"أنا شفت إنسان قاسي"؛ بهذه العبارة رد الإعلامي المصري محمود سعد، في فيديو جديد على الانتقادات الواسعة التي تعرض لها بسبب بث مباشر في وقت سابق على صفحته على فيسبوك، أفصح فيه عن حقيقة مشاعره نحو والده.
خرج محمود سعد ليدافع عن نفسه بعد العاصفة التي أثارها قائلاً: "لما عملت بث على فيسبوك اتكلمت عن الراجل اللي لا بحبه ولا بحترمه"، ليجد نفسه في مرمى نيران السوشال ميديا للمرة الثانية خلال أيام عدة إذ أُلصقت به ملايين الاتهامات وكيلت له مئات الشتائم.
لست من محبي محمود سعد، أو كارهيه كإعلامي، ولكني أرفض النفعية التي تحكم تصرفات البعض والتي لايتورعون في ظلها عن استغلال أية فرصة لتصفية الحسابات مع شخص ما، خاصةً إذا كان يتمتع بقدر من الشهرة ويرون فيه نقيضاً لما يؤمنون به من أفكار.
من حق محمود سعد كإنسان، قبل أن يكون إعلامياً شهيراً، أن يبوح بحقيقة مشاعره نحو والده أو والدته أو أي شخص آخر على ظهر الكوكب من دون أن يتهمه أحد بالعقوق أو الجحود أو نكران الجميل، فليس مقبولاً أن يكون هناك أوصياء حتى على المشاعر في مجتمع يُفترض أن يحكمه دستور مدني ينظّم العلاقة بين أفراده على أساس المواطنة.
من حق محمود سعد كإنسان، قبل أن يكون إعلامياً شهيراً، أن يبوح بحقيقة مشاعره نحو والده أو والدته أو أي شخص آخر على ظهر الكوكب من دون أن يتهمه أحد بالعقوق أو الجحود أو نكران الجميل، فليس مقبولاً أن يكون هناك أوصياء حتى على المشاعر
الرجم عبر منصات السوشال ميديا
هل يمكن أن يجد محمود سعد نفسه غداً، مهدداً بالسجن لمجرد أن شخصاً ما قرر أن يوكّل محامياً لمقاضاته بسبب جلسة فضفضة مع متابعيه على فيسبوك؟ ربما، فكل الاحتمالات تبقى واردةً في ظل عبثية المشهد.
هل فكر أحد من أولئك الذين تطوعوا منذ اللحظة الأولى لرجم محمود سعد عبر منصات السوشال ميديا بأقصى الألفاظ وأحط العبارات، في أن يتوقف مع نفسه لحظةً ليوصف حقيقة الجريمة التي اقترفها الرجل؟ هل تخيّل لدقيقة واحدة كمّ الضغوط النفسية التي كان يتعرض لها عندما جرت على لسانه تلك الكلمات في لحظة ضعف بشري تنتابنا جميعاً؟
هل يمكن أن يجد محمود سعد نفسه غداً، مهدداً بالسجن لمجرد أن شخصاً ما قرر أن يوكّل محامياً لمقاضاته بسبب جلسة فضفضة مع متابعيه على فيسبوك؟
منذ متى أصبحت جريمةً أن يحاول المرء، شهيراً كان أو مغموراً، أن يزيح الصخرة الجاثمة فوق صدره في جلسة يبوح خلالها بحقيقة مشاعره سواء كانت مع بعض أصدقائه أو حتى على حسابه على فيسبوك أو عبر قناته على يوتيوب؟
أخشى أن يتحول الاستبداد إلى ثقافة تجري في دمائنا، رغماً عنا، وأن يصبح هم كل منا كيف يقمع من يعرف ومن لا يعرف وأن يحاسب الناس على كل حرف يتلفظون به وكأن كلام الإنسان عن حياته الخاصة صار محظوراً كأشياء أخرى كثيرة؟
أي جريمة اقترف محمود سعد؟
إذا كانت هذه هي حقيقة مشاعر محمود سعد، فمن حقه أن يجهر بها، فهو لم يتدخل في الحياة الخاصة للآخرين ولم يخالف قانوناً ولم يقترف إثماً، وليس معنى أن شخصاً ما يكره أباه لأسباب معينة، أن هذه دعوة إلى كراهية كل الآباء في مصر، وازدرائهم.
لا يجب أن يتحول الكلام المكرر عن احترام تقاليد المجتمع إلى دعوة لكبت الناس وحرمانهم من التعبير عن حقيقة مشاعرهم، فالعادات والتقاليد لم تحُل دون ارتكاب عدد كبير من الجرائم ذات الطابع الأخلاقي التي تقع كل ساعة.
درس التاريخ يعلمنا أن المصادرة لا تجدي نفعاً، والتجارب تؤكد أن كبت المشاعر ثمنه فادح، وكان الأحرى بأولئك القديسين الذين نصبوا المشانق لإنسان أفصح في لحظة ضعف بشري عن حقيقة مشاعره نحو والده، أن يقرؤوا الرسالة جيداً وأن ينحوا السياط جانباً ويُعملوا العقل ولو لمرة واحدة.
كلام محمود سعد جرس إنذار لكل أب، يدعوه إلى أن يفكر في طبيعة علاقته بأبنائه وأن يبحث عن الصدوع ويسارع إلى ترميمها قبل فوات الأوان، وحتى لا يضطر ابنه بعد سنوات عدة إلى محاكمته في بث مباشر أمام الملايين.
إذا كانت هذه هي حقيقة مشاعر محمود سعد، فمن حقه أن يجهر بها، فهو لم يتدخل في الحياة الخاصة للآخرين ولم يخالف قانوناً ولم يقترف إثماً
إذا كنت يا سيدي فارس السوشال ميديا ترى في البوح ما يجرح بعضاً من مشاعرك وأحاسيسك المرهفة، فلا تقربه ولا تجبر نفسك على سماع أي نوع من أنواع اعترافات الآخرين، فهذا حقك ولكن لا تصادر في المقابل حق الناس في أن يعبروا عما تضيق به صدورهم.
للأسف الشديد فإن جزءاً من الحملة الظالمة التي تعرض لها محمود سعد تعود إلى الرجعية البغيضة التي ما زالت تحكم عقول الكثيرين، والتي لا يجدون في ظلها أي نوع من الغضاضة في الحجر على أبسط حقوق الآخرين في التعبير عن مشاعرهم في وصاية لا مثيل لها إلا في مجتمعاتنا.
بأي حق وبأي منطق تريد أن تكتم أبسط رغبة لإنسان في الصراخ من نار اكتوى بها كثيراً، لمجرد أن حضرتك ترى ما يقوله "عيباً" أو "ما يصحش"؟
بأي حق وبأي منطق تريد أن تكتم أبسط رغبة لإنسان في الصراخ من نار اكتوى بها كثيراً، لمجرد أن حضرتك ترى ما يقوله "عيباً" أو "ما يصحش"؟
بوح الناس لم يكن مضراً يوماً، لكن الكبت والحظر والمنع هي أصل الداء وأساس كل بلاء. هذه حقائق نراها في كل ما يجري حولنا ولا تحتاج إلى أدلة أو براهين، وإنما إلى عقول قادرة على التفكير لاستخلاص دروس مدرسة الحياة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...