أنتج البشر العديد من الأعمال الفنية، في مختلف ضروب الفن، لكن بعض هذه الأعمال فقط أتيح له أن يحقق قفزة نوعية لمستوى يتجاوز حتى أفضل الأعمال الفنية للفنان نفسه، وحينها يقال إن الفنان قد تفوّق على نفسه و"تلقى" إلهاماً، لكن هذه التعبيرات لا تتصف بقوى سحرية ولا تتأتى من عوالم خفية، وهي أيضاً ليست ذات طبيعة ذاتية بحتة، إنها مزيج من كل هذا.
الدوافع الفنية التي تجعل من الفنان جاهزاً لتلقي الإلهام ذاتية محضة، تتعلّق به، برؤيته بما يرضيه ويشبع روح التساؤل التي يمتلكها.
يأتي الإلهام فقط عندما يكون هناك "طلب" داخلي ورغبة قوية غير واعية حتى لاستقبال الوحي، فحاجة البشر لتلقي واستخدام الأشياء التي لم يخلقوها بالأساس أكثر منطقية من مجرّد الابتكار العملي لجعل الحياة أكثر سهولة فحسب.
بايا والابتكار الوحشي للفن
في مقدمة أحد كاتلوجات معرضها، وصفها بابا السوريالية أندريه بروتون "بعطور ألف ليلة وليلة"، وبأنها "ملكة في عالم إسلامي يستعبد المرأة بشكل فاضح". أمضت عدة فصول صيف تعمل في الخزف مع بيكاسو، في ورشة مادورا في فالوريس، رسومها الزاهية للمجتمعات النسائية الخالية من الرجال، ومساحات أعمالها ذات الألوان اللامعة والخالية من الظلال، وملامحها الطفولية جعلتها أقرب لبيكاسو وجورج براك وهنري ماتيس، ومن الواضح أنها أثّرت بشدة في أعمال أولئك الفنانين.
بايا، واسمها فاطمة حداد قبل أن تتزوج، ولدت في الجزائر وفقدت والديها في سن الخامسة. بدأت موهبتها بالتفجّر منذ صغرها، عندما لاحظت السيدة الفرنسية -التي تبنتها لاحقاً- الأشكال الفريدة التي كانت تصنعها من الصلصال
يختلط تراثها القبلي الجزائري مع الحداثة الفرنسية الناشئة آنذاك في الفن التشكيلي، في أعمالها نجد أسئلة مبكرة عن التراث والهوية والأنوثة المتفجّرة على هيئة نساء بأجنحة يحلقن في الفضاء الثقيل كالرمل.
"البايا الجميلة" كما أسمتها إدموند تشارلز، الصحفية والكاتبة الفرنسية وملهمة الشاعر لويس أراغون، في المقال الذي نشرته في مجلة "فوغ"، هي شخصية فريدة في عالم "الفن الوحشي" الذي لا يقيم اعتباراً للاتفاقيات المبرمة سابقاً. تقول إدموند في تقديم طويل مليء بالمديح: "أعادت اختراع حلم الجزيرة العربية السعيدة، لقد بدت لي كشخصية أسطورية: نصف بنت ونصف طائر، هاربة من إحدى لوحاتها أو هي بنفسها واحدة من لوحاتها، التي لا تدين مطلقاً للفن الغربي بشيء".
فمن هي هذه المراهقة الجزائرية التي فتنت كل هؤلاء وأجبرت بيكاسو وماتيس على الاستلهام من لوحاتها؟
بدايات مدهشة
بايا، واسمها فاطمة حداد، قبل أن تتزوج من المغني محفوظ محي الدين، ولدت في الجزائر في 12 ديسمبر/ كانون الأول 1931، وفقدت والديها في سن الخامسة، بدأت موهبتها بالتفجّر منذ صغرها، عندما لاحظت السيدة الفرنسية -التي تبنتها لاحقاً- الأشكال الفريدة التي كانت تصنعها من الصلصال.
أثارت أعمال الفنانة الجزائرية "بايا" إعجاب بيكاسو، واصبحت ملهمة لبعض أعماله ومنها 15 لوحة بعنوان نساء الجزائر، والتي حققت أعلى سعر للبيع في المزادات العلنية
وبدأت الرسم بعمر الثالثة عشرة ليكتشفها لاحقاً تاجر مختص بالقطع الفنية، ويستطيع أن يرى بحس دقيق الموهبة البرية الخارجة عن القواعد، وكان أول معرض لها في غاليري مايخت بباريس، كتب كاتالوجه، الشاعر السوريالي أندريه بريتون، الذي تبنى أعمالها في العديد من المعارض، عندما كانت تبلغ من العمر 16 عاماً، لتخرج بايا بألوان صارخة وتترك مخدع الطفولة الخجول، حيث دفعها خيالها الى الخارج وينثر ورودا ونساء جزائريات بفساتينهن الزاهية والمزركشة وعناصر طبيعية خلابة بينهن وعيون واسعة تلتهم الدهشة!
لوحات سريالية بامتياز، رغم أنها ترفض هذا التصنيف، واعتبرها العديد من النقاد بأنها بسيطة وبريئة، ما أثار إعجاب الرسام الاسباني بيكاسو، واصبحت بايا ملهمة لبعض أعماله ومنها 15 لوحة بعنوان نساء الجزائر، والتي حققت أعلى سعر للبيع في المزادات العلنية.
إلا أنه قلما احتلت بايا موقع الاهتمام، كونها ملهمته. وهنا تعود معضلة تغييب الشخصيات التي جعلت من المستحيل ممكناً، ومن المشهد العابر لوحات فريدة لا تزال حتى اللحظة مخلدة. لتبقى في العديد من الأحيان أدوار النساء سطحية، تسليعية، أو بكل بساطة يكون مصيرها الهامش.
قد نرى في هذه المسألة مقاربة فلسفية يمكن شرحها عبر نظرية الجشطالت: حيث أن جميع العناصر تشكل المشهد العام وغياب عنصر واحد قد يفكك الصورة ويضللها، تماماً ما إذا استثنينا بايا من الكادر. فلا يمكن حسب قانون الشكل والخلفية أن نستثني خلفية العمل الأساسي، كذلك الأمر لا يمكن النظر للوحات الخمس عشرة كعمل فردي للفنان المستشرق، دون الالتفات الى الرسامة الجزائرية الصغيرة، والتي كبرت مع خيالها حتى استقرت أعمالها بعد مماتها في العديد من المعارض العالمية، وآخرها في لوزان، سويسرا.
اختلط تراث "بايا" القبلي الجزائري مع الحداثة الفرنسية الناشئة في الفن التشكيلي. في أعمالها نجد أسئلة مبكرة عن التراث والهوية والأنوثة المتفجّرة على هيئة نساء بأجنحة يحلقن في الفضاء الثقيل
وفي كثير من الأحيان تطرح أسئلة كثيرة، حول تنميط الشرق بعناصره وشعوبه، من خلال اختزاله لقصر تضطجع فيه نساء الملك وقصص ألف ليلة وليلة، بالألوان الصارخة، البهية والملفتة، وأجساد النساء، خاصة بتفاصيلها العارية. وهنا يطرح تساؤل آخر: هل من الممكن اعتباره نوعاً من تشويه ثقافة شعب، كانت نساؤه غير مرئيات للعلن بهذه الصورة، وفي تلك الحقبة كن مقاتلات على الجبهة ضد كل أشكال الاستعمار؟ فكيف تختزل بأثداء ممتلئة وقوام ضخم وحلي بارزة؟ بينما في ذاك الوقت كانت الحقيقة بعيدة عن هذا التجسيد، فبايا التي جسّدت مدينة كاملة بنسائها في مخيلتها التي اخترقت الصفحات البيضاء، اختزلت أحياناً بأميرات ألف ليلة وليلة التي ترضي عين الرجل قبل فرشاته. بايا الطفلة والمراهقة والمرأة التي في كثير من البلدان العربية لا تزال اسماً غير مألوف، في حين أن لوحات "نساء الجزائر" لبابلو بيكاسو قد ذاع صيتها أكثر!
فمن المعروف ان الفنون هي تجسيد لحالة وهوية الشعوب، عاداتهم وتقاليدهم إن استسغناها أو لا، إن تطابقت معنا أو لا، فهل يمكن تصوير النساء الجزائريات على هيئة أميرات عربيات هاربات من اللوحة فقط؟ خصوصاً في فترات تاريخية حرجة، كان فيه المجتمع الجزائري في حالة مواجهة مع المستعمر. فهل يكون الاستعمار بالسلاح وحده؟ والخسارة تقتصر على الأرض؟ هذه ليست أفكار تعادي الاختلاف أو تنادي بالانغلاق، هذه مساحة فارغة للتفكير بصوت مرتفع دون الخوف من كاتم الصوت أو الأحكام المسبقة.
نهايات أثيرية
بايا حالة أثيرية من الفن تتحقق لماماً على الأرض، وقد كان تاريخ الفن الغربي محظوظاً بقدرته على التقاط أثيريتها ولو لبرهة
بعد زواجها، توقفت بايا عن الرسم لمدة عشر سنوات، أنجبت خلالها ستة أطفال، ثم أعادت ابتكار نفسها من جديد بقوة مدهشة، وعادت للرسم في عام 1963، صانعة عالماً أصيلاً، معقداً وغامضاً مثل حياتها، يرتبط بالعديد من الحكايا والأساطير الأنثوية، ولن يتوقف هذا العالم عن النمو والتوسع إلا بموتها عام 1998.
تنوّع مدهش في تقنية الأعمال التي أنتجتها بايا خلال فترة قصيرة، ثم استعادة الزخم الفني بالرسم المائي، والغواش والنحت، ارتباك الفساتين المزخرفة لجزائريات يمرحن في الزهور، زخارف ما فوق خيالية، نعومة الأشكال وتشابكها، وفرة الألوان، وحققت تأثيراً هائلاً في الفن العالمي، لكنه ظلّ يمثل، في الخطاب الاستشراقي الغربي، "لغزاً" عربياً، وفي تاريخ الفن، البدائية والسذاجة والوحشية.
بايا حالة أثيرية من الفن تتحقق لماماً على الأرض، وقد كان تاريخ الفن الغربي محظوظاً بقدرته على التقاط أثيريتها ولو لبرهة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 19 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين