"كأنو شي نيزك رح يضرب. وزّعوا كمامات وقالوا للعالم تِخْلي بعض الأحياء وتزيح سياراتها"؛ هكذا يختصر ويليام نون شقيق الشهيد في فوج إطفاء بيروت جو نون، المشهدية التي سادت المناطق المجاورة لمرفأ بيروت في الأيام الماضية.
منذ أكثر من ثلاثة أسابيع والتحذيرات تتوالى، وكأن بيروت تستعد لارتطام كبير كما يصفه ويليام؛ عناصر أمنية منتشرة، وسيارات إسعاف وإطفاء على أهبّة الاستعداد، وتحذيرات سلوكية للمواطنين في حال انهيار مبنى إهراءات القمح في المرفأ، وكأنها عملية تجهيز كاملة لكارثة طبيعية مرتقبة، تعوم على ركام الكارثة الكبرى.
الانهيار الجديد
عصر أمس الأحد في 31 من تموز/ يوليو 2022، سقط جزء متصدع من إهراءات القمح في مرفأ بيروت، أي صومعتين من الجزء الشمالي، قبل أربعة أيام فقط من الذكرى السنوية الثانية لانفجار 4 آب/ أغسطس 2020. لم يكن انهيار جزء من إهراءات مرفأ بيروت حدثاً مفاجئاً أو غير متوقع بل كانت كل المؤشرات تقود إليه.
منذ وقوع الانفجار وما تلاه من عدم تفريغ للقمح الموجود، وقع الخلاف بين المعنيين في مراكز الحكم الذين لم يتخذوا هذه الخطوة منذ عامين وحتى اليوم، وكانوا من مؤيدي هدم الإهراءات لإعادة ترميم المرفأ وبنائه، وبين أهالي الضحايا ومعهم بعض الأصوات من داخل مجلس النواب والحكومة الذين طالبوا بتفريغ القمح بالطرق اللازمة درءاً لخطر احتراقه -الذي بدأ قبل ثلاثة أسابيع بالفعل- مع الإبقاء على الإهراءات كشاهد وحيد وأخير على جريمة العصر في لبنان، جريمة مرفأ بيروت.
منذ أكثر من ثلاثة أسابيع والتحذيرات تتوالى، وكأن بيروت تستعد لارتطام كبير كما يصفه ويليام؛ عناصر أمنية منتشرة، وسيارات إسعاف وإطفاء على أهبّة الاستعداد
حكومة تصريف الأعمال اللبنانية برئاسة نجيب ميقاتي، كانت قد اتخذت قراراً في نيسان/ أبريل الفائت، بهدم الإهراءات خشيةً على السلامة العامة، لكنها علّقت تطبيقه بعد اعتراضات قدّمتها مجموعات مدنية ولجنة أهالي ضحايا انفجار المرفأ التي تطالب بتحويل الإهراءات إلى معلم شاهد على الانفجار، إلى أن بدأ الحريق فيها يتصاعد ويتواصل في الأسابيع المنصرمة.
وقد شهدت هذه الأسابيع تحذيرات كبيرةً من وزارتي الصحة والبيئة للتعامل مع أي احتراق أو سقوط للقسم الشمالي من الإهراءات، إلى جانب خطة لوجستية وضعتها الحكومة استنفرت فيها الجيش والطواقم الطبية ومن بينها الصليب الأحمر اللبناني.
التهويل المنظّم
قام الصليب الأحمر اللبناني في الأيام الفائتة، بتوزيع 300 ألف كمامة واقية، إلى جانب تجهيز 15 سيارة إسعاف و10 سيارات قابلة للازدياد، وذلك لنقل الناس عند الحاجة مع استنفار كافة المراكز استجابةً لطلب وزارة الصحة وخطة وزارة الداخلية في مشهد يعيد إلى أذهان متابعي أفلام الخيال العلمي فيلم interstellar الشهير، وقصته أن البشر أفرطوا في استغلال موارد كوكبنا إلى أن أصبح يحتضر، ولم يَعُدْ قادراً على توفير الحياة، فصارت تكسوه الرمال والغبار ليصبح الحل الوحيد مغادرته بحثاً عن مواطن أخرى صالحة هرباً من "الأبوكاليبس"، فيما على أرض الواقع اللبناني، لا سبيل أساساً أمام اللبنانيين أو غالبيتهم العظمى للبحث عن أرض بديلة.
يقول نون لرصيف22: "هناك محاولة تخويف وتهويل للناس. الغبار الذي انتشر بعد سقوط أجزاء من الإهراءات غير مسرطن وغير سامّ بشكل خطير، ولن يلغي تحركنا في 4 آب/ أغسطس الحالي، مع الحفاظ على مسافات آمنة"، محمّلاً السلطة السياسية "مسؤولية الاستهتار بموقع الجريمة وكذلك مسؤولية أول حريق أصاب القمح والذرة المخزّنين وما تبعه حتى اليوم".
الرواية الرسمية من أجل طمس معالم الجريمة يرويها المستشار الإعلامي لرئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، فارس الجميل، الذي رأى في حديثه إلى رصيف22، أن "الحل والخيار الوحيدين كانا هدم الإهراءات، إلا أن معارضة أهالي ضحايا المرفأ أرجأت البدء بالتنفيذ ووقع الحريق".
كُل المشهد الذي حيك في الأسابيع الأخيرة واستنفار الوزارات والصليب الأحمر تحسباً لسقوط الإهراءات يُذكر بفيلم interstellar الشهير، وقصته أن البشر أفرطوا في استغلال موارد كوكبنا إلى أن أصبح يحتضر، والحل الوحيد مغادرته بحثاً عن كوكب آخر
يُكمل روايته التي تبنّاها ميقاتي منذ زمن: "تدعيم الإهراءات الآيلة إلى السقوط غير ممكن تقنياً أو مادياً وسقوطها محتوم لكن بالرغم من ذلك لم تُرِد الحكومة الصدام مع الأهالي ومن يؤيد نظريتهم ببقائها، أما القمح الموجود فقد تم التعامل مع الكميات التي يمكن التعامل معها منه عبر تحويلها إلى فحم وحطب صناعيين، فيما بقي القسم الآخر المشتعل منذ أسابيع والذي كلما حاولت الفرق إطفاءه توهج أكثر بسبب تخمّره".
علامات استفهام
أمام الرواية الرسمية التي يتحدث بها المعنيون بثقة، أسئلة عديدة تطرحها ماريانا فودوليان، رئيسة جمعية أهالي ضحايا انفجار مرفأ بيروت وشقيقة الشهيدة غايا فودوليان، وتسأل: "لماذا لم يتم تنظيف كافة الإهراءات من كل القمح الموجود، علماً أنهم قالوا للناس إنه تم تنظيف كل شيء؟ لماذا لم يتم إخماد الحريق؟ ما هذا التحايل على الشعب؟ ولماذا تنعدم الشفافية؟".
تُحمل فودوليان، "السلطة السياسية المسؤولية عن كل ما يجري، ولو آمنّا أن الحريق غير مفتعل من قبلها، إلا أنها تباطأت عن إخماده وتتخبط في تصريحاتها للإعلام بنظريات غير دقيقة عن عدم إمكانية رش المياه أو تحليق هليكوبتر فوق الموقع، والحل الوحيد برأيهم كان استمرار تبريد القمح. فلماذا لم يواصلوا العمل به؟".
واللافت أنه بعد دقائق على انهيار جزء من الإهراءات، أمس الأحد، كانت مروحية للجيش اللبناني تعبر فوق الحريق وترمي حمولتها من المياه من أجل إخماده أو تبريد الأجزاء المتبقية منه، وهو ما يتعارض مع الرواية التي دأبت الحكومة على ترديدها.
السلطة السياسية مسؤولة عن كل ما يجري، ولو آمنّا أن الحريق غير مفتعل من قبلها، إلا أنها تباطأت عن إخماده وتتخبط في تصريحاتها للإعلام بنظريات غير دقيقة عن عدم إمكانية رش المياه أو تحليق هليكوبتر فوق الموقع
وتشير فودوليان إلى أن "أوّل مؤتمر لجمعية أهالي ضحايا انفجار مرفأ بيروت في الرابع من نيسان/ أبريل 2022، ترافق مع أوّل تصاعد للدخان من الإهراءات. لا أعلم ما سرّ هذا التزامن، ولم ندرِ يومها أن القمح بدأ يحترق".
الإهمال المتعمّد
علّق وزير الأشغال العامة في حكومة تصريف الأعمال، علي حمية، على تصدّع الجزء الشمالي من الإهراءات والحريق المستمر في تغريدة اليوم، 1 آب/ أغسطس، كتب فيها: "مرفأ بيروت يعمل كعادته على قدم وساق، وكما قلنا سابقاً: سقوط الإهراءات لا يعرقل العمل فيه، ولا يبطئ مسار تفعيله، إضافة إلى أنه لن يؤثر على قرارنا المبرم بإعادة إعماره، كونه مرفقاً حيوياً للبنان، وإحدى بواباته المهمة التي تعمّق دوره المنشود على ساحل المتوسط".
في المقابل، تقول النائبة (من ضمن قوى التغيير) نجاة عون، لرصيف22، إن "الواقعة وقعت بسبب إهمال المعنيين منذ عام 2020 وعدم استجابتهم بالطرق اللازمة"، مشيرةً إلى أنه "لن تنتج انبعاثات بيئية سامة عما حصل والأمل قائم بإنقاذ الجهة الجنوبية من إهراءات القمح، فهناك إرادة شعبية محقة للحفاظ على الشاهد والمعلم الوحيد المتبقي في جريمة لم تتحقق العدالة فيها بعد، ونحن ملتزمون بممارسة الضغط في هذا الإطار من مواقعنا، سواء عبر طرح القوانين المعجّلة في مجلس النواب أو من خلال عمل الزميل النقيب ملحم خلف محامي ضحايا المرفأ، بالإضافة إلى التواصل مع الفرقاء المعنيين في الخارج والجمعيات المدنية المختصة".
التروما المستمرّة
"التروما"، أو الصدمة النفسية، تملك تعريفات متعددة تجمع على أنها إصابة نفسية جسيمة تحل بالفرد أو الجماعة نتيجة حادث استثنائي غير طبيعي
"التروما"، أو الصدمة النفسية، تملك تعريفات متعددة تجمع على أنها إصابة نفسية جسيمة تحل بالفرد أو الجماعة نتيجة حادث استثنائي غير طبيعي تجعله في حالة من الرعب والإحباط والعجز، والتروما كضيف ثقيل تختار تاريخ الذكرى السنوية لتعود وتجثم على قلب صاحبها.
لم يُشفَ من تروما 4 آب/ أغسطس 2020، حتى اليوم، سوى الذين قضوا فيه. 222 ضحيةً خلفهم عائلات ثكلى وأصدقاء فاقدون وأحبّة فُطرت قلوبهم، وأكثر من ستة آلاف جريح عانوا ويعانون من آلام جسدية ونفسية بعضها لا يمكن لأي علاج أن يشفيه، فضلاً عن دمار مادي هائل في الأبنية السكنية والمؤسسات التجارية.
تقول فودوليان: "أرض المرفأ فيها مدافننا ومسرح الجريمة الذي يريدون طمسه، لا يوجد أي احترام لأوجاعنا، ضحايانا ماتوا في 4 آب/ أغسطس 2020، لكننا نموت كل يوم وهذه السلطة تتفنن في قتل شعبها. هم كاذبون ولا تكفينا معرفة الحقيقة في وجههم فقط، بل تحقيق العدالة".
ولغرض العدالة، يكشف ويليام نون، أن المسيرة في 4 آب/ أغسطس هذه المرة ستتكلل بالمطالبة بلجنة تقصّي حقائق دولية تدعم التحقيق اللبناني لمدة 6 أشهر، مستبشراً خيراً بـ"النمط الجديد في مجلس النواب وطروحات القوانين المعجلة في قضية المرفأ".
سهى منيمنة، من حملة الإهراءات والمدينة، توصّف ما تقوم به الجهات المعنية في الدولة اللبنانية بـ"عرقلة التحقيق، فغير دقيق أن الإهراءات كانت ستقع في جميع الحالات، هناك وسائل عدة حول العالم كان من الجدير اللجوء إليها قبل الوصول إلى هذا الوضع الكارثي. لا نتهم أحداً بافتعال الحريق لكن من الواضح أن بعض الجهات السياسية لا تريد بقاء مبنى الإهراءات. لا عدالة حتى اليوم ولا أدنى حد من الثقة بين الناس والطبقة السياسية، بالرغم من ذلك يريدون حرمانهم حتى من الذكرى".
في ذاكرة كل لبناني، حتماً، صرخات ومشاهد من الانفجار المشؤوم. ومن بين شريط الصور لا بدّ من واحدة لإهراءات القمح، والدخان متصاعد منها، أو لتصدّع في الأطراف وطوّافات تحمل المياه وتدور حولها. صور تعود اليوم لتُذكّر أن الإهمال مُستمرّ، وطمس الجريمة أولوية، والضحايا عدالتهم مؤجلة، إلى حين قد يطول، كثيراً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ أسبوعمقال رائع فعلا وواقعي