أعادت حادثة إيقاف عرضٍ للمسرحي التونسي لطفي العبدلي، في ولاية صفاقس جنوب البلاد، السجالات بشأن النقابات الأمنية إلى واجهة الأحداث. لم تتردد النقابة الوطنية للأمن الداخلي في إعلان عدم تأمينها أي عرض "يتضمن خدشاً للحياء أو غيره"، عادّةً أن ذلك "جريمة يعاقب عليها القانون" الذي يُعدّ موظفوها مخوّلين تطبيقه.
واجه هذا الإعلان انتقادات حادةً إذ عدّه كثيرون تحولاً إلى ما يشبه الشرطة الأخلاقية بالنسبة إلى قوات الأمن، وذلك في وقت تشهد فيه البلاد المهرجانات الصيفية بعد انقطاع دام لأكثر من سنتين بسبب فيروس كوفيد19.
"لسنا نقابةً أخلاقيةً"
فاقم موقف النقابة الوطنية لقوات الأمن الداخلي في تونس، الجدل الذي رافق إيقاف عرض المسرحي العبدلي، إذ رأت النقابة أنها "لن تسمح بارتكاب جرائم أخلاقية مستقبلاً"، في تطور بدا مثيراً في خضم الأزمة الحاصلة بين النقابات والشارع.
ردّ المتحدث باسم النقابة شكري حمادة، على الاتهامات الموجهة إلى نقابته بالتحول إلى شرطة أخلاقية، بالقول إن قوات الأمن مكلفة بتطبيق القانون، موضحاً أن "القانون في تونس وتحديداً الفصل 126 من المجلة الجزائية ينص على معاقبة من يخدش الحياء بالسجن".
وأردف حمادة في حديث إلى رصيف22: "لن نؤمّن عروض العبدلي مستقبلاً، خاصةً بعد اتهامنا بأننا بوليس عبير موسي (رئيسة الحزب الدستوري الحر المعارض)، وما أتى به في مسرحيته فيه خدش للحياء وفيه خرق للقانون، هل نخرق القانون معه؟ لا يمكن أن نتحول إلى شركاء في الجريمة".
ردّ المتحدث باسم النقابة شكري حمادة، على الاتهامات الموجهة إلى نقابته بالتحول إلى شرطة أخلاقية، بالقول إن قوات الأمن مكلفة بتطبيق القانون
ليست هذه المرة الأولى التي تلوح فيها النّقابات الأمنية بمقاطعة تأمين تظاهرات، إذ سبق لها أن هددت بالانسحاب من تأمين المقابلات الرياضية ما عجّل في ظهور دعوات إلى حل النقابات المذكورة.
في هذا الصدد، قال حمادة إن "هذا يندرج في إطار التحريض على الأمنيين، لأن من مشمولاتنا الحفاظ على الذوق العام ومن يخالف القانون علينا توقيفه، وبالنسبة إلى عدم التأمين فهو شكل من أشكال العمل النقابي والنضالي".
وشدد قائلاً: "هناك تسييس للموضوع، ولا يمكن لأحد أن يحلّ النقابات الأمنية، سواء بالقانون أو بغير القانون، والجدل برمته لأطراف تمارس السياسة أرادت حشرنا في موضوع نحن بعيدون عنه كل البعد".
وكان النائب في البرلمان المنحل نبيل حاجي، قد قال في تدوينة على فيسبوك، إن "الأمن الذي اعتدى على لطفي العبدلي هو أمن قيس سعيّد (الرئيس التونسي)، وهو الأمن الذي اعتدى على الكثيرين العام الماضي وهذا العام، وهو الأمن الذي يحكم به سعيّد الذي قام العبدلي بحملة لدستوره".
بعد إيقاف عرض مسرحي حذّرت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، من تحول الجهاز الأمني إلى "هيئة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"
وبحسب إعلان سابق له، يقود رئيس الجمهورية قوات الأمن والجيش، لكنه لم يعلّق على الأحداث، فيما دخلت وزارة الداخلية على الخط مؤكدةً أن الفنان المذكور هو الذي استفز أعوانها.
وقالت الوزارة في بيان إن "المسرحي المذكور قام بحركة لا أخلاقيّة تجاه أعوان الأمن، خلال العرض، ممّا تسبّب في حالة تشنج في صفوف بعض الأمنيّين المكلفين بتأمين مختلف فعاليات مهرجان صفاقس الدولي، وبتدخل المسؤولين تمّت تهدئة الأوضاع ومواصلة العرض في ظروف عادية".
غير أن الصحافي المختص بالشؤون الثقافية صابر الميساوي، قال إن "الأمن المكلف بتأمين السهرات تحول إلى رقيب أخلاقي، وخير دليل على ذلك ما حدث في مسرحية لطفي العبدلي".
وبيّن الميساوي، أن "كل ما يحدث منذ بداية المهرجانات الصيفية هذا العام، جعل من الفنان التونسي متهماً بالزندقة وبالتعدي على الذوق العام، والمؤسف أن بعض إدارات المهرجانات انخرطت في هذه الحملة ضد الفنانين، إذ ألغت إدارة مهرجان المنستير عرضاً رأت فيه مساً بالرئيس الراحل الحبيب بورقيبة".
ويُعدّ الفنان المذكور من أكثر الفنانين إثارةً للجدل في تونس، وبالرغم من الانتقادات التي يواجهها حول ما يعدّه البعض ابتذالاً في عروضه إلا أنه يحقق نجاحات جماهيريةً باهرةً سواء في بلاده أو خارجها.
"وزارة داخل الوزارة"
منذ سنوات، تواجه النقابات الأمنية مطالبات بحلها خاصةً بعد تبريرها قمع المحتجين في حراكات عدة قام بها الشباب ضد تردّي الأوضاع، لكن هذه النقابات نجحت في الصمود في مواجهة هذه الدعوات.
وعدَّها البعض دولةً داخل الدولة نظراً إلى تفردها في نشر أخبار على مواقع التواصل الاجتماعي تهمّ العمل الأمني، وأيضاً الإدلاء بدلوها في ما يخص التوترات السياسية التي تعرفها البلاد منذ اندلاع ثورة الرابع عشر من كانون الثاني/ يناير 2011.
وحذّرت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، الإثنين الماضي، من تحول الجهاز الأمني إلى "هيئة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر".
منذ سنوات، تواجه النقابات الأمنية مطالبات بحلها خاصةً بعد تبريرها قمع المحتجين في حراكات عدة قام بها الشباب ضد تردّي الأوضاع، لكن هذه النقابات نجحت في الصمود في مواجهة هذه الدعوات
وقالت الرابطة في بيان رسميّ: "إن هناك مخاطر بأن يصبح الأمن وصياً على الذوق العام وعلى حرية الفن والإبداع بل هيئةً قضائيةً موازيةً".
ورأت عضوة الرابطة نجاة الزموري، أن حلّ النقابات الأمنية أكثر من ضرورة اليوم في ظل الممارسات التي تقوم بها.
وأوضحت الزموري في حديث إلى رصيف22، أن "القضاء هو الذي له الفصل في هذه النقابات بعد تقديم شكاوى بحقها، لأن القضاء الجهة الوحيدة المخولة للحسم في مثل هذه القضايا، مثلما تم الحسم في قضية حلّ بعض الأحزاب بعد الثورة".
وأكدت أن "هناك خروقات مهنيةً خطيرةً خاصةً ما حدث في صفاقس هذه الأيام، والتهديد بعدم تأمين مهرجانات أخرى إخلال مهني أيضاً يحتّم على وزير الداخلية التدخل لفتح تحقيق جديّ داخل وزارة الداخلية في هذه التجاوزات".
ويرى محللون أن النقابات المذكورة تحولت إلى ما يشبه الوزارة داخل الوزارة، وهو السبب الذي ربما يكون قد دفع وزارة الداخلية إلى القول في بيان رسمي إن قوات الأمن تلتزم بالانضباط وتطبيق القانون وتعليمات القيادة دون سواها.
ورأى المحلل السياسي، هشام الحاجي، أنه "يجب أن تكون هناك تراتبية تكرّس سلطة الدّولة ودورها، ونلاحظ أنه في المدة الفارطة وقع انتهاكها بشكل شبه منهجي من قبل أطراف تدّعي أنها تمارس العمل النقابي في حين أنها تجاوزت ذلك بشكل كبير".
وأبرز الحاجي في حديث إلى رصيف22، أن "العمل النقابي ينحصر أساساً في تحسين ظروف العمل والمسائل الترتيبية، أما أن يصل إلى ما يشبه الوزارة داخل الوزارة فهو أمر خطير وشكل من أشكال تفكك الدولة والسطو على السلطة".
حَمَّل المتحدث المسؤولية للدولة لافتاً إلى أنه "من الضروري أن ينضبط الجميع أمام القانون، ولست مع حل النقابات الأمنية لكن مع أن يضطلع كل طرف بدوره، وحين يتحول الأمر إلى تهديد بمقاطعة تأمين بعض العروض يصبح تهديداً لبعض الأنشطة والفعاليات وتغييراً في وظيفة المؤسسة الأمنية التي من صلب مهامها حفظ النظام العام، وهذا يفتح الباب أمام الانفلات، خاصةً أننا على أبواب موسم رياضي جديد أيضاً، ونعرف المشكلات السابقة التي حدثت بين هذه النقابات والجماهير".
وبالرغم من قوله إنه يستمد شرعيته من الشعب ومطالبه، إلا أن سعيّد الذي يقود القوات الأمنية وله جلّ الصلاحيات في بلاده لم يتخذ بعد أي إجراء ضد النقابات المذكورة، بل سبق له أن دعاها إلى التوحد في إطار "اتحاد عام"، ما أثار جدلاً واسعاً حول المغزى من ذلك.
وخلال لقائه بعدد من القيادات الأمنية، قال سعيّد إنه لا يقبل بضرب المؤسسة الأمنية كما لن يقبل بضرب الحريات. وقد تُشكّل الحادثة الأخيرة في صفاقس اختباراً جدياً له خاصةً أنه يقود القوات الأمنية، وفق تصريحات سابقة له بأنه القائد الأعلى للجيش والأمن، ويواجه مزاعمَ من خصومه بالتوجه نحو إرساء نظام استبدادي غداة الاستفتاء على الدستور الذي انتهى بتزكيته بالرغم من المقاطعة الكبيرة له.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...