شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
كيف يصقل الإنترنت شخصيتي؟

كيف يصقل الإنترنت شخصيتي؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأحد 9 فبراير 202005:22 م

كنت مراهقة في الصف الأول ثانوي، حين دخل الإنترنت إلى حياتي وبدأ اتصالي مع العالم الخارجي، علماً أن أبي اشترى في بداية عام 2001 جهاز كمبيوتر كبير، وأوصله بالهاتف الأرضي، ليصبح لدينا في البيت إنترنت ثابت، في تلك الفترة كانوا إخوتي الكبار يتعلمون استخدامه بمساعدة أقاربنا، ممن لهم تجربة في التعامل مع الإنترنت.

مؤخراً اعترفت لنفسي أنني لا أجيد الحديث في الماسنجر، خصوصاً مع من تربطني بهم علاقة عن بعد من اللحظة الأولى.

لا أتذكر أنني تعلمت في حصة الحاسوب المدرسية شيئاً عن الإنترنت، سوى أنه يستخدم للبحث واستخراج المواد الدرسية التي تثري المواضيع التي ندرسها، وهذا بالطبع غير ممتع لمراهقة لديها جهاز حاسوب، وسمعت في ظرف ما عن غرف المحادثة "ياهو ماسنجر وهوتميل ماسنجر". أنشأت حساباً في ياهو ماسنجر، وأضفت لقائمة الأصدقاء بعض أسماء الأقارب وبعض إخوتي، وصرت أجلس كل يوم بالساعات أنتظر واحدهم ليظهر على الشاشة، وكان في الكثير من الأحيان ينتهي وقت استخدامي للإنترنت قبل أن يظهر أحدهم في الشاشة، إلى أن علقت في لعبة إنترنت اسمها Gamzer.

وفيها تعرفت إلى الكثير من الشباب والبنات في غرفة الألعاب، وقمت بإضافتهم على حساب ياهو لنتحدث سوياً، وفي ظرف أسبوع واحد كنت قد تعلقت بشاب يؤلف الأغاني ويعزف على الجيتار وأحببته، وهكذا دواليك، كل يوم يصبح لدي مجموعة جديدة في التشات، وكل أسبوع يبدل قلبي الطفل الشاب الذي يحب، حتى أصبحت لدي أسرار وبانت عليّ علامات الارتباك عند دخول أحدهم إلى غرفة الكمبيوتر، وهذا لا يخفى على الأمهات.

في طفولتي كنت أعبّر عن مشاعري بتلقائية وعفوية، وكان من السهل عليّ أن أغضب وأبكي وأضحك وأضرب وأصرخ، ثم جاءت حقبة الإنترنت، فصرت الفتاة التي تتستر على مشاعرها وتحتفظ بما تشعر به إلى اللحظة التي تضع رأسها فيها على وسادتها، كأن الشباب والفتيات الذين عرفتهم قد سرقوا مني القدرة على التعبير بسبب دهشتي بهم، كنت أنظر بإعجاب لجميع الأصدقاء الذين أعرفهم، وتثير غيرتي الفتيات الجميلات اللواتي تبدو عليهن ملامح الأنوثة الجسدية أكثر مني، ويعشن في أماكن أفضل من القرية التي أعيش فيها، حيث أنني كنت أعيش في مكان لا يعرفه أحد، مكان قصي مجهول وبعيد.

في طفولتي كنت أعبّر عن مشاعري بتلقائية وعفوية، وكان من السهل عليّ أن أغضب وأبكي وأضحك وأضرب وأصرخ، ثم جاءت حقبة الإنترنت، فصرت الفتاة التي تتستر على مشاعرها وتحتفظ بما تشعر به إلى اللحظة التي تضع رأسها فيها على وسادتها

بدأت سنة الثانوية العامة وأنا معتزلة للإنترنت، قررت فجأة أن هذا المكان الذي يجعلني أشعر بالحرج من نفسي ويثير اشمئزازي من تفاصيل كثيرة أعيشها، لا يستحق أن يكمل معي حياتي القادمة، لا أعلم من أين تجيء القرارات الحاسمة فجأة، إلا أن قراري هذا جعلني أعود إلى نفسي وأنظر بتمعن في المرآة، وأنتبه أكثر للشاب الذي يطاردني في طريق العودة من المدرسة، ليقول لي كم هو معجب بي، بل أنني من شدة شوقي للكلام العادي وللحديث بعيداً عن مفاتيح الأحرف وصوتها المستفز، صرت أنتظره وأبادر بالحديث معه، وأعبر عن نفسي ومشاعري كما كنت قبل غرف التشات، وأصبحت القراءة جزءاً أساسياً من يومي.

بعد وقت قصير جداً سجلت حسابي في فيسبوك، حيث الأصدقاء الكثر، المواضيع المتنوعة، الصور لأناس يعيشون في قارات بعيدة، الشعر، الكتابة والمقالات، فجأة انفتحت أمامي نافذة كبيرة جداً تطل على "الجنة الحقيقية" التي لم تكن تخطر لي في أجمل لحظات الشرود، هنا كانت النقلة النوعية، أصبح من الواجب علي أن أمتلك ملفاً تعريفياً مغرياً يحبب الآخرين بي، وعلى أحدهم أن يلتقط لي صورة أرفقها مع ملفي الشخصي، كما أن الناس في فيسبوك يتحدثون عن الربيع العربي والسياسة والفن والفكر والأدب، ما يعني أن عليّ البحث أكثر والتركيز أكثر والقراءة المتنوعة والمستمرة، حتى أجمع الكثير من المعلومات التي تجعلني قادرة تشكيل وجهة نظر تمكنني من الحديث مع الناس والتفاعل مع ما يقولون، فعلت كل هذا وأكثر، حتى أصبح لدي عدد أصدقاء هائل يحدثونني في ماسنجر في وقت فراغي، في السياسة والأدب والموسيقى، وهذا بحد ذاته رد اعتبار لساعات طويلة كنت أجلس فيها أمام غرف التشات وليس لدي ما أقوله.

مراحل مختلفة مررت بها في رحلتي مع الإنترنت، غزارة الأحداث وكثرة الناس والمواضيع والأحداث ساهمت في صقل شخصيتي وجعلها أكثر حدة وقوة، إلى أن صار الفيسبوك بالنسبة لي حاجة يومية، أنشر فيه نصوصي الشعرية والنثرية، وأعبر فيها بصوت عال عن رأيي فيما يدور في عالمنا العربي، وفي الأردن بشكل خاص، وهذا جعل لدي مجموعة لا بأس بها من المحبين وأخرى ممن نختلف في الود وغيره.

مراحل مختلفة مررت بها في رحلتي مع الإنترنت، غزارة الأحداث وكثرة الناس والمواضيع والأحداث ساهمت في صقل شخصيتي وجعلها أكثر حدة وقوة

مؤخراً اعترفت لنفسي أنني لا أجيد الحديث في الماسنجر، خصوصاً مع من تربطني بهم علاقة عن بعد من اللحظة الأولى، أصبحت أراجع حديثي معهم ويثير استغرابي أنني أتحدث في ماسنجر بنفس الطريقة التي أتحدث بها في الواقع، بل وأعبر بنفس الكلمات، ما يساهم في إساءة فهمي ومقصدي إن كان في الرضا أو الخصومة. مرة كنت أتحدث مع صديق لي لم نلتق بعد، راجعت محادثتنا وصدمت بكمية الفجاجة والعفوية التي من شأنها أن تربك أي طرف آخر يحادثني، إنني أستخدم كلمات مثل "يا حب" وتعابير مثل "يسعد دينك" لأناس لم يجمعني بهم فنجان قهوة، ولا يعرفون أنني أتحدث مع الناس في الشارع بنفس الطريقة، إن شخصيتي الواقعية قد انصهرت تماماً بشخصيتي التي تجلس خلف شاشة الإنترنت.

ثمة تغيرات طرأت على علاقتي مع فيسبوك بالتحديد، أصبحت لا أفتح الرسائل فوراً، سوى رسائل الأصدقاء الحقيقيين ورسائل العمل، وغيرها أتركها ساعات طويلة، وأفتحها غالباً قبل النوم، أقرأ الرد أكثر من مرة، وأحاول قدر الإمكان أن يغلب على حديثي طابع الذوق والاحترام وليس القرب والتودد واللطف الكبير، فالحديث العفوي له مكانته في حياتي، وقد اقتصرته على الجلسات الواقعية التي تُظهر وجهي حين يمزح ويغضب ويحنق من دون الحاجة "لإيموجيز"، وجلد طويل للذات على لحظات الانفعال والسرعة في التواصل.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image