شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!

"من حقي أن أتدلل وأشترط وأحب"... تأخّر قطار الزواج لكنه لم يفُت النساء "القويّات"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الخميس 27 يناير 202201:12 م

"لم أكمل تعليمي بسبب أوضاع أسرتي الاقتصادية الصعبة، فانتقلت إلى محافظة سوسة (الساحل التونسي)، للعمل في أحد المصانع الخاصة، لمساعدتها، وبقيت هناك سنواتٍ حتى تقدمت في السنّ، ولم أتزوج، وتدهور وضعي الصحي، فقررت العودة إلى المنزل للراحة"، تقول خولة (اسم مستعار)، لرصيف22.

خولة فتاة خجولة وغير منفتحة كثيراً على الدخول في علاقات مع الرجال، لذلك مرّت بعلاقة وحيدة في سوسة بعد قدومها من محافظتها القيروان (وسط غربي)، انتهت بالفشل، بسبب تدخل إحداهن وتفريقها بينهما، تضيف.

وتُرجع عدم انفتاحها هذا، إلى "عدم جدية الرجال ورغبتهم في تكوين علاقات عابرة، وأنا لست من هذا النوع، وهكذا مر الوقت والعمر".

كما تعزو خولة (46 سنةً)، أسباب تأخرها في الزواج إلى الظروف الاقتصادية الصعبة التي يمر بها الرجال، وإلى ارتفاع تكاليف الزواج في تونس، بالإضافة إلى عدم تحمل غالبيتهم المسؤولية، ورغبتهم في الارتباط بنساء يعملن بأجور مرتفعة، ليحمّلوهن كافة المسؤوليات، "ما جعل المرأة تهرب من الزواج. وبمشاهدتي لمعاناة أمثلة عدة، لم أتشجع على الأمر"، تقول.

يرى الباحث في علم الاجتماع، نجيب بوطالب، أن هناك تحولاً في ظاهرة تأخر سن الزواج، إذ انتقل معدل الزواج لدى الفتاة التونسية من 18 و20 سنةً، وأصبح الآن يتراوح بين 28 و 30 سنةً.

الحياة أهم من الزواج

ترى خولة نفسها محظوظةً، لأن أسرتها تتفهم وضعيتها، ولا تتدخل في قراراتها بخصوص مسألة الزواج من عدمه، وتراه "مكتوباً"، وقضاءً وقدراً من الله، وتقول: "لقد وجدت راحتي النفسية هكذا، وأعيش سعيدةً مع عائلتي".

كما تتحدث عن معاملة عادية تتلقاها من محيطها ومجتمعها، لأن الزواج "قسمة ونصيب"، "خاصةً وأنهم يرون كيف أني أستمر في عيش حياتي كما أريد وبسعادة".

"عدم جدية الرجال ورغبتهم في تكوين علاقات عابرة، جعلتني أرفض العلاقات الزواج، وأنا لست من هذا النوع. هكذا مر الوقت والعمر" تأخرن عن الزواج لكنهن يرفضن أن يكون مع الشخص الخطأ

وتشدد على أن الزواج "سنّة من سنن الحياة، تضمن استقرار المرأة، ولكن عدم حدوثه لا يعني نهاية الحياة، ويجب على المرأة تقبّل الواقع وحب الذات للعيش بسعادة، وأنا بصراحة راضية عن نفسي كلياً والحمد الله على نعمة الصحة والعائلة".

بدورها، توضح الإعلامية والناشطة السياسية والمدنية، فادية ضيف (40 عاماً)، أن عدم زواجها كان يعود في البداية إلى أسباب اجتماعية واقتصادية، بمرور أسرتها بأزمة مالية، وعيشها مرحلةً من الفقر والخصاصة.

وتوضح لرصيف22، أن وضع أسرة الفتاة المادي يؤثر على مستقبلها: "وصل الأمر بالفتاة إلى أنها لا تستطيع الزواج إلاّ إذا ورثت من أبيها أموالاً، أو ممتلكاتٍ قيّمةً، أو كانت تعمل براتب ممتاز".

قرار شخصي

وبمرور الوقت، تقول فادية ابنة مدينة مساكن في محافظة سوسة، إن القرار أصبح "شخصياً كردة فعل على عقلية الناس الذين لا يهتمون بالأخلاق وتربية الأسرة"، وقد قررت "الرفع من مستوى طلباتها وشروطها للزواج التي تتعلق أساساً بالمستوى الفكري والثقافي العالي للشريك المنتظر".

لم تواجه مشكلات مع أسرتها بشأن خياراتها للزواج، "ما عدا بعض الأسئلة من والدتي كأي أم طبيعية ترغب في الاطمئنان على ابنتها"، تقول، فيما يدعمها والدها الذي يرى ضرورة اقتناع ابنته بشريكها، وحرية اتخاذها قرار الزواج من عدمه، وإلا تبقى "معززةً مكرمةً في منزل والدها"، تضيف.

في المقابل، واجهتها مشكلات عدة مع المجتمع، وتحديداً مع الرجال الذين من بينهم من يواجهها بأحكام ذكورية، ويراها "عانساً" مسكينةً ويرغب في تمضية الوقت معها فحسب، ومنهم من يطلبها للزواج فقط لأنها حسب وجهة نظره "عانس"، وسترضى بأي شيء، وبكل الشروط، كتغيير طريقة لباسها، والحد من أوقات الخروج والمرح، ويرون في أنفسهم منقذين لها، ومنهم من يراها آلةً لتلبية احتياجاته الجنسية، وسهلةً خارج إطار الزواج، لمجرد تقدّمها في السن.

مجتمع ظالم

وللنساء في محيط فادية كذلك نصيب من المضايقات التي تتعرض لها، "فمنهن من تصفني بخاطفة الرجال المتزوجين، فقط لأني محبة للحياة والمرح، وواجهت في عملي مشكلات لأني التقطت صورةً مع زميل متزوج، ونشرتها، أو أردت الانتقال مع زميل آخر إلى العاصمة للعمل، ما اضطرهم إلى حذفي من قائمة أصدقائهم على فيسبوك"، تضيف.

وتسمع فادية عبارات استحقار كثيرة: "على ماذا تتدللين؟ وماذا تنتظرين؟ وهل تتصورين أنك ما زلت صغيرةً؟، وتزوّجي وأنجبي طفلاً ثم طلّقي؟". وتقول ضاحكةً: "يعاملونني وكأني أرنب، ويحاولون جرحي لكني لا أُجرح".

كانت في الماضي تشعر ببعض الضيق، ولكنها اليوم، "ومع نضجها الفكري لا تلقي بالاً لمثل هذه الأفكار، ولا لأصحابها احتراماً لثقافتها وطموحاتها وللإنجازات التي هي بصدد تحقيقها، حتى أنها أصبحت تتعامل مع كل شخص حسب حدود تفكيره وزاوية نظره"، تؤكد.

وبالنسبة إلى فادية، فإن الزواج "يتجاوز حدود عدّه مجرد أداة للجنس وللإنجاب وإنقاذاً من لقب "العنوسة"، ووسيلةً للاستقلالية من سلطة العائلة، "بل هو أرقى من ذلك، وكما تقول والدتي: "حانوت مسكّر (مغلق)، ولا كرية مشومة، فالأفضل أن أكون عزبةً أعيش حياتي كما أريد وأحقق أحلامي على أن أكون سجينة إنسان لا يقدّرني"، وفق تعبيرها.

وعلى الرغم من كل ما تتعرض له، إلا أن فكرة الزواج والوقوع في الحب ما زالت قائمةً لديها، "فمن حقي أن أحب وأن أتدلل وأن أشترط وأن أحلم بالارتباط بأفضل الرجال، ولدي أمل بأن أجد في النهاية رجل أحلامي الذي أقتنع به وأتزوجه وأكوّن معه أسرةً"، تقول.

قسمة ونصيب

وفاء (اسم مستعار)، هي الأخرى صحافية تونسية من محافظة نابل (الشمال الشرقي)، لم تتزوج إلى اليوم، وتُرجع ذلك إلى أسباب عدة، أولها رفضها الارتباط على الطريقة التقليدية، ورغبتها في عيش قصة حب تُتوّج بالزواج الذي "هو في النهاية قسمة ونصيب"، تقول لرصيف22.

ومن بين الأسباب كذلك، طبيعة عملها الصحافي التي رفضها بعض الرجال الذين تعرفت إليهم، ولم يتفهموا الأمر ما اضطرها إلى رفضهم واختيار مجال عملها على التنازل والزواج.

كما تعزو وفاء (40 عاماً)، تأخرها في الزواج إلى وضعيتها الاقتصادية المتواضعة التي تنفّر الرجال، ولا ترغّبهم في الارتباط بها، بالإضافة إلى عدم رغبتها في الزواج "بشخص لا أتفق معه على مستوى الأفكار ونمط العيش وطريقته"، تقول.

"على ماذا تتدللين؟ وماذا تنتظرين؟ وهل تتصورين أنك ما زلت صغيرةً؟، وتزوّجي وأنجبي طفلاً ثم طلّقي. يعاملونني وكأني أرنب، ويحاولون جرحي لكني لا أُجرح". تونسيات يرفضن الزواج من أجل الزواج

من جانبها، تتفهم أسرة وفاء وضعيتها وقراراتها بينما تجابه نظرات التساؤل من الأقارب والجيران الذين دائماً يوجهون لها الأسئلة نفسها كلما عادت إلى المنزل: "لماذا لم تتزوجي بعد؟ لم يعد هنالك وقت، متى سنفرح بك؟".

كما تستحضر بعض المواقف التي حدثت لها مع زملائها في العمل الذين يطرحون عليها دائماً السؤال ذاته: "لماذا لم تتزوجي بعد؟"، "وكأني متهمة أمامهم حتى أن إحدى زميلاتي قالت لي حرفياً: "إن شاء الله تخلط (تلحقي) تتزوجي"، تقول ضاحكةً.

كانت تتضايق في الماضي من تدخل محيطها في شؤونها الخاصة، لكن وفاء أصبحت تتعامل اليوم مع الأمر ببرودة، وتركّز فقط على تحقيق تجربة ممتازة في مجال الصحافة.

ترى وفاء، "أنه من الطبيعي أن أي فتاة ترغب في الاستقرار مع من تحب وتختار وفي تكوين أسرة وإنجاب أطفال، لكنها تعايشت مع ظروفها الواقعية ومع إمكانية عدم زواجها إطلاقاً، لأنها ترفض الزواج برجل طاعن في السن لمجرد أنها تقدمت في العمر".

وتقول: "أنا تعودت على العمل والسكن في تونس العاصمة، ولم أعد قادرةً على التنازل والعودة إلى الوراء. حذفت فكرة الزواج من عقلي، ولكن إذا جاءت فرصة مناسبة، فلن أرفضها".

حسب الديوان الوطني للأسرة والعمران البشري (مؤسسة رسمية)، فقد ارتفعت نسبة عدم الإقبال على الزواج في تونس لسنة 2019، إلى حدود 60 في المئة، بالإضافة إلى ارتفاع عدد العزبات إلى أكثر من مليونين وربع مليون امرأة من مجموع أكثر من خمسة ملايين امرأة من جملة أكثر من 11 مليون ساكن في تونس.

وأضاف المصدر ذاته أن نسبة "العنوسة" بلغت أقصى معدلاتها بين الإناث في سن الإخصاب الأقصى الذي يتراوح بين 25 و 34 سنةً.

كذلك ووفق آخر الإحصاءات الصادرة عن المعهد الوطني للإحصاء (مؤسسة رسمية)، لسنة 2021، فقد تم تسجيل أكثر من 21 ألف حالة زواج لفتاة في الفئة العمرية المتراوحة بين 20 و 24 سنةً، وأكثر من 32 ألف حالة بين 25 و 29 سنةً.

كما تم تسجيل أكثر من 17 ألف حالة زواج لفتاة بين 30 و34 سنةً، وثمانية آلاف حالة بين 35 و39 سنةً، وأكثر من أربعة آلاف بين 40 و44 سنةً، وأكثر من ألفي حالة زواج بين 45 و49 سنةً، وأكثر من ألفي حالة من 50 سنةً وما فوق.

تغيّر الأولويات

ولظاهرة تأخر سن الزواج في صفوف المرأة التونسية أسباب عدة، يلخصها أخصائي علم النفس، مروان رياحي، في تغيّر مسألة الاهتمامات والأولويات من وقت إلى آخر، ومنجيل إلى آخر.

ويوضح في هذا الصدد لرصيف22، أن أولويات المرأة لم تعد تقتصر اليوم على الزواج فحسب، لأنها أصبحت تطمح إلى إنهاء دراستها وتحصيل الشهادات العلمية وتولّي مناصب عليا في البلاد، "وبذلك تؤخر موضوع الزواج وتتخلى عن الفكرة التقليدية الرائجة التي تربط وجودها بالقيام بواجبات المنزل والزواج وإنجاب الأطفال في سن مبكرة".

ويتحدث رياحي عن فكرة الاستقلالية لدى المرأة التونسية التي "تثور وتتمرّد على التقسيم التقليدي للأدوار الذي يحمّل الرجل كافة المسؤوليات من توفير مصاريف المنزل والعمل، فيما يحصر دورها في الزواج والتنظيف وتربية الأطفال، ما يجعلها تبحث عن استقلاليتها خارج إطار الزواج وسلطة الرجل من خلال الدراسة والعمل، ما يولّد لديها أفكار القوة والهيمنة والسلطة".

وينتج عن أفكار الهيمنة لدى المرأة عداوة بين الجنسين، "وهو ما نلاحظه على مواقع التواصل الاجتماعي، فيصبحان غير راغبَين في الزواج من بعضهما البعض"، يقول رياحي.

كما أن هذه العداوة "ناتجة عن نوع من نقمة المرأة (الانتقام)، على الرجل، بسبب تصرفاته وهيمنته الذكورية وتغييب حضورها في المجتمع"، يضيف.

بدوره، يشير الباحث في علم الاجتماع نجيب بوطالب، إلى عوامل عدة ساهمت في تأخر سن الزواج لدى المرأة التونسية، من ضمنها عوامل اجتماعية بتغيّر عقلية المرأة التي أصبحت تدرس إلى مستويات متقدمة، وارتفع عدد الإناث المقبلات على الدراسة ودخولهن سوق الشغل.

وتحدث عن عوامل ثقافية شملت تقلّص عقليّة الأب والأخ الذكورية المهيمنة التي تمنع الفتاة من مواصلة تعليمها، ومن العمل، إلى دعمها والسماح لها بذلك، ما ساهم في تغيّر مفهوم تأمين الحياة في المجتمع التونسي الذي كان قديماً يرتكز على زواج الفتاة داخل محيط قبيلتها للحفاظ على موروث وملكية العائلة إلى تأمين حياتها بالحصول على عمل وراتب جيّدَين.

وأشار نجيب بوطالب إلى عوامل اقتصادية أبرزها غلاء المعيشة وارتفاع تكاليف الزواج في تونس، ما يجعل الأسرة لا تشجع أبناءها على الزواج المبكر، وتفرض على الفتاة تأخير زواجها.

كما أن مفهوم الزواج تغيّر، ولم يعد الإنجاب هو الهدف الأساسي من ورائه، بل الاستقرار والسعادة والراحة بالإضافة إلى أن المرأة التونسية ترى أن قرار الارتباط الرسمي من عدمه شخصي جراء الحكم على أمثلة عدة غير ناجحة لأزواج يتعرضون للعديد من المشكلات، "فيفضلن العيش بمفردهن لربح راحة بالهن"، يقول.

ويضيف أن هذا القرار الشخصي "يعكس قيمة شخصية الفتاة المتعلمة المستقلة بذاتها، والمتحكمة ببناء مصيرها على عكس الفتاة الريفية وفي المجتمع التقليدي المعتمدة على قيم اجتماعية أخرى بالتضحية بنفسها وبمواقفها وبسعادتها أحياناً، من أجل إرضاء المجتمع، وهي تُسمّى المرأة "المغبونة".

وبالنسبة إلى بوطالب، فلا توجد مخاطر لتأخر سن الزواج على المجتمع، لأن "تونس لم تصل إلى الحالات التي وصلت إليها المجتمعات الصناعية في الغرب، مثل شيخوخة المجتمع وتقلص نسبة الإنجاب وتقلص عدد الأطفال والأسر".

ويرى أن من يتحدثون عن انعكاسات سلبية لهذه الظاهرة، "هم فئة المحافظين دينياً الذين يرون أن المجتمع تفسّخ وانهار بخروج المرأة عن التقاليد، وهو رأي يمكن أن يكون موجوداً، ولكن بشكل بسيط، وليس بالخطير أو الجدي، بل كلما ازدادت خبرة المرأة في الحياة، كلما زادت قدرتها على إنجاح تجربة الزواج"، يختم الباحث.        


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image