محتدم هو الجدل بين القارئ وكتبه ومكتبته. كل كتاب يمنحك إجابة، ويتركك مع الكثير من علامات الاستفهام. أرى الأمر أحياناً يشبه علاقاتنا الإنسانية التي تتأرجح ما بين البدايات، وما يعقبها من انعطافات ونهايات مفتوحة أو حاسمة. مؤخّراً، كان أحد الأسئلة التي شغلتني يتعلق بمكتباتنا الأولى، وأحب أن اسميها مكتبتنا الأم وأقصد أول مكتبة أسسناها وغالباً ما تكون في مكاننا الأوّل الذي ولأسباب كثيرة قد اضطررنا لمغادرته.
كيف هي رفوف المكتبة في الغرفة التي لا يمر بها أحد الآن؟ كيف هي حال الكتب في تلك العتمة؟ وما الذي يحدث فعليّاً: نرحل عن مكتباتنا أم ترحل معنا؟ تنتظرنا أم يقسّيها الغياب؟
حلم المكتبة الأم
حول هذا، حاورت كل من الشاعر فادي جومر والشاعر والباحث الأكاديمي موفّق الحجار والباحثة في مجال الأدب سوار الشومري، نتحدّث عن مكتباتهم الأم في سوريا، وعن ملامح المشهد حين خلقت الرغبة في تأسيس المكتبة.
"عندي اليوم مثلاً كتب ترجمات لنصوصي بالألمانية لا أقدر على قراءتها بسبب حاجز اللغة"
في حديث مع موفّق الحجار لرصيف22، قال: "بدأ ذلك في الطفولة، في تلك المرحلة التي نكوّن فيها المعرفة، ولسعيي لأراها أمامي مجسدة، كان لا بد من تأسيس مكتبة" ويصف كيف أن شكل المكتبة حينها كان بسيطاً، عبارة عن طاولة مستطيلة تموضع عليها مجموعة صغيرة من الكتب: دواوين شعر، وكتب علمية يسندها من الجانبين لتصير مكتبته الصغيرة الأولى. لاحقاً صار معرض الكتاب ضرورة والتزاماً، ازداد عدد الكتب فتغيّر شكل المكتبة هذه المرة إلى خزانة بها ثلاثة رفوف.
ويوضح موفق: "لم أكن ممتناً، فرض هذا الشكل أن تكون المكتبة عميقة إلى الداخل وبالتالي تكبر، وتختبئ الكتب في هذا العمق". حافظت المكتبة على شكلها هذا حتى المرحلة الجامعيّة، وكانت مؤونتها تعود إلى بعض الكتب التي يختارها الحجّار بنفسه والبعض الآخر يحضره له والده من كتب لم يجد إلى قراءتها سبيلاً في تلك الفترة لصعوبة مواضيعها.
بدوره يشرح الشاعر فادي جومر لرصيف22 كيف أنه وجد مكتبة تنتظره موضّحاً "يشبه الأمر ربح أحدهم ورقة يانصيب، لا منّة لي في الأمر. كبرت والمكتبة أمامي تنتظرني لأقرأ". يقصد فادي في كلامه مجموعة كتب الأطفال التي خصصت له حينها ويشير إلى دور والده الجوهري في إحضار الكتب وقراءة القصة، مضيفاً "كان الكتاب دائم الحضور وإن كان حضوره رمزياً في مرحلة ما قبل القراءة مثلاً إلا أن القصة لم تروَ لي مشافهة بعيداً عن الكتاب".
وعن شكل المكتبة حينها يقول فادي: "عمل والدي في البلاط والرخام وساعده اهتمامه في الخشب على تصميم مكتبة ذات شكل فني حيث لم يكن اللازم دافعه بل المزاج الصرف للعناية بتفاصيلها". وتنوع محتواها ما بين فن التراجم وكتب الحكايات الشعبية من أوروبا الشرقية التي لم يخترها فادي بنفسه بل وجدها على رفوف المكتبة والكتب في مجال العلوم والكثير من كتب التاريخ.
كيف هي رفوف المكتبة في الغرفة التي لا يمر بها أحد الآن؟ وما الذي يحدث فعليّاً: نرحل عن مكتباتنا أم ترحل معنا؟... كانت أسئلة شغلتني عن مكتباتنا الأولى، وأحب أن اسميها مكتبتنا الأم وأقصد أول مكتبة أسسناها وغالباً ما تكون في مكاننا الأوّل الذي ولأسباب كثيرة قد اضطررنا لمغادرته
وتشير الباحثة سوار الشومري لرصيف22 إلى دافع التميّز الذي جعلها دوماً منشدّة إلى شكل الكتب وما تحويه من عوالم بين طيّاتها وبالتالي بدأت رحلتها في القراءة من مكتبة المدرسة، مروراً بالمركز الثقافي في المنطقة وعمل مكتبتها الصغيرة التي كانت عبارة عن درفات داخل خزانة وتقول: " كنت أعيد ترتيب محتواها من الكتب دوماً، والآن في غيابي أتواصل مع أمي دوماً لأطمئن إلى أن الكتب بخير". وصولاً إلى المرحلة الجامعية استمر محتوى المكتبة هذه بالنمو حيث وفرت سوار من مصروفها بغرض شراء الكتب ورافقتها تلك المكتبة حتى مغادرتها سوريا.
رحيل تلو آخر
كل رحيل عن المكتبة هو بمثابة رحلة ثنائيّة لنا ولمكتباتنا، فلا نحن نبقى كما نحن بعد الرحيل، ولا مكتباتنا. كان رحيل موفّق الأول عن مكتبته داخل سوريا، وتحديداً من دمشق إلى حمص بغرض الدراسة الجامعيّة وعن هذا يقول: " للمرة الأولى أترك مكتبتي وكنت دائم الاتصال بوالدتي لأسأل عن حال المكتبة وأوصيها بألّا يمسها أحد وألا يغيّروا تفاصيلها".
"المرء يشتاق دوماً للحضن الأوّل وهي كقطعة من قلبي أو كطفلي الذي أحبه ولا أساوم على محبته".
وإن كانت فرصة زيارة المكتبة بشكل دوري متاحة حينها، فما كل رحيل يتسم بهذا الهناء إذ يوضّح موفق: "الرحيل الأصعب كان تحت وطأة حصار قدسيّا، حيث كنت على يقين بأن خروجي من الحصار سيعقبه خروجي من سوريا وبالتالي ترك مكتبتي وكتبي دون أن أعرف إن كان من المتاح رؤيتهما ثانية".
وبعد شهر من الحصار يغادر الحجّار سوريا في 2016 إلى ماليزيا ويختار لرحلته تلك الكتب التي يسميها "التأسيسيّة" أي التي كان قد اشتراها في طفولته مثل "أغاني مهيار الدمشقي" لأدونيس وبعض الكتب التي وصفها "بالأمان المعرفي" لتمحورها حول اختصاص الدراسة والعمل.
أما جومر فيصف علاقته بمكتبته في السنتين الأخيرتين له في سوريا بالمتقطّعة لاستقراره في دمشق ووجود مكتبته في دير عطيّة ليكون رحيله عن سوريا في 2014 إلى لبنان، فيقول: "وجود المكتبة هاجس رافق كل انتقالاتي حيث احتجت دوماً لوجود بعض الكتب ليمنحني ذلك شعوراً حساساً وهو أني لا أزال أنا وبالتالي لا أذكر وجودي في بيت لا مكتبة فيه".
كان بحوزة فادي مجموعة صغيرة من الكتب ليبدأ بجمع أخرى من جديد في ألمانيا. ولتلك الرحلة أيضاً خصوصيتها إذ كانت الكتب بداية غير قادرة على اتخاذ شكل مكتبة حقيقي، ليتغير الأمر في بيته الحالي وتتوزع الكتب على رفوف مكتبة صممها بنفسه.
وسوار التي تركت سوريا في 2017 إلى فرنسا بغرض الدراسة تنوّه إلى حضور رغبة تأسيس مكتبة وتقول: "وفّقت بأسرة اعتادت استقبال الطلبة في بيتها، ولديها وجدت مكتبة غنية بالأدب الفرنسي والعالمي في انتظاري" إضافة لمكتبة تضم مجموعة صغيرة من الكتب إلى جانب السرير في غرفتها الخاصة.
"تشعر كتبنا بالغربة مثلنا وأذكر قراءتي كتاب محمد الماغوط 'سأخون وطني' في باص النقل الداخلي في سوريا حيث حاولت إخفاء العنوان ليقيني أن الكتاب هنا مدرك وله كيانه ووجوده، ولكن في قطارات ماليزيا كتابي مثلي: أنا غير مرئي، وهو كذلك"
مكتباتنا في الغربة
البدايات الجديدة التي تفرضها الغربة، تحمل في طيّاتها ملامح جديدة لتفاصيل حياتنا، ملامح قد ترتسم بفجاجة أو بهدوء فندرك بالتالي بعضها بقسوة وبعضها على مهل. وبتخصيص الحديث عن مكتباتنا، فكيف لملامحها إذاً أن تتغيّر في المكان الجديد؟ وهل يقف هذا التغيّر عند شكل المكتبة أم يتسرّب إلى محتواها؟
فادي الذي تغيّر شكل مكتبته من ألمانيا من شنطة سفر إلى رفوف فعليّة يشير إلى صعوبة التفريق بين العوامل التي من شأنها أن تغيّر من محتوى مكتباتنا فقد يتضافر العمر، والتجربة والسفر كلها معاً لخلق التغيير ويشرح: "عندي اليوم مثلاً كتب ترجمات لنصوصي بالألمانية لا أقدر على قراءتها بسبب حاجز اللغة إضافة إلى كتب بإهداء شخصي من كتابها الذين التقيتهم، وهذه من الملامح الدافئة حيث صار الإهداء أكثر شخصيّة". فضلاً عن رغبته العالية اليوم بمواكبة الحدث الأدبي واقتناء وقراءة كتب الأدب الألماني.
في الإطار ذاته تشير سوار إلى جمعها لكتب أكثر ارتباطاً بدراستها لمجال الأدب في فرنسا وبشكل خاص شعر محمود درويش وتضيف: "فتحت أمامي مجالات قراءة لم تكن في الحسبان، فصرت مثلاً أقرب من الشعر ولفتني أدب المذكرات".
ويرى موفّق أن المكتبة تخوض رحلتنا، فتعاني ما نعانيه، فتكون أولاً هامشيّة، وغير مستقرة كحالنا في المكان الجديد. ويضيف: "تشعر كتبنا بالغربة مثلنا وأذكر قراءتي كتاب محمد الماغوط 'سأخون وطني' في باص النقل الداخلي في سوريا حيث حاولت إخفاء العنوان ليقيني أن الكتاب هنا مدرك وله كيانه ووجوده، ولكن في قطارات ماليزيا كتابي مثلي: أنا غير مرئي، وهو كذلك".
"يشبه السؤال أن أفكر هل كانت غرفتي الأولى مثلاً تنتظرني".
تجلّى عدم الاستقرار في خزانة صغيرة للكتب تحوّلت بعد استقرار الحال إلى مكتبة من إيكيا. وامتد أثر الغربة على محتوى المكتبة على صعيدي اللغة والموضوعات. فمن المتوقع أن تترك لغة المكان الجديد أثرها على لغة الكتب التي نقرأ، فيوضّح موفّق: "أعيش في بلد تتحدث الإنجليزية وأنا دائم الاحتكاك مع الوسط الثقافي، وبذلك احتلت الإنجليزية مساحة كبيرة من رفوف المكتبة" هذا فضلاً عن ازدياد كتب الشعر والفلسفة.
وفي طيّات هذه المنعطفات، كان للكتاب الإلكتروني حضوره بالطبع، وهو إن صح التعبير الحل الأمثل لدائمي الترحال بحيث يضمنون بقاء مكتباتهم معهم في كل لحظة، وبالتالي حضرت المكتبة الإلكترونية حيث توضح سوار: "عندي مجموعة كبيرة من الكتب العربيّة التي يصعب الحصول عليها ورقيّاً والتي أعود إليها كلما رغبت بالقراءة بلغتي الأم".
إلا أن الأمر ليس بتلك السلاسة لأنصار الكتاب الورقي والمؤمنين بحضوره رغم التحديات. يبني الحجّار مكتبته الإلكترونية متسائلاً: "كيف سيكون شكل المكتبات التي سيتركها كتاب وكاتبات هذا العصر؟" ويوضّح فادي: " العلاقة مع الكتب لا تبنى ضمن نطاق الاحتياج، بل هي حالة من الشغـف والمزاج وهي آخر ما بقي لنا... أن أتخلى عن هذه التفصيلة يشبه ألا يبقى لي شيئاً".
تروينا مكتباتنا، تروي عطشنا للمعرفة وتروي حكاياتنا فتعمل عمل الشاهد على مراحل الحياة، ورفيق الدرب الذي ينمو ويتغيّر مع كل مرحلة بمشاقها، وحلوها ومرّها.
لكن كيف ننظر اليوم إلى مكتباتنا في الغربة ومكتبتنا الأم؟ هل هو انقطاع أم امتداد أم تغيير؟ وهل تنتظرنا مكتبتنا الأم؟ يجيب موفق متنهّداً من الإرهاق الذي يخلقه هذا التساؤل: "يشبه السؤال أن أفكر هل كانت غرفتي الأولى مثلاً تنتظرني. لا أعلم حقيقة، لا أعلم إلى أي مدى يبقى المكان مكانه ضمن عالم فيه المكان دائم الحركة انسجاماً مع دوران الأرض مثلاً. ربما لا تنتظرنا مكتبة الطفولة، لكن مكتبة الشيخوخة حتماً تفعل".
أما فادي الذي يصف مكتبته الحالية بأنها أطلال مكتبة دمشق فيقول: " لا نحلم وربما لا نستحق أن نراها ثانية بعد أن هربنا. لا أعلم هل سأراها أو هل هي تنتظرنا أو تكرهنا مثلاً. لو ترك المرء ابنه عشر سنوات لنساه، فكيف إذاً حال الكتب التي أودعتها الكراتين منذ أكثر من عشر سنوات؟".
في المقابل ترى سوار الأمر بطريقة مختلفة فتقول: "لا يقين عندي بعودتي لكنها حتماً تنتظرني، فالمرء يشتاق دوماً للحضن الأوّل وهي كقطعة من قلبي أو كطفلي الذي أحبه ولا أساوم على محبته".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ 3 أياملا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...