إلى جانب جبال طالِقان في محافظة ألبُرز المحاذية للعاصمة الإيرانية طهران، وبالقرب من نهر طالقان، تقع قرية اختارت أن تعزل نفسها كي تنتظر لحظة ظهور الإمام المهدي.
ليس للقرية اسم رسمي بل لها أسماء متعددة أطلقها الآخرون علیها منها "فانوس آباد" (قرية الفانوس)، و"منتظران ظهور" (منتظرو ظهور المهدي)، و"تُرك آباد" (قرية الأتراك)، و"إيستا" (المتوقفة).
یلتف حول منازلها القليلة البالغ عددها 9، والواقعة في مساحة لا تتعدى 15 هكتار، حائط مرتفع وأشجار باسقة إذ لا يمكن رؤيةُ من في القرية إلا من خلال الدخول إليها أو من ارتفاع أعلى منها.
يعيش أهالي القرية حياة رهبانية وصوفية في عزلة تامة عن العالم، دون كهرباء وغاز وهواتف وسیارات، يأكلون منتجات عضوية من ثمار أيديهم، وعلاج أمراضهم أيضاً يتمّ من خلال استخدام الأعشاب الطبية. لا يستخدم أهالي القرية الساعة لتشخيص الوقت بل يقومون بتعيين الوقت عبر تغیرات السماء.
سكان القرية ينحدرون من مدينة تبريز التركية الواقعة شمال غرب إيران، وقد اجتمعوا هنا تبعاً لأفكار مرجعهم الديني الذي نهاهم عن التشبه بالكفار
ولا يحق لأي امرأة دخول القرية، كما أن نساء القرية لا يخرجن من المنازل كثيراً. لا يحتفل أهالي القرية بأعياد الميلاد والزواج، ولا يقيمون مراسم العزاء عند وفاة أحدهم. ويُقال بأن ساكني القرية لا يحملون بطاقات الهوية، ولا يندرجون ضمن النسمة في البلاد.
أسرار القرية، لغز الإيرانيين
"هنا ملكية خاصة"، "يمنع التصوير وتسجيل الأفلام"، "الرجاء عدم الإزعاج"، "يمنع الدخول إلى هذه الملكية الخاصة منعاً بتاتاً"، يواجه هذه اللافتات على جدران القرية كل من يدخلونها، وذلك لمنع التعرف على أسرار هذا المكان الغريب والصغير.
يشرح الرجل الثمانيني حسين قُلي ضيائي، شيخ القرية، والذي بادر بإنشائها عام 1988، أن سكان القرية ينحدرون من مدينة تَبريز التركية الواقعة شمال غرب إيران، وقد اجتمعوا هنا تبعاً لأفكار مرجعهم الديني الذي نهاهم عن التشبه بالكفّار لأن ذلك يجرّ إلى التشبث بمعتقداتهم.
"استخدام المعدات الحديثة الصناعية أو أي شي جديد حرام، إلا في وقت الضرورة"؛ هكذا يقول لنا ضيائي، ويضيف: "نحن لدينا سيارة وبعض الأشياء الأخرى، ولكن نستخدمها عند الضرورة فقط، ليس لدينا هواتف، وفي وقت الحاجة الماسة نستخدم جوال العامل الأفغاني في القرية".
في نهاية الثمانينيات قررت نحو 11 أسرة العيش هنا، ولكن غادر البعض هذا الحصن الذي صنعوه لأنفسهم، فلا طاقة لهم ليعشيوا بمعزل تام عما يجري من حولهم، وبقيت 8 أسر فقط تتكون من 40 نسمة في قرية "إيستا".
نمط حياة على أساس القرن الـ19
يقول الباحث التاريخي الإيراني الدكتور حسين عَسْكري، إن نمط العيش في هذا المكان تأسس وفق بنيان فكري وفقهي قبل 200 سنة في العهد القاجاري، والذي يعود إلى فقيه محافظ وأصولي باسم آية الله ميرزا صادق التبريزي.
"قرر هذا الرجل لأتباعه التوقف عن التقليد في تلك الحقبة الزمنية ومنع استخدام الجمارك والضرائب والجيش وأوراق الهوية والتجنيد الإجباري، وحتى منع الحج بسبب وجوب الحصول على جواز السفر"، هكذا يشرح عسكري.
وفي عام 1928، حرض ميرزا صادق التبريزي سكان مدينة تبريز ضد قرار الخدمة العسكرية الإلزامية ولذلك نفاه رضا شاه إلى مدينة سنَندج، مركز محافظة كُردستان الإيرانية، ومن ثم قطن مدينة قم حتى وفاته عام 1932.
وشرح لنا عسكري فترة ما بعد وفاة التبريزي إلى عام 1986، أي نحو نصف قرن، والذي التزم خلالها بعض مقلدوه بأفكاره وآرائه بشكل نظري في مدينة قم، معقل رجال الدين الشيعة، وأيضاً في مسقط رأسه مدينة تبريز.
ويسرد عسكري تفاصيل عام 1987، إذ أمر أحد مقلدي ميرزا صادق التبريزي والذي كان يعتبر بشكل ما خليفته، بالالتزام بتعاليمه بشكل عملي، فاختارت نحو 13 أسرة العيش على هذا النمط في مدينة تُنِكابُن بالقرب من مدينة تبريز شمال غرب إيران، ليحدثوا لأنفسهم قرية وفق آراء مرجعهم التي تدعوهم للعدول عن أي حداثة وحضرية، والرجوع إلى ما قبل ذلك خلال القرن الـ19.
طالقان منطقة دينية في آخر الزمان
وبعد ثلاث سنوات من العيش في تُنكابن ولأسباب جوية، هاجرت العوائل نحو مدينة طالقان. ويضيف عسكري الذي نشر كتاباً عن هذه الفئة من الشيعة الإيرانيين، أن أسباب اختيار طالقان: "الطقس المعتدل والروايات الشيعية التي تتحدث عن أهمية هذه المنطقة، وقربها من الجبال، حيث يعتقدون أنه في (نهاية الزمن)، عليهم أن يلجأو للجبال، لذلك باتت طالقان بالنسبة لهم منطقة دينية مهمة في نهاية الزمن".
"يسكن في هذه القرية مجموعة من أثرياء أتراك تبريز، الذين تركوا الدنيا وزخارفها، وأعرضوا عن أموال طائلة وأملاك كثيرة يمتلكونها، وسكنوا هذه القرية الصغيرة التي تقع على ضفاف نهر صغير، لا كهرباء فيها ولا ماء ولا غاز ولا هاتف، لا يقرأون الكتب ولا الصحف والمجلات، لا يخرجون من هذه القرية إلاّ في الحالات الضرورية، لا يراهم أحد، ولا يستقبلون أحداً إلاّ نادراً، يعبدون الله سبحانه وتعالى، وينتظرون ظهور المولى صاحب الزمان (عجل الله فرجه الشريف)"؛ هكذا كتب عنهم الباحث الديني الشيخ محمد الحسون عندما قام بزيارة القرية برفقة رجال دين آخرين عام 2015.
زيارة لمجموعة من رجال الدين والمسؤولين إلى القرية
ويتابع حسين قلي ضيائي قوله عن سلوك الأهالي فيقول: "لسنا بحاجة للمسجد، كل واحد منا يصلي بشكل (فُرادى) في منزله؛ الجامع هو خندق الجمهورية الإسلامية الإيرانية، فما علاقة ذلك بنا؟ نقيم الواجبات الدينية ولا نعير اهتماماً لغير ذلك، وما علينا إلا أن ننتظر فرج الإمام المهدي. كما لم نرسل أبناءنا للمدارس، فواجب الآباء أن يعلموهم الكتابة والقراءة في المنازل، وذلك يكفي".
كما أن الأهالي لا يحتفظ بالكتب المطبوعة، بل تقتصر كتبهم على مخطوطات للقرآن الكريم، ورسالة ميرزا صادق التبريزي.
وعن الأوراق الرسيمة والبطاقات الوطنية فيؤكد ضيائي أنهم استلموها بضغط من الحكومة، ولا حاجة لهم بها في حياتهم المنعزلة عن الدنيا: "لا نشارك في الانتخابات. الانتخابات هي لعُمَر (بن الخطاب). ألم يجروا انتخابات في سقيفة؟".
تربية الخيول الأصيلة العربية
في ساحة بمساحة 15 هكتار تتضمن منازلهم، يزرعون أهل القرية أنواع المحاصيل الزراعية ويربون الحيوانات قدر حاجتهم لا أكثر، كما أنهم يصنعون الأدوات والمعدات الزراعية والمنزلية بأيديهم.
وفي جانب من القرية، هناك إسطبل للخيول العربية الأصيلة, ويقول أحد سكان القرية إنهم ابتاعوا حصاناً عربياً من إسطبل أمير دولة قطر سابقاً، وما توجد اليوم من خيول فهي من جيله.
تأتي معظم ممتلكات أهالي القرية من بيع أراضيهم في مدينة تبريز، ويقولون بأنهم ليسوا فقراء بل وضعهم المادي كان جيداً هناك، إلا أنهم اختاروا أن ينتظروا فرج الإمام المهدي، فتحملوا الصعوبات في هذا السبيل. كما أنهم يدركون حجم متاعب العيش هنا، ويصرحوا بأنه لا يمكن لأحد أن يتحمل ذلك.
الإمام المهدي يعطي التعاليم في المنام
أما المبادلات المالية فهي تعتبر تشبّهاً بالكفار في نظرهم، كونها تعود إلى النظام المصرفي، ولا يجوز لهم السفر والزيارات لأنها تلزمهم بحمل جوازات السفر والفيزا المحرّمتين وفق تعاليمهم.
"لسنا بحاجة للمسجد، كل واحد منا يصلي بشكل (فُرادى) في منزله. الجامع هو خندق الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ما علاقة ذلك بنا؟"
وقد اطلع على أحوالهم في الماضي بعض المسؤولين الإيرانيين أمثال إسفنديار رحيم مشايي ومرتضى تمدّن من رجالات حكومة الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد، الرجل الذي يشتهر بحديثه الدائم عن ظهور الإمام المهدي. ومن بين الشخصيات الأخرى التي زارت القرية هما علي أكبر صالحي الرئيس السابق لمنظمة الطاقة الذرية الإيرانية، والمخرج السينمائي مسعود دِهْ نَمَكي.
كما يتحدث ضيائي عن الزيارات المتعددة لحاكم مدينة طالقان وقادة الشرطة، لهذه القرية، للاطلاع على أحوالهم وتكريمهم لعدم حدوث نزاع لهم مع الآخرين.
يعتقد الأهالي أنهم يعيشون نهاية الزمن المليئة بالكوارث، وعلى كل فرد أن ينقذ نفسه، لذلك لا يمكن العيش مع المجتمع، فهو مهزلة في رأيهم، وأنهم كلما حدوا من مخالطتهم بالناس كلما زادوا من فرص نجاتهم في نهاية الزمن، كما يتحدثون عن أحلامهم التي يرون فيها الإمام المهدي وهو يعطيهم الأوامر اللازمة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...