لم تكن رائحة الأرض قد فارقت أيديهم بعد حين وجد الفلسطينيون أنفسهم مهجرين نحو المجهول. بعباءاتهم العتيقة وأحذيتهم التي لم تعتد المسافات الطويلة، مضوا دون أن يفارقهم شبح الموت، حاملين معهم حلم العودة إلى بلادهم الخضراء. ولكن ما لم يكونوا يعرفونه حينذاك هو أن للموت أشكالاً وصوراً مختلفة غير التي اعتادوا رؤيتها خلال هجرتهم عام 1948.
في قطاع غزة، ومدن الضفة الغربية، وضواحي المدن العربية، خلقت النكبة الفلسطينية مفهوماً جديداً سرعان ما فرض نفسه كأمر واقع غير مؤقت، مفهوم المخيّم، والذي انطوت تحته كل معاني الخوف والفقر والتيه وانعدام الأفق. ولم يكن دور المنظمات العالمية التي وُجدت من أجل انتشال اللاجئين من مأساتهم سوى تقييد الفلسطينيين في المخيمات ودفن المتبقي من أحلامٍ بالعودة إلى البلاد، جاعلة حلمهم الوحيد قوت يومهم.
وعند الحديث عن الخراب والخوف والفقر، فإننا نتحدث عن تربة خصبة للأيديولوجيات الدينية المتطرفة التي لم تلبث طويلاً حتى بدأت تتدفق بين بيوت "الزينقو" (الصفيح) وشوارع المخيم الرملية، مبشرةً اللاجئين بالعبارة الشهيرة التي لم تزل تُتداول حتى اللحظة: "الإسلام هو الحل". لم يكترث أهالي المخيمات بطبيعة الحل. بنظرهم، المهم أن هناك حلاً! خاصة إثر فترة الركود الشعبي الواسع بعد الانتفاضتين الأولى والثانية وتضاؤل الدور الثوري لمنظمة التحرير الفلسطينية مطلع الألفية الجديدة، والبدء في التطبيق الفعلي للمهادنات.
المُخلِّص يُبعث من جديد!
المشهد الفلسطيني بعد الانتفاضة الثانية تحديداً كان فرصة سانحة لانطلاق حركات "التحرير الإسلامي" بقوة. كان الفلسطينيون في المخيمات يغرقون في اليأس وكانوا يشعرون بأن بلادهم صارت حلماً بعيداً جداً، ما شكّل بطاقة عبور للتيارات الإسلامية نحو عقولهم، إذ صوّرت نفسها كمخلص أسطوري سيحمل جميع اللاجئين من كل المخيمات ويعيدهم إلى أشجار البرتقال وكروم العنب في البلاد.
ولكن في الحقيقة، لم تكن تلك الحركات الإسلامية سوى مشاريع توسعية لجماعة الإخوان المسلمين. هذا ما لم يدركه اللاجئون آنذاك، ما سمح لها بأن تنتشر انتشار النار في الهشيم، وصار كل حائط في المخيم يكاد لا يخلو من أثر تتركه بخاخات أبناء هذه الحركات المبشرة بالنصر الإسلامي والعودة وتطهير فلسطين من العلمانيين ووصفهم بأذناب الاحتلال. لاقى ذلك قبولاً شديداً من كل فئات الشعب الفلسطيني في المخيمات، بل وامتد تأثيره ليصل إلى السكان الأصليين للمدن التي أقيمت فيها المخيمات.
عرف اللاجئون الفلسطينيون مفهوم "التحرير الإسلامي" بعد ظهور الحركة التي سمّت نفسها بالحركة الإسلامية، وإطارها الطلابي الكتلة الإسلامية، والتي بدأت كمشروع دعوي يتبنى بشكل واضح الفكرة الإخوانية في مصر. وساهم وعي الفلسطينيين المتواضع في ذلك الوقت بتوسع تلك الفكرة في وقت وجيز، ولم يتوقف طموح المد الإخواني في مخيمات غزة والضفة عن التضخم، فبعد السيطرة على العقول وتعميم فكرة أن مَن يخالف الحركة الإسلامية هو فاسق وضال، جاء الوقت للتوجه نحو بسط السيطرة العسكرية بحيث تحقق الحركة السيادة الكاملة للفكر الإخواني على حساب الانتفاضة الشعبية الوطنية، فبدأت بتشكيل الجناح العسكري الذي عرف باسم "مجد"، وهنا بدأ التجاذب بين مجد والاحتلال الاسرائيلي، فكليهما لديه فكرة واحدة: السيادة والسيطرة.
مَن قتل الانتفاضة الشعبية؟
صعود الحركة الإسلامية وجناحها العسكري "مجد"، والذي صار يُعرف لاحقاً باسم "كتائب الشهيد عز الدين القسام"، كان في الحقيقة على ظهر الانتفاضة الشعبية الثانية التي كانت لا تزال مستمرة، حتى وإنْ كانت خاملة بعض الشيء، فقد كانت فكرتها لا تزال قائمة كانتفاضة شعبية تحقق المعادلة المعروفة: "الحجر مقابل المدفع".
بروز الحركة الإسلامية، أو حركة المقاومة الإسلامية ("حمس"، كما كانت تختصر اسمها قبل أن تصبح "حماس"، ثم انشقّت عنها حركة الجهاد الإسلامي) غيّر تلك المعادلة تماماً، محوّلاً قضية اللاجئين إلى قضية سياسية لا قضية شعب مهجر ومحتل يسعى إلى انتزاع حقوقه. فبعد أن كان الحجر سيّد الموقف، دخلت إلى الميدان أسلحة حقيقية: رصاص ومتفجرات وقنابل، وأعمت الفرحة عيون اللاجئين فلم يسألوا من أين أتت الحركة الإسلامية بهذه الأسلحة؟ فبعد أن كانوا يحاربون المحتل بالحجارة أصبح بين أيديهم مسدسات ورشاشات "كارلو"، حتى وإنْ كانت مهترئة، وبالتأكيد لن يسألوا من أين جاءت هذه الأسلحة!
"كان الفلسطينيون في المخيمات يغرقون في اليأس وكانوا يشعرون بأن بلادهم صارت حلماً بعيداً جداً، ما شكّل بطاقة عبور للتيارات الإسلامية نحو عقولهم، إذ صوّرت نفسها كمخلص أسطوري سيحمل جميع اللاجئين من كل المخيمات ويعيدهم إلى أشجار البرتقال وكروم العنب في البلاد"
كانت عمليات تسليح حركة المقاومة الإسلامية تجري على مرأى الاحتلال الإسرائيلي، وكانت إسرائيل المستفيد الأكبر من بزوغ فكرة الجهاد الذي أقرّ خشيةً من تفكك حركة المقاومة الإسلامية إذا استمرت كحركة دعوية، وأيضاً من أجل محاربة منظمة التحرير الفلسطينية وحركات اليسار الفلسطيني، إذ اعتبرتها حماس أحزاباً وحركات علمانية تتعارض مع النهضة الإسلامية.
استبدال حماس حجر الانتفاضة بالسلاح جعل سيطرة الاحتلال على الانتفاضة الثانية التي اندلعت عام 2000 أسهل بكثير من السيطرة على الانتفاضة التي سبقتها في الفترة ما بين عامي 1987 و1993. استفاد الاحتلال من معادلة سلاح مقابل سلاح، وصوّر للعالم أن ما يجري هو صراع بين قوى شبه متكافئة، ما أطفأ لهيب الانتفاضة وحوّل صورة الفلسطيني في العالم إلى صورة "مجرم" بعد أن كان لاجئاً يبحث عن حقوقه المشروعة، كما ساهمت العمليات التفجيرية التي كانت تنفّذها حماس في تصوير الفلسطيني كـ"إرهابي". شكل ذلك فشلاً سياسياً جلياً لمنظومة المقاومة الإسلامية، وبينما كانت إسرائيل تتحين أي فرصة لتُظهر زيفاً أنها ضحية، كانت حماس تقع في الفخّ وتتفنن في إظهار قوتها وجبروتها.
بلا شك، كان مفهوم تهدئة الانتفاضة قائماً، وساهمت فيه منظمة التحرير الفلسطينية بشكل علني، ولكن إطفاء الانتفاضة بذلك الشكل المدروس كان خطة محاكة جيداً ظهرت نتائجها عام 2007 بعد صدام "حماس" مع "الشرعية الفلسطينية"، وارتكاب مجزرة دموية سيطرت إثرها على كل مقرات الأمن الوطني والشرطة في قطاع غزة، محوّلةً إيّاه إلى مستعمرة إسلامية، بعد حرق جميع مظاهر الحياة فيه وتدمير المرافق الجمالية كالمقاهي على شاطئ غزة.
وبهذا الصدد، يجدر بالذكر أن الحركات الإسلامية وعلى رأسها حركة حماس أحرقت عام 1994 جميع دور السينما في غزة، كسينما النصر وسينما الجلاء، بعد سنة واحدة من إعادة افتتاحها، هي التي كانت قد أقفلت بعد أحداث الانتفاضة الأولى في عام 1987، كما دمّرت مكتبة الهلال الأحمر في نفس الفترة.
تتقاطع سياسة الاحتلال وسياسة الإخوان المسلمين في التجهيل وطمس الهوية الثقافية والمعالم الحضارية في البلاد التي يفرضون عليها سيطرتهم. ما عاشته غزّة كان أشبه بإقامة خلافة إسلامية داخل منطقة محتلة وهذه أسوأ تجربة قد يمر بها شعب محتل على الإطلاق.
استخدمت "الخلافة" مفهوم الحكم الإسلامي من أجل السيطرة على الناس وإخضاعهم، وتاجرت بكل مقدسات الشعب الفلسطيني وثوابته ضد الاحتلال دون حسيب أو رقيب. ومَن يجرؤ على قول لا في وجه مَن "يقيمون شرع الله"؟!
بين احتكار الفضيلة وتجارة الوهم
مؤخراً، أعلنت حماس انسلاخها عن جماعة الإخوان المسلمين. كان ذلك مجرد خدعة لمواكبة المشهد العالمي، وممارسة الديمقراطية الوهمية دون إثارة الجدل، ومحاولة للتخلص من أثر الضغوط التي واجهتها الجماعة، خاصة بعد تظاهرات 30 حزيران/ يونيو، وإجراءات الثالث من تموز/ يوليو في مصر، وما تبعها. بدا المسهد وكأنها منظمة تقوم بتوسّعات في مشروع تجاري.
بعد أكثر من 15 سنة من توظيف الخطاب الديني للسيطرة على الشارع الغزي، وتقديم حركة حماس نفسها على أنها خليفة الله على الأرض، من أجل إخضاع الشعب الفلسطيني وتقييد إنسانيته في غزة (ومَن يجرؤ على مواجهة الله!)، تحوّل القطاع إلى مدينة أشباح.
"لم تلبث الأيديولوجيات الدينية المتطرفة طويلاً حتى بدأت تتدفق بين بيوت ‘الزينقو’ وشوارع المخيم الرملية، مبشرةً اللاجئين بالعبارة الشهيرة التي لم تزل تُتداول حتى اللحظة: "الإسلام هو الحل". لم يكترث أهالي المخيمات بطبيعة الحل. بنظرهم، المهم أن هناك حلاً!"
سيطرت حماس على قطاع غزة وحققت الفوز في انتخابات 2006 التشريعية بتصدير الوهم للشعب الفلسطيني، لتمعن في عمليات التكفير وتصنيف الناس على أساس "التقوى والورع"، فما يهم في عرفها هو أن يكون الإنسان من رواد المساجد وأن يقبع فيها ليل نهار مصغياً إلى ما يقوله "ولاة الأمر".
ما يهمّ حماس هو حماس فقط، وأبرز دليل على ذلك تسلّقها لمسيرات العودة الكبرى التي بدأت عام 2018، وانتهت تماماً مع بداية عام 2020. بدأت المسيرات كفكرة شعبية هدفها إعادة زخم النضال الفلسطيني، لكن حماس استطاعت استغلالها كعادتها في تسلق أي موجة ناشئة ترى أنها يمكن أن تحقق مصالحها وأجنداتها.
تحوّلت المسيرات مع حماس إلى دعوة مفتوحة للشباب من أجل مواجهة إسرائيل على الحدود بالصدور العارية، ما أسفر عن سقوط مئات القتلى والجرحى وآلاف الأطراف المبتورة والعقول المشوشة، ثم فاوضت على دماء الفلسطينيين وأوقفتها، ما دفع الغزّيين إلى التساؤل: لماذا بدأت ولماذا توقفت؟ فما أنتجته سياسة دفع الفلسطينيين إلى الموت اقتصر على منحة الـ30 مليون دولار القطرية التي تُصرف كثمن لحقن دماء الفلسطينيين، ولا يصل منها إلى جيوب المواطن في غزة إلا جزء لا يكاد يذكر.
وجّهت حماس الغضب الشعبي الداخلي الناجم عن سوء الإدارة المدنية والاجتماعية نحو الحدود، محوّلة المجتمع بأسره إلى معسكر جيش، ومَن يخالف ذلك هو إما عميل صهيوني، أو ملحد ذو توجهات تحررية انحلالية!
أما مَن عبّروا عن غضبهم في الداخل، فقد قمعتهم بشراسة، كما جرى مع المشاركين في حراك "بدنا نعيش" في منتصف آذار/ مارس 2019.
كان البعض يلقون بأنفسهم أمام قناصة العدو على حدود قطاع غزة مضحين بأحد أطرافهم، ليحصلوا على راتب جريح شهري قيمة 200 إلى 300 دولار. هذا هو الحال الذي انتهى إليه الفلسطينيون في نهاية المطاف تحت حكم الحركات الإسلامية المتطرفة في قطاع غزة.
الحديث عن فشل إدارة حماس لقطاع غزة ليس تبرئة لإسرائيل التي تعمل بمنهجية على مضاعفة معاناة أهل القطاع بحصارها لهم. ولكن لم يكن أبناء غزة الذين صبروا في ظل حكم حماس على أربعة ويلات حلّت عليهم في الحروب الأربع التي شنّتها إسرائيل على غزّة يتوقعون أن يُتركوا في منتصف الطريق، ولا أن يُصادر قرارهم ويمنح لجهات إقليمية، كما أظهر فيديو للسفير القطري محمد العمادي، يهمس فيه في أذن القيادي في حركة حماس خليل الحية: "نبغي هدوء".
كثيرون اليوم، بعد ما يزيد عن 15 سنة من "الحكم الإسلامي الرشيد"، صاروا يرون أنهم كانوا سلعة تاجرت فيها حكومة حماس طوال السنين الفائتة، لتحقق مصلحتها الضيّقة جداً، أو بحسب تعبير خليل الحية: "مال حماس لحماس".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...