شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
عندما أصبحت زميلتي جدة في الثلاثين من عمرها

عندما أصبحت زميلتي جدة في الثلاثين من عمرها

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

الاثنين 8 أغسطس 202212:14 م

رأيتها تقف على عتبة عيادة طبيب الأطفال بقريتنا تحمل بين يديها رضيعاً يبكي. لم أتعرف عليها في البداية وإن كنت شعرت أننا سبق أن تقابلنا. اقتربت مني لتذكرني بمقعد المدرسة الابتدائية الذي كان يجمعنا. وعندما سألتها عن هوية الطفل الذي تحمله قالت: "حفيدي".
كنت أعرف أن زميلتي التي ما زالت في الثلاثين من عمرها تزوجت في سن الرابعة عشرة بعدما أخرجها أهلها من المدرسة. ولكني صدمت عندما اكتشفت أنها أيضاً زوّجت ابنتها في سن صغيرة لتصبح هي جدة في الثلاثين.
ما زالت بعض الأمور كما هي. نغمض أعيننا ونغض البصر عنها وندعي أننا لا نراها، ولكنها تحدث طوال الوقت. الكثير من الأهالي في الريف والمدن أيضاً يقومون بتزويج بناتهن في سن صغيرة. برأيهم، هذا هو الفوز الأعظم، وإن مكان البنت في النهاية "هو بيت زوجها".

كنت أعرف أن زميلتي التي ما زالت في الثلاثين من عمرها تزوجت في سن الرابعة عشرة بعدما أخرجها أهلها من المدرسة. ولكني صدمت عندما اكتشفت أنها أيضاً زوّجت ابنتها في سن صغيرة لتصبح هي جدة في الثلاثين

الجائزة الكبرى 

اعتادت "نعمة" في المدرسة الابتدائية أن تجلس في مقعدها هادئة لا تتحرك كثيراً. كان مستواها التعليمي ضعيفاً وإن كانت تملك من الطيبة ما يجعلني أحب أن أجلس بجوارها. لم تحب التجاوب مع المدرسين أو ربما لم تستطع. اعتمدت على تعاون المدرسين معها والغش الذي من خلاله انتقلت من مرحلة إلى أخرى. ومع وصولها للشهادة الابتدائية، لم تستطع أن تتجاوزها، ما جعلها تعيد عاماً كاملاً. وعندما كنت في الصف الثاني الإعدادي، عرفت أنها تركت المدرسة.
سمعت أمي تنقل الحديث الذي دار بينها وبين والدة "نعمة"، وتقول إنها خُطبت لابن عمها الذي ما زال في الثمانية عشرة. وإن "نعمة" تقدم له الكثير من الخطّاب للزواج، فقرر والدها أن يزوجها. أتذكر أنني سألت أمي: "وماذا ستفعل في الدراسة؟" فردت: "إنها ليست ناجحة وأهم شيء للبنت هو الزواج مهما نجحت لازم تتزوج. هذه هي الفرحة الكبيرة للأم".
في المدرسة، تناقل زملائي ما حدث مع "نعمة" وخطوبتها. ودُهشت وقتذاك أن أغلب زميلاتي يحسدنها على تخلصها من الدراسة ووجع القلب ودخولها عش الزواج مبكراً. كانت زميلتي التي لحقت بها بعد عام واحد تقول: "يا بختها. أنا نفسي كمان أخرج من المدرسة. وهي الدراسة هتعملي إيه؟ بابا بيقول الست مسيرها لزوجها".
في هذا الوقت، كنت أشارك باستمرار في الإذاعة المدرسية. وكان العدد الأكبر من المدرسين يشهدون بتفوقي. ولكن كانت أمي تدخل معي في جدال آخر لأنني لا أدخل المطبخ ولا أساعد في شيء. لم يشفع لي هذا التميز وقتها. وأعتقد أن الأمر استمر سنوات هكذا. فرغم سعادة أمي بنجاحاتي وفخرها - ولا أنكر ذلك - كنت أشعر باستمرار أنها تنتظر مني ما لا أستطيع تقديمه، وأن "نعمة" حازت الجائزة الكبرى.

في المدرسة، تناقل زملائي ما حدث مع "نعمة" وخطوبتها. ودُهشت وقتذاك أن أغلب زميلاتي يحسدنها على تخلصها من الدراسة ووجع القلب ودخولها عش الزواج مبكراً

مأساة متكررة 

بعد عام واحد على زواج "نعمة"، الذي تم طبعاً دون مأذون - ففي هذه الحالة يكون الإشهار كافياً، ويسجل الأب العقد عند محامٍ فقط، حتى تصل الفتاة لسن الثامنة عشرة، إذ ذاك يتم تسجيل العقد - انتشر في البلد خبر إنجابها فأصبحت تلك الفتاة أو الطفلة الصغيرة أماً في ذلك العمر.
انقطعت الأخبار عن "نعمة"، وواصلت أنا مسيرتي الدراسية. ولكن، لم تنته الأخبار المشابهة من حين إلى آخر. ابنة عمي تزوجت وهي في الثانوية. وجارتي تتباهي بكثرة طالبين يد ابنتها الصغيرة. أصبح الأمر وكأنه موضة حلت على القرية، وهي زواج البنات في هذه السن وخروجهن من المدرسة. تكون البنت في الابتدائية وأمها تسارع إلى تجهيزها وتشتري لها كل ما يلزم بيتها الزوجي.توالت الأفراح، وبينما لم أنشغل بذلك كثيراً، كان الأمر يشغل عائلتي أحياناً. لم يكن أبي يهتم بتلك المسائل. فما دمت متفوقة يرى أن من حقي أن أحصل على فرصتي كاملة في التعليم، وأمي أيضاً لم تعارضه، ولكنها من حين لآخر كانت تود أن تفرح بي مثل غيرها، وأن تراني عروساً.

كنت قد أنهيت دراستي الجامعية عندما رأيت نعمة مجدداً ومعها ابنتها. سألتها عن ابنتها، فقالت: "في الابتدائية لكن الظاهر ورثت مني كره التعليم". حاولت أن أقنعها بالعكس وطلبت منها أن تهتم بابنتها أكثر، حتى يكون لها نصيب من النجاح. هزت رأسها موافقة قبل أن تتركني وتذهب. وبعد أعوام قليلة، سمعت أن ابنتها تزوجت.

فتيات في سن صغيرة يتزوجن ويمارسن الأمومة وهن في وضع لا يسمح لهن حتى بفهم المعنى الحقيقي للأمومة.

مرة كنت أجلس مع شقيقتي وأخبرتها بما حدث، فقالت: "هذا الأمر عادي. الأهالي ترى أن الزواج أهم من التعليم"، فقلت: "بالتأكيد حياة نعمة كانت صعبة. كيف تفعل ذلك مع ابنتها وتجعلها تمر بما مرت به".
ردت أختي: "ومن قال لك إن حياتها كانت صعبة؟ إنهم يقتنعون أن هذه رسالتهم في الحياة وأنهم يقتربون إلى الله بهذه الطريقة".
لم يكن الأمر بعيداً عن أسرتي، فابنة خالي أيضاً تركت المدرسة وتزوجت في سن الخامسة عشرة. وبعد سنوات، كان لديها ثلاثة أولاد. وأصبحت زوجة خالي الشابة جدة في عمر الخامسة والثلاثين. وانتقل هذا الهوس من واحدة إلى الأخرى من بنات العائلة، حتى أصبحت لا أستوعب ما يحدث. وعندما دخلت في نقاش مع أخوالي بسبب تزويج بناتهن في هذا العمر، كل ما سمعته كان جملة: "زواج البنت سترة ليها".
ترديد الجمل الرنانة بين المدافعين عن حقوق المرأة أسهل بكثير من مواجهة الواقع بمرارته القابعة على صدورنا والتي تهدد مستقبلنا. فتيات في سن صغيرة يتزوجن ويمارسن الأمومة وهن في وضع لا يسمح لهن حتى بفهم المعنى الحقيقي للأمومة. والنتيجة هي أخطاء مكررة وطفولة مبتورة، وقناعات سامة تنتقل ريحها من مكان إلى آخر. ربما تهدأ قليلاً وينخفض صوتها فنصدق شعارات النجاة الكاذبة. ولكنها أبداً لا تختفي.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

فعلاً، ماذا تريد النساء في بلادٍ تموج بالنزاعات؟

"هل هذا وقت الحقوق، والأمّة العربية مشتعلة؟"

نحن في رصيف22، نُدرك أنّ حقوق المرأة، في عالمنا العربي تحديداً، لا تزال منقوصةً. وعليه، نسعى بكلّ ما أوتينا من عزمٍ وإيمان، إلى تكريس هذه الحقوق التي لا تتجزّأ، تحت أيّ ظرفٍ كان.

ونقوم بذلك يداً بيدٍ مع مختلف منظمات المجتمع المدني، لإعلاء الصوت النسوي من خلال حناجر وأقلام كاتباتنا الحريصات على إرساء العدالة التي تعلو ولا يُعلى عليها.

Website by WhiteBeard