شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
من المفضّل أن لا تسأل من خرج للتو من سوريا هذا السؤال

من المفضّل أن لا تسأل من خرج للتو من سوريا هذا السؤال

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والمشرّدون

الجمعة 15 يوليو 202212:59 م


"وين بتشوف حالك بعد خمس سنين؟" بهذا السؤال أنهى مدير إحدى الشركات في مصر مقابلة العمل معي. سؤال يتكوّن من ست مفردات لا أكثر. لا يحمل كل هذه الدهشة التي أصابتني حينذاك. هل هو أحد الأسئلة التي تفطر قلب السوري أيضاً؟ هل هو جزء من معركة خاضها السوريون ولم يخرجوا منها فائزين؟

عند تفكيري في الجواب، خاض عقلي نقاشات عدة طوال دقيقتين. تعتمد هذه النقاشات على ردود كوميدية لأخفف بها شدة الألم التي سببها هذا السؤال. من المفضّل اليوم أن لا تسأل أي فرد قد خرج للتو من سوريا هذا السؤال، فكل يوم كنا نحياه يعادل سنة كاملة من حيث المشاعر الإنسانية. ننجز ونخفق خلاله مرات كثيرة كعدد المرات التي يخفق بها الشخص الطبيعي في سنة. النقاش الثاني كان مرتبطاً بالحالة المأسوية التي أصابت أحلامنا والتي تجعلنا نفكر بكل يوم على حدة إذ من غير الممكن أن تكون طموحاتنا أبعد من يوم واحد. من الصعب التخطيط لمدة يوم واحد، فما بالك بالتخطيط لخمس سنوات. هذا أحد الأمور التي فقدناها منذ فترة طويلة. نحتاج لعملية كبيرة ووقت أطول من ذلك الذي عشناه لنستطيع العودة إلى التخطيط لهذه المدة الطويلة.

كان التخطيط مرتبطاً بعدم الموت. يبدأ صباحك بشتائم طويلة لعدم وجود الكهرباء أو المياه ليقتحم هذه الشتائم انفجار ما أو حدث آخر. تنظر في المرآة وتقول لنفسك: ليس اليوم! أهلي اليوم يريدون البحث عن ربطة الخبز ليس من الضروري أن أضيف هم موتي إلى همومهم

ذات فترة، كان التخطيط مرتبطاً بعدم الموت. يبدأ صباحك بشتائم طويلة لعدم وجود الكهرباء أو المياه ليقتحم هذه الشتائم انفجار ما أو حدث آخر. تنظر في المرآة وتقول لنفسك: ليس اليوم! أهلي اليوم يريدون البحث عن ربطة الخبز ليس من الضروري أن أضيف هم موتي إلى همومهم. في دمشق، تخرج من المنزل لتأخذ من شرفات المنازل غطاءً لك من كل القذائف، بينما المدن الأخرى كانت تحاول جاهدة أن تخفي نفسها من كل البراميل التي ألقيت عليها. كانت هذه الحرب بمثابة اختبار حقيقي لقدرتنا على النجاة، أسلوب الهروب من الموت كما لو أنّه اختصاص أكاديمي نريد اكتسابه. عندما تنظر اليوم إليه، تجد أن هذا الاختصاص لا يمكنك التصرف فيه في أي مكان تقصده، إذ يبدو أنّه اختصاص محلي الصنع.

"عمرك لا تسأل سورياً خرج للتو من سوريا أين ترى نفسك بعد خمس سنين؟ لأن هذه الجملة كفيلة بأن تضعه في سوريا من جديد".

تعود لتستيقظ اليوم في بلد آخر لا يحوي الشتائم، ولكن هنالك وجوداً لفكرة أنني لا أريد أن أضيف إلى أهلي سبباً آخر للاكتئاب. لذلك يجب عليّ أن أبتسم. تصبح في لحظة ما مشاعرنا الإنسانية تردم في حفرة كبيرة لعدم قدرتنا على البوح بها إلى أي أحد من أصدقائنا. فالوحدة في الغربة أمام الجوع هي أمر بسيط جداً. عدم الأمان أمام الفقر شعور سطحي لا يجب عليك أن تبوح به.

نحن أفراد نتباهى بمعاناتنا أكثر. أنا حزين. فيرد صديقي: "أنا حزين أكثر منك"، وكأن المبالغة في الاكتئاب جائزة نخوض من أجلها ذلك السباق. وحتى لو كانت نهايته هي عدم القدرة على التحدث بمشاعرنا الإنسانية مرّة أخرى.

ما العيب الكبير في الشوق لسوريا اليوم؟ ما العيب في كون بلادنا يمكن أن تكون لعنة عاطفية علينا؟

هل الشوق لسوريا يعني الشوق لنظامها أو فقرها أو مجاعتها؟ أو حتى سوء معيشتها؟ هذا الشوق هو لكل تلك الذكريات التي رسمناها هنالك في تلك البقعة الجغرافية البائسة. كان من الممكن أن نولد في أماكن أفضل نقرر فيها حياتنا وننفصم بها عن واقع البلاد الفقيرة.

هل الشوق لسوريا يعني الشوق لنظامها أو فقرها أو مجاعتها؟ أو حتى سوء معيشتها؟

كان من الممكن أن أجيب مدير العمل خلال المقابلة بأنه خلال الخمس سنوات الماضية لم أر إلا أحلام والدي قد تحولت من تأمين الحياة المثالية لي والاستمتاع بحياته الباقية لتصبح متعلقة بما يمكن أن يتم تناوله يومياً على طاولة الغداء. أن تتحول عناوين أحلامك من النصيب الذي كان سيظهر لكل مجتهد لتصبح مرتبطة بالكثير من العوامل التي لم تكن تخطر في أي وقت كحلم، بل كانت سهلة الوصول بشكل كبير.

كما كنت أجاري كل شخص خرج من بلادي في فتراتها الأولى، وأستمع لمشاكله التي لا ترتقي إلى ما أعانيه يومياً. أحاول اليوم أن أجاري مشاكلي وأحلها بشكل فردي، دون أن أقدم أثرها السلبي لأي فرد داخل بلادي.

بعد مرور خمس دقائق من سؤال مديري لي، قلت له إنني أرى نفسي مكانه أجري هذه المقابلة مع شخص يسعى ليكسب الوظيفة. عملت بنصيحة صديقتي بأن أتخلى عن كوني سورياً وليد المعاناة والسلبية، ولكنني كسوري، لن أستطع أبداً نسيان ما مررت به. عند الانتهاء من تلك المقابلة وقبل أن أخرج من المكتب، قلت له: "عمرك لا تسأل سورياً خرج للتو من سوريا أين ترى نفسك بعد خمس سنين؟ لأن هذه الجملة كفيلة بأن تضعه في سوريا من جديد".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image