شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
تذكّر يا عُدي الزعبي... فلا أمل في النسيان

تذكّر يا عُدي الزعبي... فلا أمل في النسيان

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأحد 7 أغسطس 202204:00 م

لا يتردد الكاتب والباحث السوري عدي الزعبي من السخرية من كل "الما بعد"، هذه اللاحقة التي يرى في بعض منشوراته الساخرة أنها فتحت الباب أمام الكثير من المغالطات، لكن لا يهم، ما أذكر، أن الزعبي يتهكم بشدة من مفهوم "موت المؤلف"، ويسأل ببساطة: كيف يمكن أن يموت المؤلف، واسمه حاضر على غلاف الكتاب وفي نهاية النص؟ بل هو نفسه، أي المؤلف، من يحدد لحظة بداية ونهاية النص؟ لم يكتب الزعبي السابق بهذه الدقة، هذا ما أذكره، والذاكرة أداة المخيّلة إن ادعت الحقيقة.

الحذلقة السابقة حول عدي الزعبي ترتبط بمجموعته القصصية الجديدة نصف ابتسامة الصادرة مؤخراً عن دار ممدوح عدوان، والتي لا يخفي في مقدمتها الزعبي أنه "حيّ"، هو مؤلف القصص، لم يستطع النسيان فكتب عن الماضي، عن سوريا قبل عام 2011، مشيراً أن حنينـ(نا)ـه إلى سوريا مختلف عن "الباقين" فالمكان الذي نشتاقه، اختفى: "نحِنُّ إلى مكانٍ لا وجود له، إلَّا في الذاكرة. والذاكرة، كما تعرفون، تتلوَّى وتتلوَّن وتتلجلج. لستُ استثناءً، وذاكرتي لا تدّعي أنّها مخلصة للواقع تماماً، ولكنّني حاولتُ جاهداً أن أكتب ما أمْلته عليّ بدقّة".

من موقع نيل وفرات

المؤلف الذي يأبى الموت

العبارة الأخيرة من الاقتباس السابق (ما أملته علىّ بدقة) ساخرة، هل يمكن أن تكون الذاكرة دقيقة، هل هذا الوصف فاتحة نحو المخيلة، أو براءة يدّعيها المؤلف، ذاك الذي لا يموت في قصصه، صحيح تتنوع الشخصيات لكن نقرأ بوضوح في بعض القصص "تذكر يا عديّ"، الراوي/المؤلف/ الشخصية، يتطابقون عند فعل الأمر هذا، وتلتبس على القارئ هنا هوية المؤلف: من عديّ بالضبط؟ هل هو ذاك الذي يمكن أن أتصل به؟ أم ذاك الذي اسمه على الغلاف وعلي البحث عنه في كتبه الأخرى؟ أم أبحث عن هويته ضمن النص نفسه والأحداث الكبرى التي يتناولها في سوريا لأرسم معالمه؟

أحياناً، يكتب المنفيُّون عن حنينٍ إلى بلدٍ يشتاقونه ويتمنَّون العودة إليه. لا يشبه هذا حنينَ السوريّين: البلد تغيّرَت بالكامل، بل اختفت. نحِنُّ إلى مكانٍ لا وجود له، إلَّا في الذاكرة. والذاكرة، كما تعرفون، تتلوَّى وتتلوَّن وتتلجلج

نبتعد عن حذلقات "الما بعد" وتحولات حيوات المؤلف، لنقرأ "نصف ابتسامة" أمام مؤلف لا يريد أن يموت، بل يدلل الذاكرة، تلك التي تحيل إلى مكان لم يعد موجود، إلى اللامكان الذي نشترك به نحن القراء، الذين نفترض أن لهم ثلاثة أنواع، لدينا القارئ المثالي، أمين مكتبة بابل، ذاك الذي يعرف كل الكتب وكل المعاني وكل الإحالات، و هناك القارئ المحترف، أي الذي سيتلمس نفحات الهايكو في المجموعة، و بناء بعض الصور الشعريّة وتاريخها، ذاك القادر أيضاً على رصد المتتالية القصصية التي نقرأها في القصة المعنونة بـ"نصف ابتسامة" أو تيار الوعي الداخلي في القصة التي تحمل عنوان "آلهة بعشرة أذرع"، والتي يقاد فيها الوزير إلى مكتب المخابرات نحو مصير مجهول بالنسبة له، لكنه معروف لمن يبحث عن اسم محمود الزعبي، أو لأي قارئ محليّ.

القراء المحليون مصطلح يشكّ بوجوده، لكن هؤلاء يعرفون مصير الوزير السابق، الذي يشابه مصير بعض المسؤولين السوريين الذين انتحروا فجأة، ويعرفون جغرافية دمّر القريبة من دمشق، و قادرين على رصد المسافة التي يمكن أن يقطعها أحدهم مشياً بين مشفى الكندي ومقهى الحجاز في العاصمة دمشق، هذه الجغرافيات تتحرك فقط لدى من عاش ذاك المكان المتلاشي، ذاك اللامكان الحاضر فقط في ذاكرة/مخيلة عدي، ومن يعرف العاصمة دمشق بصورتها التي لا نراها لدى الانفلونسرز، ولا مغامري اليوتوب، ولا صور المظاهرات، ولا بروباغاندا النظام.

سوريا الـ(ما قبل) 2011

لننس عديّ المؤلف الذي يأبى الفناء، ولنفكر أكثر بمن نقرأ عنهم، بمن تشابه أسماؤهم أسماءنا، (هناك ما هو غريب ومفارق في أحد المقاطع على لسان أحد الشخصيات التالي: كان عمّار يتحكّم فيني، وكان مأمون أحياناً يضربني)، فتباً لطيف مؤلف لا يريد التلاشي، يقحم القارئ ويستفزّ ذاكرته الشخصية عن المدينة، ولنفكر من هؤلاء الذين يكتب عنهم عديّ، امرأة تريد تكبير حجم ثدييها، وآخر يزور منزلاً ممنوعاً من العزاء ليأخذ بخاطر أب فجر ابنه نفسه في عمل إرهابي، من هؤلاء بالضبط؟

يتذكر عدي الزعبي في مجموعته القصصية (نصف ابتسامة) سوريا قبل عام 2011، ليأخذنا في رحلة لاكتشاف شخصيات هامشية منسيّة تحاول تحقيق ما تريد في ظل القمع والتزمت والتقلبات السياسيّة

لا يتجاهل الزعبي أن سوريا محكومة بنظام ديكتاتوري، نظام يمتلك أفرع أمن، ويدرب جهاديين، ويقسّم الناس طائفياً، لكن لهؤلاء "الناس" الذين يكتب عنهم عوالمهم الخاصة، تلك التي لا تصارع النظام مباشرة، أشخاص يريدون الحياة فقط، (وربما هذا ما يتذكره عديّ، أشخاص كانوا أحياء وليسوا ناجين)، أولئك الذين لا ننساهم، لكل واحد منا تشكيلة من هذه الشخصيات، رفاق مدرسة نذكرهم دون أن نبذل أي جهد في البحث عنهم، مدرسون غاضبون، حبيبات كنا عابرين في حياتهنّ، تغير مفاجئ في البلاد جعل الكل يمتلكون سيارات صينية يدفع ثمنها تقسيطاً.

وهنا الملفت في العديد من شخصيات الزعبي، صراعها في الكثير من الأحيان ليس مع "الدولة"، أي ببساطة هناك مشكلات وهموم وحكايات أخرى في سوريا خارج الصراع مع حزب البعث، هناك الخجل، الإحراج، التذاكي، المجاملات... كلها عناصر تضبط علاقات الأفراد، تهدد أسلوب تقديمهم لأنفسهم، ورغباتهم، وموقفهم مما حولهم، التقاط هذه المواقف لا يمكن بسهولة، وهنا تظهر حساسية الزعبي، لا المُنتحر بل الكاتب، إذ يتركنا لنتأمل إلى أي حد يجوز الضحك في جنازة صديق قديم؟ أو هل ألوم نفسي الآن بعد سنوات طويلة على شقاوة في المدرسة أدت إلى فصل زميل لي؟

لا يتجاهل الزعبي أن سوريا محكومة بنظام ديكتاتوري، نظام يمتلك أفرع أمن، ويدرب جهاديين، ويقسّم الناس طائفياً، لكن الناس الذين يكتب عنهم عوالمهم الخاصة في سوريا، تلك التي لا تصارع النظام مباشرة، هم أشخاص يريدون الحياة فقط

لا يقدم الزعبي العلاقات بين الناس في سوريا بوصفها مفرطة في علمانيتها كما يدّعي البعض، ولا غارقة في التدين الشديد، فالدين والاختلافات الطائفية حاضرة، ويمكن تجاوزها، لا يناقشها البعض، لا لأن الموضوع تابو، بل لأنها "هكذا"، لا مؤشر على صراع مع السلطة أو مواجهة، بل مجموعة شروط لابد من التعامل معها، إذ يقدم لنا الزعبي نماذج عن شخصيات بعضها متدين، الآخر محافظ، لكن هذا لا يمنعها عن تحقيق ما تريد، سواء كان حبّاً، أو رغبة بالترفّع الوظيفي، أو حلماً بقصة سعيدة شخوصها لا تعيش بأسى، وكأن الزعبي يحاول أن يقول لنا، إن سوريا قبل الثورة لم تكن مجرد صراع طائفي وحياة في ظل الديكتاتوريّة، هناك من يسعى نحو تحقيق ذاته، هناك من يتذكر، هناك الملحد الذي لا يريد الصدام مع من حوله، لا خوفاً، بل عدمية، وهناك من يفكر بحكاية لم يكتبها، حكاية تلخص بالتالي: "الجو ساحر... نسيم خفيف، بدر مكتمل، وهدوء لا يشي إلا بنفسه. ينقصنا العشاق والحبكة الدرامية.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image