لم تكن الأيام من 7 إلى 11 آب/ أغسطس عام 1933، عاديةً في قرية سميل الواقعة على بعد 12 كم من محافظة دهوك في العراق، فجحافل القتل مستعدة لتضيف فاجعةً جديدةً إلى سجل فواجع هذا البلد المنكوب. وأحداث القصة ليست عاديةً بدورها، فالقاتل هو جيش دولة وليدة لا يتجاوز عمرها الـ12 ربيعاً، والضحايا مدنيون متجذرون في أرض البلاد.
تُعدّ بلدة سميل التي شهدت الفاجعة جزءاً من تاريخ عريق، كما يُعدّ شعبها واحداً من أقدم القوميات في بلاد ما بين النهرين الذين أسسوا خلال فترة وجودهم، الإمبراطورية الآشورية التي حكمت المنطقة قبل أكثر من 4،000 عام، وقدّمت الكثير من التراث الفكري والمادي للبلاد.
يعدّ الآشوريون أنفسهم أتباع مار شمعون بطرس، وهو أحد حواريي المسيح، ويُرجعون عمر كنيستهم إلى عام 33 بعد الميلاد، كما يعترفون بقدسية نسطور، بطريرك القسطنطينية على غير عادة بقية الكنائس، وهو شخصية لطالما كانت محل خلاف بين الطوائف المسيحية بسبب تعاليمه. ويقود كنيستهم حالياً البطريرك الـ122 مار آوا روئيل الثالث، ومقرها في عنكاو التابعة لمحافظة أربيل.
نزعات تاريخية
أمل الآشوريون بحسب ما يذكر زيد عدنان ناجي في مؤلفه "أقليات العراق في العهد الملكي"، بأن تؤدي خدمتهم لبريطانيا إلى منحهم الاستقلال
لطالما طالب السريان النساطرة بالاستقلال ضمن رقعة نينوى القديمة التي تشمل محافظات نينوى ودهوك وبعض مناطق أربيل وشرق سوريا وجنوب شرق تركيا، وهو ما جعلهم عرضةً للانتهاكات المستمرة منذ القدم وصولاً إلى المجزرة العثمانية التي قادها محمد رشيد بك عام 1915، وحتى احتلال بريطانيا لمدينة الموصل عام 1918، بحسب ما يذكر جوزيف يعقوب في كتابه "المأساة المتكررة".
وعمدت بريطانيا منذ البداية إلى تجنيد الآشوريين في لواء خاص ضمن التاج البريطاني، عُرف باسم الليفي الآشوري، وكانت مهمة هذه القوات مقتصرةً على حماية المناطق الآشورية أول الأمر، ولكن كثرة الاضطرابات التي شهدها العراق في تلك الفترة دفعت القوات البريطانية إلى زجّهم في قمع المتمردين الأكراد بالإضافة إلى ثوار العشرين العرب.
أمل الآشوريون بحسب ما يذكر زيد عدنان ناجي في مؤلفه "أقليات العراق في العهد الملكي"، بأن تؤدي خدمتهم لبريطانيا إلى منحهم الاستقلال وهو ما وُعدوا به بحسب بعض المصادر التاريخية.
لكن عدم التزام بريطانيا بوعودها للطائفة الآشورية، دفع كنيسة المشرق إلى توجيه خطابات عدة إلى عصبة الأمم من أجل توطينهم في كيان شبه مستقل ضمن الرعاية الفرنسية في سوريا بين عامي 1931 و1932، وهو ما رفضته الحكومة الفرنسية بدورها.
لم تتوقف مساعي الكنيسة المشرقية عند هذا الحد، بل طالبت الحكومة العراقية بالاعتراف بهم كملّةٍ من الملل العراقية ومنحهم مقعداً برلمانياً يمثلهم، ولكن رئيس الحكومة آنذاك نوري السعيد، رفض هذا الطلب لأن كنيسة المشرق لا تمثل سوى ربع عدد مسيحيي الموصل.
وبحسب الباحث في التاريخ السياسي العراقي سلام العزاوي، فإن "أصل الرفض الحاصل نابع من خوف الحكومتين العراقية والبريطانية من أن يؤدي منح الاستقلال للآشوريين إلى زيادة حركات التمرد الكردية المستمرة في البلاد كما كانت تتخوف كلّ من فرنسا وتركيا على مصالحهما في سوريا".
ويقول لرصيف22، إن "مثل هذه الطلبات المتكررة زادت من حدة العداء السياسي الموجه ضد الآشوريين في العراق، خاصةً أن حكومة بغداد أدركت أن النزعة الاستقلالية الآشورية لن تنتهي إلا باستخدام القوة".
بداية الأزمة
يذكر الباحث التاريخي عبد الرزاق الحسني، في الجزء الثالث من كتابه "تاريخ الوزارات العراقية"، أن الرفض الذي واجهته طلبات كنيسة المشرق الآشورية وبطريركها مار شمعون دفع أتباعه إلى تقديم استقالات جماعية من الليف الآشوري وقادوا في شمال العراق حملات دعائيةً لدعم مطالب بطريرك الكنيسة الشرقية.
الضابط السابق في الليفي الآشوري مالك ياقو، اتجه برفقة 800 من أتباعه إلى سوريا من أجل إقناع الانتداب الفرنسي بإقامة حكم شبه ذاتي لهم في شرق سوريا، ولكن فرنسا رفضت وأبلغت بغداد بعودته عبر معبر ديربون بين البلدين
ويذكر الكولونيل في القوات البريطانية ستافورد، في كتابه "المأساة الآشورية"، أن حكومة بغداد ردت على هذه الحملات الدعائية بإرسال قوات عسكرية إلى دهوك لتخويفهم وردعهم كما استدعت مار شمعون إلى بغداد من أجل التفاوض، ولكن إصرار الأخير انتهى باحتجازه في بغداد ونفيه لاحقاً إلى قبرص.
وبحسب الكتاب نفسه، فإن الضابط السابق في الليفي الآشوري مالك ياقو، قد اتجه برفقة 800 من أتباعه إلى سوريا من أجل إقناع الانتداب الفرنسي بإقامة حكم شبه ذاتي لهم في شرق سوريا، ولكن فرنسا جددت رفضها وأبلغت حكومة بغداد بعودته عبر معبر ديربون بين البلدين.
التمهيد للمجازر
استعد الجيش العراقي عند معبر ديربون لاعتقال ياقو، وحدثت الاشتباكات الأولى بينه وبين القوات الآشورية في 4 آب/ أغسطس 1933، وتكبدت خلالها قوات الجيش خسائر فادحةً أجبرتها على الانسحاب باتجاه قرية ديربون.
يختلف المؤرخون في تحديد البادئ بهذا الاشتباك، كما يختلفون في مصدر سلاح المقاتلين، لا سيما أن القوات الفرنسية قد صادرت سلاحهم بعد الاجتماع الذي جمع الطرفين.
يعتقد الباحث في الدراسات التاريخية المعاصرة عمار الصبيحاوي، أن هناك اعتقادات بأن المقاتلين الآشوريين قد استعادوا سلاحهم من القوات الفرنسية، ولكنهم تجهزوا لاحتمال مصادرتها وقاموا بإخفاء كميات من الأسلحة داخل القرى الآشورية في شرق سوريا.
ويعلل رأيه، في حديثه إلى رصيف22، بأن شراسة المناوشات التي خاضها الطرفان أثبتت امتلاك الآشوريين كميات ضخمةً من الأعتدة وتمكنت من خلالها من دحر القوات الحكومية المجهزة بالمدفعية.
يروي المراقب البريطاني كيف تم جمع الرجال والنساء في غرف معيّنة بعد أن نُصبت عليها الأسلحة الرشاشة وبدأت عمليات الإعدام الجماعية التي استمرّت طوال اليوم، ثم ألقيت جثثهم في كومات متراصة قبل دفنهم في التلال الأثرية
وبحسب ستافورد، فقد كلّفت الحكومة العراقية القائد العسكري بكر صدقي، بقيادة العملية العسكرية وإنقاذ القوات الحكومية، وطلب صدقي الدعم لإجبار أتباع ياقو على الانسحاب، ثم لاحق عناصر الجيش المقاتلين الآشوريين في المناطق الجبلية الواقعة شمال غرب الموصل، واتصفت عملياتهم بالدموية بعد تصفيتهم لكل من يتم القبض عليه في الجبال من المسلحين أو المدنيين.
الإعدام الجماعي
نقل بكر صدقي قواته في 7 آب/ أغسطس إلى بلدة القوش، وطالب جميع الآشوريين في المنطقة بتسليم سلاحهم والاحتماء بمخافر الشرطة من أجل القضاء على التمرد واستجاب الأهالي لهذه الطلبات وهاجروا من قراهم باتجاه قرية سميل. في 8 آب/ أغسطس دخلت القوات العسكرية بقيادة قائمقام زاخو والضابط إسماعيل عباوي وفصلوا النساء والأطفال المحتمين في المخفر عن رجالهم.
ويروي المراقب البريطاني في كتابه كيف تم "جمع الرجال والنساء في غرف معيّنة بعد أن نُصبت عليها الأسلحة الرشاشة وبدأت عمليات الإعدام الجماعية التي استمرّت طوال اليوم، ولم تقتصر على رصاص الرشاشات العسكرية بل ضُرب بعض الآشوريين بقسوة حتى الموت وألقيت جثثهم في كومات متراصة قبل دفنهم في التلال الأثرية".
شهادات بعض الناجين، والتي تناقلها الآشوريون وعرضها الفيلم الوثائقي "أبرياء في صراع الكبار"، تذكر كيف استمتع الجنود بمظاهر الدم وكيف قتلوا الرجال أمام نسائهم والنساء أمام أطفالهم والمرافقين البريطانيين يكتفون بالتقاط الصور من دون تحرك.
ومن قصص المأساة ما يرويه أحد شهودها إذ يقول: "جاء إلي أحد الأصدقاء وأمّنني على بناته وأمرني بالحفاظ عليهم حتى عودته وإن لم يعد فعلي بتربيتهم وتزويجهن لأولادي ولم يعد ربّ الأسرة ولا أمّهم".
ويروي آخر أن الأهالي عمدوا من أجل حماية أولادهم من الصبيان إلى إجبارهم على ارتداء ملابس الفتيات من أجل حمايتهم من القتل، ولكن القتل طال كلا الجنسين.
من الملام؟
يروي أحد الشهود أن الأهالي عمدوا من أجل حماية أولادهم من الصبيان إلى إجبارهم على ارتداء ملابس الفتيات من أجل حمايتهم من القتل، ولكن القتل طال كلا الجنسين.
تُثبت الروايات الآشورية أن الجيش العراقي قد خان أمانته، وعمد إلى قتل الآشوريين العُزّل عامةً وليس أتباع كنيسة المشرق فحسب، ويستندون في روايتهم إلى أن الجيش لم يتعرض لأي اشتباك بعد تسليم المقاتلين الآشوريين سلاحهم.
ولكن المؤرخين العرب والكرد يؤكدون أن المسلحين استمروا في قتال الجيش، وهو ما دفعهم إلى شن عمليات موازية لإعادة هذه المناطق إلى سيادة الدولة.
يرى الباحث في التاريخ عماد الجبوري، أن "الخطأ يقع على الطرفين حيث بقي بعض المسلحين الانفصاليين داخل قرية سميل والقرى المجاورة ولم يستجيبوا لطلبات الحكومة العراقية بتسليم أنفسهم".
ويضيف في حديثه إلى رصيف22، أن "ردة فعل الجيش كانت قاسيةً وتنمّ عن حقد دفين لا سيما أنها لم تنل من المسلحين فحسب، بل نالت من العديد من المواطنين الأبرياء، أما عدد القتلى الذي صرحت به التقارير البريطانية وهو مقتل 600 شخص فقط، فهي غير صحيحة".
ويستند الجبوري في رأيه إلى عدد المقابر الجماعية غير المكتشفة حتى هذه اللحظة، ولكنه يؤكد أن العدد لن يصل إلى 3،000 بحسب الادّعاء الآشوري.
وُضعت بريطانيا في خانة المتهمين بالتسبب بهذه الفاجعة، إذ يرى الآشوريون أنها كانت غير جادة بوعدها لتحقيق الاستقلال لهم، ودعمت الحكومة العراقية في عملياتها لا سيما أنها لم تبدِ أي ممانعة في أثناء هذه العمليات.
في المقابل، يتهم العرب بريطانيا بتسليح مقاتلي كنيسة المشرق من أجل دفع الحكومة العراقية إلى المطالبة بعودة بريطانيا إلى العراق.
ومن الجدير ذكره، أن القوميات العراقية لا تزال حتى اليوم تتبادل الاتهامات في ما بينها، حيث يتهم البعض كلاً من العرب والأكراد بالمساهمة في المجزرة من أجل إعادة تغيير ديمغرافية المنطقة، وهو ما يشير إليه أيضاً الباحث التاريخي خلدون الحصري في كتابه القضية الأشورية، فيما يتهم آخرون الآشوريين بنزعتهم الانفصالية.
يُذكر أن الولايات المتحدة الأمريكية وافقت عام 2020، على مشروع القرار الذي قدّمته النائبة عن ولاية أريزونا ديبي ليسكو، للاعتراف بمذبحة سميل عام 1933، وقالت ليسكو على موقعها الرسمي: "أتمنى أن يؤدي هذا الاعتراف إلى لفت الأنظار إلى المأساة الآشورية عام 1933، وعدم تكرار مثل هذه الفظائع".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومينمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ 5 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعيناخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.
mohamed amr -
منذ اسبوعينمقالة جميلة أوي