لم يقل فيليبي ولو كلمة واحدة، وانضمّتْ بالوما إليه في معاهدة البكم. كنا قد تناولنا شؤون الآباء والأمهات الميّتين، والطوارئ المناخية، وبينما أقضم سادس أظافري أو السابع، لجأتُ إلى ملاذي الأخير، إذ سألتُ بالوما وندمتُ في تلك اللحظة، في الوقت نفسه الذي أفلت فيه من فيليبي خليطٌ من التثاؤب والضحك: «لماذا لم تعد أمّكِ من المنفى؟».
بدا لي صوتي فظّاً. ثمّة صوتٌ آخر ظلَّ يضغط على فمي لينفتح: «هيّا، أسرع، يا إيكي استمرّي!». كان سؤالي الدخيل هذا -الذي سيقود بالتأكيد نحو إجابة تمثّل مفتاحاً لحلّ لغز- قادماً مباشرة من دفتر أمي، لكنها ليست موجودة الآن وغير قادرة على سماعي. ستظلّ تتأمل صورها المطبوعة بالأبيض والأسود، وتكنس الموت من على عتبتها في كل صباح، مع رنين الهاتف الذي لن يتوقّف طيلة أيام. أفلت فيليبي شيئاً يبدو كزمجرة، ثم التفتَ نحوي، وزفر نفَسَه المتشبّع برائحة الكحول في وجهي وقال: «كفاكِ يا إيكيلا! لِمَ أنتِ مملّة هكذا؟!»، ثم أضاء نور السقف، وعيناه تكتسيان بالحمرة من فرط الغضب. «أيّ خراء يهمّك بخصوص عدم عودة العجوز إلى تشيلي؟ هل هذه هي طريقتك المُثلى لتُغازلي الشقراء؟!».
قال هذه العبارة، كأنه يبصقها، لينكث العهد القديم الذي في الواقع سبق أن نكثه وتخلّى عنه -كما قلت في نفسي- ليتركني وحيدة مع كلّ هذه الأمور؛ مع ثقل هذه الأمور.
جلسَتْ بالوما، وصَبّتْ لنا مزيداً من البيسكو، واقترحَتْ أن نهدأ. الأمر ليس جَمّاً. تحدّثَتْ بهدوء، كأن اليومَين اللذين قضتهما معي كافيين لتُخمّن أنني لن أدخُل أبداً في جدال مع فيليبي.
مدّتْ إلينا الكوبين بمرح. كانت تستمتع بالأمر.
رواية "حاصل الطرح" لـ أليا ترابوكو ثيرانن، ترجمة محمد الفولي صدرت عن دار سرد ودار ممدوح عدوان، الرواية عن الماضي الذي لم يمضِ، وعن الإرث العائلي المظلم لأبناء من عاشوا في ظل ديكتاتورية بينوشيه
تمكّنتُ من رؤية عُلوّ الوساطة في عينيها؛ هذه الحيادية التي لا تطاق. قالت: «من الأفضل أن نشرب نخباً. نقول بالألمانية Prost. هذا صحيح. Prost. المسألة لا تستحقّ العناء!»، لكن بالوما لم تكن تعرف عن أي عناء نتحدّث أنا وفيليبي، ولهذا استَمْرَرْتُ في الشجَار معه، لأن هذا العناء يستحقّ الكثير، خاصة في وجودها.
لهذا أجبتُ سريعاً، ومن دون تفكير: «ارحمني يا فيليبي! أنت على وجه الخصوص، ارحمني!»، وكلّ واحدة من مقاطع كلماتي تحرق الندبة المفتوحة في يدي. قلت له إن رؤيته بدفاتره هذه أمر مثير للشفقة، وإنه من المؤكّد أن بالوما ليست سعيدة على وجه الخصوص بهذيانه حول الموتى، وإنه من الأفضل أن يذهب إلى الخارج ليتجوّل. (جولة طويلة بعينين مغمضتين في هذا الليل الذي ما من فارق لو فتح عينيه فيه). لم يردّ فيليبي أصلاً، إذ فتح الباب الخلفي ونزل ضاحكاً، وصوت ضحكاته كأنها قهقهة معدنية وسط مسرحٍ خاوٍ.
غيّرتْ بالوما الموضوع من دون أن تولي الشجار اهتماماً كبيراً، أو بعد أن استقرّت بنفسها في أقصى درجات عدم الاهتمام المطلق، وبدأت تحكي لي قصة أمها بالصورة نفسها التي أكلَتْ بها أوراق الخرشوف؛ بطريقة منهجية وروتينية. انتبهتُ إلى ما تقوله بمشقّة. جعلتني بَغْضَاءُ فيليبي السابقة، وألمه، وغضبي، وصورة أمي وهي تسقي الزرع والأسئلة المتكلّفة (هل لدينا حقاً أسئلة أخرى؟ هل تساقطت الأرمدة حقاً في طفولتي؟) جعلتني أشعر بكوني وحيدة أكثر من أي وقت مضى. كانت أصابع بالوما تمضي في طريقها فوق ذراعي، لكنني لم أنتبه إليها، إلا حينما أزعجتني وشعرتُ بها تثير غضبي.
قالت: «استرخي!».
"رقدَتْ على ظهرها فوق الأرض وَدَعَتْني إلى فعل المثل. بدا لي صوتها لذيذاً، لكن في الوقت نفسه بعيداً. كانت عبارة: (ارقدي إلى جواري، يا إيكيلا، لنسترخِ!) رسميةً أكثر من اللازم، لكن بعدها جاء أمر آخر، بنبرة أخرى، أكثر امتلاء بالرغبة ليطرد إحباطي، إذ قالت: (تَعَرَّي!)- أليا ترابوكو ثيران"
جلست بالوما على ركبتيها، قرّبت وجهها من النافذة الخلفية، ممسكةً يدي، ودعتني إلى النظر منها. على الجانب الآخر، امتدّتْ مساحة مظلمة، وبعدها، ظهرت نقطة صغيرة حمراء متعرّجة تبتعد عنا. إنها شعلةُ سيجارة فيليبي التي تمازجت مع وجهينا فوق الزجاج. وَدّتْ بالوما أن تعرف لِمَ فيليبي على هذه الحال. هكذا كان سؤالها بالضبط، لكنّ كلّ الإجابات هجرتني.
سألتها: «أيّ حال؟»، فقالت: «الأمر غير مهمّ». إنها محقّة. الأمر غير مهمّ. لا في هذه الليلة، ولا مع هذا الصمت الطويل الذي لم أملأه هذه المرة بالكلام، فقد اقتربت منها وأسندت يدي وراء رقبتها. (ها هو ذا تمسيد الجسد من الخارج إلى الداخل. الجفون الداخلية. القرنية. ثنايا الجلد). أبقيت أصابعي بتوتّر، ورغم ذلك ظلّت ثابتة بلا حراك، إلى أن لاحظتُ نبضها يتسارع تحت جلدها المكتسي بالعرق.
لم أحرّك يدي. بحثتُ عن انعكاسها في النافذة، فانصبغت عيناها بزرقة الوديان. إنها السماء الزرقاء مرّة أخرى، لكنها ما لبثت أن غامت في رمشة عين. التفتَتْ بالوما في اتجاهي وقرّبتْ مني وجهها، لكنها ابتعدت على الفور، ثم تحسّستْ الأرض من حولها، وساقاها تكادان تلامسان ساقيّ، إلى أن عثرَتْ على أحد الأكواب، فرفعته قُرب شفتيها، مالت برأسها إلى الوراء، وحينما شربت آخر جرعة من الـ«بيسكو»، مدّت يدها وأطفأت النور.
رقدَتْ على ظهرها فوق الأرض وَدَعَتْني إلى فعل المثل. بدا لي صوتها لذيذاً، لكن في الوقت نفسه بعيداً. كانت عبارة: «ارقدي إلى جواري، يا إيكيلا، لنسترخِ!» رسميةً أكثر من اللازم، لكن بعدها جاء أمر آخر، بنبرة أخرى، أكثر امتلاء بالرغبة ليطرد إحباطي، إذ قالت: «تَعَرَّي!». إنها كلمة واحدة فقط متشبّعة برائحة الكحول.
لم أستغرق وقتاً لأتحرّك، أو أنني لم أستغرق وقتاً أكثر من اللازم، وهذا لأنني خلال الفترة الزمنية القصيرة بين أمرها ورَدّ فعلي، والتي استغرقت ثانيتين تحديداً، فكّرتُ في أنني قد أخطأتُ في السمع، وأنه أمر مستحيل، أو ربما أنني انتظرتُ إشارة أخرى منها، أو أن تخلع هي ملابسي بنفسها، بل وشعرت بعشرات الأوامر الأخرى تجتاحني: اقتربي، اخرسي، تذكّري، اجلسي، ابكي. رقدتُ على جانبي، محافظة على بعض المساحة الصغيرة -مجرّد قضيب معدني بيني وبينها- وقرّبت وجهي إليها وسمعتُ نفسي أقول لها: «أنتِ أولاً. أنتِ من سيخلع ملابسه أولاً!».
الغلاف الخلفي للكتاب
يرى "فيليبي" جثثاً في كلّ ركن من أركان سانتياغو، ويسعى لمطابقة أعدادها مع عدد القتلى الرسمي، ليصل إلى رقمٍ مثالي من دون باقٍ. أما "إيكيلا" و"بالوما" فتتشاركان ذكرى لقاء غامض وغائم في الطفولة، وصداقة ربطت والدي إحداهما بوالدَي الأخرى، في ما مضى.
ينطلق الثلاثة في رحلة غير متوقعة لاستعادة جثة والدة بالوما، بعد أن علقت في الأرجنتين بسبب الأرمدة البركانية، رحلة متعددة الاتجاهات يتداخل فيها الماضي بالحاضر، والمنطق باللامنطق، وعالم الأحياء بعالم الأموات، تكشف للثلاثي الكثير عن حيواتهم، وتجعلهم يواجهون الماضي الذي يحاصرهم.
عبر سردٍ مختلف وجديد، تروي لنا "أليا ترابوكو ثيران" في روايتها التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر الدولية عام 2019، عن الماضي الذي لم يمضِ، وعن الإرث العائلي المظلم لأبناء من عاشوا في ظل ديكتاتورية بينوشيه، وعن مواجهة الألم الممتدّ عبر الأجيال.
..
أليا ترابوكو ثيران: كاتبة تشيليّة، حصلت عام 2014 على جائزة المجلس التشيلي للفنون عن فئة أفضل عمل أدبي غير منشر، وصلت روايتها "حاصل الطرح" إلى القائمة القصيرة لجائزة المان بوكر العالميّة، صدر لها عام 2020 رواية بعنوان " حين تَقتل النساء: إعادة سرد لأربع جرائم".
..
محمد الفولي : مترجم وكاتب وصحفي مصري، ترجم العديد من الكتب من الإسبانيّة إلى العربيّة، منها "حكاية عامل غرف: مختارات من أدب كرة القدم الأرجنتيني"، و "أخف من الهواء" لفيدريكو جانمير وغيرها.
جميع الحقوق محفوظة لدار سرد للنشر و دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع.
الرواية متوافرة في المكتبات ويمكن الحصول عليها من نيل وفرات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه