع التي اعتمدها في نظرته لتاريخ ابن ماجد، يستفيض طرزي: "ذكرتُ في متن الرواية أسماء الباحثين الذين تصدّوا للتهم التي سيقت بحق ابن ماجد، أمثال عبد الهادي التازي، إبراهيم الخوري، والشيخ سلطان القاسمي، ولكن نحن بصدد رواية في التخيّل التاريخي، وبالتالي ليس للكاتب أن يغوص في المراجع، ويجري أبحاثاً معقّدة، كي يتبنّى بعدها الرأي المسند أو الأقوى علمياً".

 "لنا، نحن العرب، أن نزهو بابن ماجد، سواءً تعاون مع فاسكو دي جاما أو لم يتعاون. إنه ملاح العرب الفذّ، وعلينا أن ننظر إلى مغامراته وعلومه البحريّة نظرة الإسبان لكولومبوس"

"إنني، في الرواية التاريخية، منحاز إلى الرأي الأقرب إلى نفسي أولاً، ومن ثمّ إلى ذلك الذي يخدم الحبكة الروائية، فقط تبنّيت في رواية (رسالة النور) الرأي العلمي الأضعف، ونسبت بعض رسائل إخوان الصفاء إلى ابن المقفع".

قبل عدة سنوات، في عام 2017، انتشل حطام ومقتنيات سفينة برتغالية يطلق عليها "إزميرالدا" من سواحل عمان، يقال إنها كانت جزءاً من أسطول يقوده المستكشف البرتغالي فاسكو دي جاما.

لم يكن استعماراً... "استعمار" فينيقيو لبنان لعمان، و"استعمار" عمان العربية لشرق إفريقيا، وكما كنا نتحدث الآرامية في الماضي، نتكلم بالعربية اليوم... من أفكار ورؤى الروائي اللبناني محمد طرزي

تساءلت أمام طرزي كروائي: يا ترى أي سيناريو يمكن أن يُرسم لغرق هذه السفينة؟ فأجاب: "اكتشاف كهذا من شأنه أن يستثير بالفعل مخيّلة الكاتب، فيعمد بعدها إلى الإحاطة بزمان الحدث وظروفه. لو لم أكن قد كتبتُ (ماليندي)، فإن اكتشافاً كهذا ربما كان ليدفعني إلى كتابتها".

ويندهش طرزي من تغييب التاريخ العمانيّ في شرق إفريقيا، خاصة أنه "بتقديري لم يكن تاريخاً استعمارياً، فالكيان السياسي للسلطنة في إفريقيا ظهر بعد هجرات الشعوب المختلفة إليها، كما أن كتب التاريخ تشير إلى تصدي العرب والزنجيين والهنود جنباً إلى جنب للمستعمر الغربي، بمعنى آخر، تاريخ السلطنة في شرق إفريقيا، قد لا يختلف عن تاريخ فينيقيي صور اللبنانية في صور العمانية".

التاريخ حب الروائي

يقول الكاتب السوري ممدوح عدوان، عندما تلجأ في المسرح للتاريخ تصبح أكثر قسوة وحدّة ووضوحاً، وليس بالضرورة أكثر هروباً.

ينفي طرزي أن يكون لجوؤه للتاريخ هرباً، فهو يعتبره حباً، ويقول: "هو حبّ للرواية التاريخية نفسها، أيّ من باب الاهتمام بهذا النمط الأدبي الذي عرف رواجاً في مرحلة معينة، فضلًا عن أن مقاربة المشهد التاريخي بعد اكتماله، تجعل من الإسقاط الرمزيّ والسياسي أكثر قوة وأشدّ تعبيراً".

في "عروس القمر"، تحدث طرزي عن الصراع الفرنسي والإنكليزي والعماني على جزر القمر، وتناول شخصية السلطانة جُومبيه فاطمة، وحاول تبرير الكثير من أفعالها المثيرة للجدل، وكيف ثار عليها شعبها بعدما استبدلت العلم العماني، فشعر وكأن التاريخ ظلم بعضاً من شخصياته.

يقول لنا طرزي، مشدداً: "التاريخ بطبعه ظالم يا صديقي، يحاكم الشخصيات بالاستناد إلى عناوين عريضة، من دون الالتفات إلى التفاصيل الصغيرة التي أعُدُّها الحياةَ الحقيقية للإنسان".

"ما تفعله الرواية التاريخية هو الاستعانة بالخيال لملء تلك الفراغات، مع تسليمها بالعناوين العريضة، تلك التي تضعها الحقيقة التاريخية متراساً إسمنتياً لا يمكن تجاوزه".

يحب طرزي التاريخ، ويشيد بما فعلته عمان فيه، فهو "الأغنى تاريخياً في المنطقة العربية، فعمان، كما تشير الاكتشافات الأثرية، كيان سياسي موغل في القدم. وقد يجيء يوم أخرج فيه من الاهتمام بعمان إفريقيا إلى عمان الجزيرة".

عمانيو أفريقيا فينيقيو لبنان

هناك تاريخ مشترك بين عمان ولبنان، يبدأ من استعمار الفينيقيين لمدينة صور العمانية، التي ستصبح من أهم مراكز صناعة السفن في شبه الجزيرة العربية، وصولاً إلى مملكة تنوخ.

يرفض طرزي استخدام كلمة "استعمار"، فيقول: "لعله لم يكن استعماراً، ولا أخاله كان كذلك، فينيقيو صور اللبنانية (وهي مدينتي) استوطنوا صور العمانيّة، كما استوطنوا قرطاج، كما عبروا إلى أوروبا. دخلوها روّادَ حضارة، وصانعي سفن، في جيوبهم صدف الأرجوان، وفي صُررهم الأبجدية. جمعتنا كذلك اللغة الآرامية على ما أظن، كما تجمعنا اليوم العربية".

لا ينظر سكان شرق أفريقيا "نظرة موحّدة تجاه العرب"، بحسب طرزي، "أولاً لأن لا هُوية موحّدة للشعوب العربية، وثانياً لأن دول الشرق الإفريقي متعددة اليوم، ولكل شعب من شعوب تلك الدول تجربته الخاصة في هذا الشأن".

ولكن، تاريخياً، هل يعتبر السكان هناك الوجودَ العربي فترةَ الازدهار في ماضيه، أم ثمة آخرون؟

"لن أدعي معرفة في هذا الأمر. ما أستطيع قوله إن زنجبار عرفت ازدهاراً اقتصادياً لافتاً خلال حقبة السلطان سعيد بن سلطان، كذلك شهدت إمارتا ماليندي وممباسا العربيتان رخاءً بارزاً، أشار إليه حتى الرحالة الشهير ابن بطوطة". 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ماضينا كما يُقدَّم لنا ليس أحداثاً وَقَعَت في زمنٍ انقضى، بل هو مجموعة عناصر تجمّعت من أزمنة فائتة ولا تزال حيّةًً وتتحكم بحاضرنا وتعيقنا أحياناً عن التطلّع إلى مستقبل مختلف. نسعى باستمرار، كأكبر مؤسسة إعلامية مستقلة في المنطقة، إلى كسر حلقة هيمنة الأسلاف وتقديم تاريخنا وتراثنا بعين لا تخاف من نقد ما اختُلِق من روايات و"وقائع". لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. ساعدونا. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image