أينما حلَت وارتحلت، تنشرُ البهجة، وتُبشرُ باستمرارية الحياة. تصدحُ موسيقاها تحت شرفة كل بيت ستُزف منه عروس أو لدى عودة فتى بعد ختانه من عيادة الطبيب، تجدُ تجمعات من الشباب والأطفال يُشاهدون فرقة تعزف أغاني تقليدية على آلات أفرادها الاستثنائية كالمزمار والبندير والطبلة والطبل والدربوكة الجزائرية الأصيلة (الطبلة)، فيندفع الشباب، وحتى الشيوخ للرقص على الأنغام من دون توقف في الهواء الطلق حتى ينال التعب منهم.
"إضبالن"، أو "الطبابلة" باللهجة العامية، هي فرقة فلكلورية شعبية، تشتهرُ بها منطقة القبائل الكُبرى والصغرى، لأنها تقدم أغاني مستمدة من التراث الأمازيغي الأصيل. أعضاؤها رجال تراوح أعمارهم بين العشرين والخمسين سنة، يُمسكون آلات موسيقية تقليدية بين أيديهم، مصنوعة من جلد البقر والماعز، ويرتدون البرنوس التقليدي الحريري، الذي يُحاك بمنطقة القبائل ويلبسه العريس يوم زفافه (رمز شهامة الرجل الأمازيغي)، وشاشية فوق الرأس (قبعة تقليدية) بلونها الأصفر، وشكلها المستدير. هم جميلون. جميلون حقًا لأنهم يبعثون الفرح أينما حلوا ويطردون الهموم.
موسيقى العادات والتقاليد
"الوليمة للأهل والرقص للجميع"، هذا هو الوضع عندما تصل فرقة "إضبالن" إلى مكان الاحتفال، الجميع يلتف حولها، كباراً وصغاراً، شباباً وكهولاً، فلا يهمُ إن كانوا من أهل العرس أو مدعوين أو لا، لأن "الطبابلة" يعزفون للجميع من دون استثناء، فهم يبعثون البهجة، وينشرون التفاؤل، فالجميع يجدون أنفسهم مكرهين على تحريك أجسادهم وإن حركات بسيطة، ويتمايلون ومشاعر الفرح تنبثق من داخلهم، حتى لو كانوا غارقين في الحزن، وسط زغاريد النسوة التي تطلق من شرفات المنازل.
وتُعدّ هذه الفرقة من أقدم الفرق الموسيقية في الجزائر، يقول حمزة زكرياء أحد أفراد "إضبالن" من عرش "آيث عباس" التابع لبلدية "آيت أرزين " في مُحافظة بجاية، شرق العاصمة الجزائرية بحوالي 260 كلم، إن الفرقة ظهرت في زمن الوجود العثماني في الجزائر، مثلها مثل فرقة "الزرنة"، المستلهمة من آلة "الصريانة" الموسيقية، ذات الأصل الفارسي، وتتكون الفرقة من عازفي الآلات النفخية والإيقاعية، وأصبحت بمرور الوقت تقليداً لا يستغنى عنه في الأفراح لأنه مصدر للمتعة والفرج.
"الفرقة ظهرت في زمن الوجود العثماني في الجزائر".
ومن الفنانين القدامى، الذين أتقنوا هذا العزف، "اعمر اوزرين" و "مسعود فرحات" و "صالح زكرياء" الذين ينتمون لقرية "آيث عباس" بمحافظة بجاية، بحسب زكرياء.
ولهذه الموسيقي عادات وتقاليد تنبثق من عمق المجتمع الأمازيغي، لأنها التصقت بشكل كبير بالحياة الاجتماعية لسكان منطقة القبائل، وأصبحت حاضرة في كل مناسباتهم الاجتماعية، وبمرور الوقت انتشرت في كل المدن الجزائرية، وبالأخص في العاصمة.
"هذه الفرقة تعتبر هدية من أصحاب العرس لجميع الناس، سواء كانوا مدعوين أو لا، فالرقص على أنغامها لا يقتصر على الجيران والمدعوين فقط بل يشمل حتى المارة"
ويؤكد زكرياء حمزة أن هذا الفن الذي يمارسه منذ أكثر من 20 سنة "قاوم واستمر لأن الشباب حريصون على توارثه جيلاً بعد جيل"، ويقول: "في قريتي 26 فرقة تمارس هذه المهنة، ومعظم المنخرطين فيها شباب في عمر الزهور، هدفهم هو الحفاظ على التراث الموسيقي الذي تزخر به الجزائر".
وتعتمد معظم الفرق الموسيقي في العزف على ثلاث آلات موسيقية بسيطة، مصنوعة يدوياً، يذكرُ حمزة منها "الطبل" المصنوع من جلد الماعز المجفف لمتانته، و"الغيطة" المصنوعة من حطب الجوز، والكاليتوس، إضافة إلى "البندير" المصنوع من إطار خشبي مستدير على شكل اسطواني، يتم كسوه بجلد أحد الحيوانات الأليفة كجلد البقر أو الغزال أو الماعز.
"العزف هدية للجميع"
تقول السيدة نعيمة، في العقد السادس من عُمرها وأم لأربعة أطفال، لرصيف22 إن هذه الفرقة أصبحت جزءاً لا يتجزأ من أفراح الجزائريين، فبمُجرد سماع صوتها، وهي تتقدم في الشوارع والساحات، يتأكد للمارة أن عروساً ستزف لعريسها تحت جناح برنوس والدها أو عريساً سيزف لعروسه، أو طفلاً عاد إلى البيت من عيادة الطبيب بعد ختانه.
"موسيقانا تصنع الصخب أينما حلت بآلاتها التقليدية البسيطة، وتخطف أنظار المارة، وتوقظ النائمين، وتطرد الصمت، وتخطف القلوب، وتنشر الفرح، وتزيل الحقد والضغينة"
وتُضيف نعيمة أن هذه الفرقة "تعتبر هدية من أصحاب العرس لجميع الناس، سواء كانوا مدعوين أو لا، فالرقص على أنغامها لا يقتصر على الجيران والمدعوين فقط بل يشمل حتى المارة. أغانيها مستوحاة من أغانٍ قبائلية لفنانين معروفين، مثل الفنان الراحل معطوب الوناس، والشاعر والمطرب لونيس آيت منقلات، وكثيراً ما يُطلق رئيس الفرقة شعراً تقليدياً مع غناء تطلقه نسوة متقدمات في السن، فالفرقة ترافق موكب العروس من منزل والدها إلى بيت عريسها بصحبة الأهل والأقارب".
تخطف العين وتوقظ النائم
يرى الشيخ غيلاس، قائد فرقة "إضبالن" بمنطقة عين الحمام الواقعة جنوب شرقي محافظة تيزي وزو، أن هذه الموسيقى وسيلة تعبير عن فرح كبير، ومساعدة للهروب من شبح الهم، فغايتها إدخال السرور في قلوب الجزائريين.
ويتابع: "بسبب الإقبال الكبير علينا في فصل الصيف، لا نستطيع أحياناً تلبية مطالب الجميع، إلى درجة أننا ننسى مسؤوليتنا اتجاه عائلتنا، فالمهم بالنسبة لنا هو إسعاد الآخرين".
ويُوضح غيلاس أنه أسس فرقته منذ ست سنوات بعدما طور موهبته، ويُشير إلى أن هذه الموسيقى كانت تمثل له منذ صغره أكثر من هواية بل "أسلوب حياة يُجسد تقاليد منطقة القبائل الكبرى والصغرى في الجزائر، ويحافظ على التراث اللامادي الذي تزخر به البلاد".
ويقول: "رغم أنها موسيقى صامتة، بلا كلمات، فهي تصنع الصخب أينما حلت بآلاتها التقليدية البسيطة، وتخطف أنظار المارة، وتوقظ النائمين، وتطرد الصمت، وتخطف القلوب، وتنشر الفرح، وتزيل الحقد والضغينة، لأن هذا النوع من الموسيقى يُعرف بإيقاعاته الصاخبة".
وعن تاريخها يشير غيلاس إلى أنها بدأت في العهد العثماني، وطورها بعض الفنانين الجزائريين. وينهي حديثه قائلاً: "هذا النوع من الموسيقى أصبح مدرسة، لها رموزها وقاماتها كالفنان القبائلي قاسي بوذرار من منطقة عين الحمام أو المعروفة بـ"مشلي" بمحافظة تيزي وزو، والفنان مسعود فرحات من عرش آيث عباس في محافظة جاية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...