شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
نخاف أن نمرض ونموت وحدنا في الغربة

نخاف أن نمرض ونموت وحدنا في الغربة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الاثنين 15 أغسطس 202212:46 م

لا تختبئ القصص كثيراً في المدينة الألمانية التي أعيش فيها. مهما حاول أصحابها أن يخبئوها، تجدها تدخل إليك من تحت الباب أو من خلف ستارة النافذة. 

تحملها ثرثرة النساء ونميمة الرجال في الجلسات المسائية، يهمسون بها ثم يطلبون منك ألا تخبر أحداً.

اليوم كانت القصة التي سمعتها مختلفة. مختلفة عن كل مشاكل الطلاق والخيانة وفلان ضرب فلانة وفلانة ضربت فلاناً.

اليوم كانت ضحى التي لا أعرفها سيدة الجلسة. يتهامسون عنها ثم تعتلي وجوههم الشفقة والأدعية. ضحى ابنة الثلاثين عاماً، أرملة وأم لصبي وبنت. 

فقدت ضحى زوجها قبل أربع سنوات وبقيت وحيدة في مدينة ألمانية تربي ولديها وتتعلم اللغة وتعمل بالوقت ذاته، إلى حين اكتشفت أنها مصابة بمرض السرطان بمراحله الأخيرة. 

اكتشف أن المرض الخبيث، كما تتم تسميته، تمكّن من جسدها تماماً وأن الوقت المتبقي لديها بالكاد يكفي لتكتب وصيتها للطفلين.

لربما اكتشفت حينها ما هو أسوأ من السرطان، شيء بدأ بأكلها أسرع من أي كتلة أو مرض. ما من أحد من عائلتها يريد الأطفال. 

لربما اكتشفت حينها ما هو أسوأ من السرطان، شيء بدأ بأكلها أسرع من أي كتلة أو مرض. ما من أحد من عائلتها يريد الأطفال. 


قال خالهما إنه مستعد ليربي الصبي، لكنّه لا يتحمل مسؤولية البنت في بلاد كألمانيا، بينما رفضت ضحى أن تفرق بين ولديها. 

في سوريا، ومدينتها ريف دمشق، رفضت عائلتها استقبال الأطفال بحجة أن "أولادنا ما عارفين نطعميهن".

بالنسبة لي، لا أجد الخيار الوحيد المطروح سيئاً. فـ "اليوغن آمت" أو الجهة المسؤولة عن الأطفال والمراهقين في ألمانيا والتي صورها البعض غولاً سيأكل أطفالنا، هو الخيار الوحيد المتاح أمام ضحى، لكنها تستشعر قسوته في قلبها. هل تخلى عنها الجميع الآن؟ كيف تشعر؟ 

يقولون إن كل الأطباء أمهلوها من أسبوع إلى عشرة أيام، لكنها تبتسم وتقول سأشفى وسأبقى معهما.

كتبت وصيتها أخيراً. ستسلم الطفلين لمكتب لرعاية الشباب. لا أعرف كم فكرة خطرت في بالها، لربما تمنت أن يكذب أحد من أهلها ويطمئنها على الأقل لتذهب بسلام لكنهم لم يحاولوا حتى.

بالنسبة لي، لا أجد الخيار الوحيد المطروح سيئاً. فـ "اليوغن آمت" أو الجهة المسؤولة عن الأطفال والمراهقين في ألمانيا والتي صورها البعض غولاً سيأكل أطفالنا، هو الخيار الوحيد المتاح أمام ضحى، لكنها تستشعر قسوته في قلبها. هل تخلى عنها الجميع الآن؟ كيف تشعر؟

سمعت مرة طبيب يقول: "قد يكون أصعب ما في السرطان أنها خلايا من الجسم ذاته، وحين يقرر الجسد محاربتها يضعف لأنها جزء منه. وعندما نحاربها بالكيماوي، نحارب معها أجزاء منا معها".

قد تكون المقاربة هنا أن بعض الجروح تأتي دون القدرة على التخلص منها. تأتي عظيمة من أشخاص تشكل جزءاً منا. تتدخل بهويتنا وشخصيتنا وروحنا. والمفارقة هنا، أنها قد تكون الروح أضعف من الجسد في محاربة نفسها. 

بدأت أبني هواجسي التي لم أفكر بها من قبل. من سيأخذ بناتي إذا مت فجأة؟! 

هل سيرفع أخي يديه ويتبرأ مني ومنهم؟ هل ستعجز أمي فجأة؟ يا إلهي كيف ننجب أطفالاً ونحن لا نضمن حياتنا للغد؟ لهذه الدرجة من السواد غرقت وصرت أرى بناتي وهنّ ينظرن للبيوت والأماكن الجديدة دوني فبكيت بحرقة لم أستشعرها من قبل.

قد تكون هذه المدونة سوداوية ومؤلمة لأقسى حد. قد يفتحها أحدهم ويتركها ثم يشتم بؤسي ويقول: "هو ناقصنا هالنكد؟" قد تكون أسوأ الأشياء التي قرأتها اليوم أو خلال الأسبوع، لكنني أكتبها وأنا حزينة، حزينة بمعناها الحرفي لا المستهلك

ما هذه القسوة التي باتت تسبح حولنا؟ إلى أي حد فقدنا ثقتنا بكل الأشخاص والأماكن والوقت؟

ما هذه اللعنة التي لا تجعلنا نموت ونحن مطمئنون إلى أن هناك كتفاً قد تسند طفلنا إذ ما متنا؟

في الأمس تماماً كان هناك زفاف كبير في المدينة التي أعيش فيها، زفاف لصديق ضم كل أصدقائنا وأقاربنا، لكنني لم أُدعَ إليه. تلقيت في اليوم الثاني اعتذاراً لأنهم نسوا أن يعزمونا. لم يحزنني أني لم أحضر الزفاف. ما أوجعني حقاً هو أنني لم أتلق ولا حتى رسالة واتس أب تتفقد غيابنا. 

لم يرسل لي أحد "وينك؟!"

لم ينسنا صاحب الزفاف فحسب. بل بحفلة واحدة صاخبة نسانا ونحن على قيد الحياة ونجلس في منزلنا. يا محمد، من سيتذكرنا بعد موتنا بأسبوع؟

قد تكون هذه المدونة سوداوية ومؤلمة لأقسى حد. 

ما هذه اللعنة التي لا تجعلنا نموت ونحن مطمئنون إلى أن هناك كتفاً قد تسند طفلنا إذ ما متنا؟


قد يفتحها أحدهم ويتركها ثم يشتم بؤسي ويقول: "هو ناقصنا هالنكد؟"

قد تكون أسوأ الأشياء التي قرأتها اليوم أو خلال الأسبوع، لكنني أكتبها وأنا حزينة، حزينة بمعناها الحرفي لا المستهلك.

حزينة وأشعر أن حد سكين جزار يتمشى على ضفاف قلبي. وخائفة، ليس كخوفي من صرصار، بل ما تحمله المفردة من كامل المعنى. خائفة وأشعر برجفة شفتيّ تحت اللحاف، وأشعر بوحدتي، وأشعر حولي بالفراغ. 

قد تكون عائلاتنا هي الأعظم، قد نكون محاطين بكل الأشخاص الرائعين والمخلصين، لكننا نخاف. نخاف أن نمرض وحدنا ونموت وحدنا. 

حين يسكت البيت فجأة، وتنطفئ الأضواء، ونبقى وحدنا، كما أجبرنا مرة حين ركبنا البحر، وكان في القارب خمسون، لكننا كنا وحدنا. 

الوحدة تبدأ من بيت هادئ وساكت وأخرس، وتنتهي بألا تجد اسماً تكتبه في وصيتك. 

أعتذر. لكن هذا كله حصل بحذافيره.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard