"لا تنسني... لا تكن قادراً على نسياني...
عندما تمارس الحب...
عندما تقبل أحداً...
بهذه الكلمات الحزينة وبصوتها الشجي دخلت أغنية "لا تنساني" (Unutama Beni) للمطربة التركية إسمراي Esmeray بيوت الشعب التركي قبل قرابة الخمسين عاماً، متصدرة الترتيب في المسابقة الغنائية "Toplu İğne Beste Yarışmas"، والتي أقيمت عام 1974 على مستوى تركيا، وكانت مفتوحة لجميع المغنين والملحنين، وكانت من أهم المحطات في تاريخ حركة أغاني البوب في تركيا في سبعينيات القرن الماضي.
وعلى الرغم من أن الأغنية "لا تنساني" لا تحمل في كلماتها طابعاً سياسياً أو أفكاراً اجتماعية مثيرة للجدل، لكن تم حظر بثها لاحقاً على الراديو والتلفاز من قبل المؤسسة المنظمة والراعية للمسابقة، راديو وتلفزيون تركيا (TRT)، التي اعتبرت الأغنية رديئة وغير مناسبة لتمثيل الموسيقى التركية الحديثة، وبحسب عالمة الأنثروبولوجيا Kornelia Binicewicz فإن سبب حظر الأغنية كان اعتماد المقامات العربية (مقام الحجاز) في تلحينها، في الوقت الذي كانت فيه أنظار تركيا تتجه نحو الغرب، وكان ينظر إلى الموسيقى والثقافة العربية على أنها رموز لثقافة غير مرغوب فيها.
لون بشرتها أصبح هو لون قدرها... حياة المطربة التركية "إسمراي"
تنتمي إسمراي لأقلية تركية تدعى Afro-Türk وهي جماعات تركية تنحدر من أصول إفريقية، كانت قد انتقلت إلى تركيا عبر تجارة العبيد زمن الدولة العثمانية. والدها من أصول مغربية ووالدتها من أصول تركية. بدأت إسمراي حياتها كممثلة مسرحية، وشاركت في أدوار جانبية في بعض الأفلام السينمائية، ثم انتقلت إلى الغناء في عام 1972، ليبرز اسمها بعد عامين عند فوزها بالجائزة الأولى في المسابقة، متفوقة على الكثير من مشاهير الغناء في تلك الفترة. شارك في المسابقة عدد لا يحصى من الأغاني وانتقلت تسع عشرة أغنية للمرحلة الأخيرة، تجاوزتهم كلهم أغنية إسمراي بفارق كبير، حيث حصلت على 73 صوتاً من أصوات لجنة التحكيم المكونة من 300 شخص، في حين حصلت الأغنية التي تليها على 33 نقطة.
رغم النجاح الباهر للأغنية وتألق إسمراي في تلك الفترة، لكن ما جعل منها مطربة ذات مكانة خاصة لدى الشعب التركي، وجعل اسمها محفوراً في ذاكرته، هو الأغنية الشهيرة "Gel Tezkere" التي أطلقتها عام 1977، والتي سلطت فيها الضوء على حياة الجنود في الخدمة العسكرية الإلزامية التي كانت تستمر 18 شهراً، ومشاعرهم ومشاعر أهلهم.
أصبحت هذه الأغنية من فلكلوريات الجنود الأتراك والشعب التركي، يرددها كل من يخدم في الجيش وكل من يترقب عودة شخص يحبه من خدمة العسكرية. وفي يوم وفاة إسمراي في عام 2002 خرج الجنود الأتراك في جنازتها حاملين نعشها مكللاً بالورد الأبيض، وساروا به إلى قبرها على ألحان أغنيتها "لا تنساني"، وبالفعل لم ينس الجنود الأتراك أو الشعب التركي إسمراي إلى يومنا هذا...
تحكي إسمراي عن صورة المرأة سمراء البشرة في المجتمع التركي، وكيف يركض الأطفال هرباً منها وهم يرددون رقم 13.5، وهي خرافة قديمة كان يؤمن بها بعض الأتراك، حيث يقولون هذا الرقم وهم يقرصون أنفسهم، كردة فعل عندما يرون شخصاً أسمر البشرة لطرد الحظ السيء الذي قد يجلبه هذا الشخص
هل كانت إسمراي في مجتمع لم يألف تعدد الأعراق بهذه الورديّة؟
لا يمكن الجزم أن ما حدث، إثر فوز أغنيتها في المركز الأول وما تلاه من رفض الرقابة بثَّ أغنيتها، كان مبنياً على دوافع عنصرية. لكن المؤكد أن حياة إسمراي كانت مليئة باللحظات العصيبة والمواقف العنصرية، حالها كحال أي شخص غريب في مجتمع لا يرحب بالاختلاف، وقد عبرت عن بعض هذه المواقف بأغنيتها "13.5" التي لم تحظى باهتمام الناس كما باقي أغانيها.
حكت إسمراي في الأغنية ما تبدو عليه حياة الفتاة السمراء في إسطنبول، وما تتعرض له من إحباط وظلم بسبب لون بشرتها، تبدأ الأغنية بترنيمة شعبية يرددها أطفال الحي، يذكرون فيها أن هناك فتاة عربية تنظر من النافذة. وكلمة عرب في العرف الشعبي كانت تشير إلى كل شخص أسمر البشرة.
تصف إسمراي في الأغنية الصورة النمطية للمرأة سمراء البشرة، من شعر مجعد وشفاه حمراء، وكيف يركض الأطفال هرباً منها في الحي وهم يرددون رقم ثلاثة عشر ونصف، وهي خرافة قديمة كان يؤمن بها بعض الأتراك قديماً، حيث يقولون هذا الرقم وهم يقرصون أنفسهم، كردة فعل عندما يرون شخصاً أسمر البشرة لطرد الحظ السيء الذي قد يجلبه هذا الشخص. كما تقول إسمراي في الأغنية إن لون بشرتها أصبح هو لون قدرها، وأنه لا حق لها أن تعيش بسلام، ولا حق لها بأن تحمل قلباً في جوفها في إشارة لنظرة بعض الناس إليها أنها ليست من بني البشر.
هل تعود حالة الطمأنينة التي كانت تملأ نفوس الأجانب المقيمين في تركيا وزائريها؟
تطور المجتمع التركي في جوهره في العقود الأخيرة، ومعه بدى أكثر انفتاحاً، وتجاوز الى حد كبير العنصرية تجاه أصحاب البشرة السمراء والأعراق والقوميات الأخرى، وتجاوزت تركيا أغلب الاضطرابات والمشاكل الداخلية مع الأكراد في شرق تركيا، وتقاربت مع العرب وفتحت لهم آفاقاً استثمارية واقتصادية متنوعة، كذلك باتت قاب قوسين أو أدنى من تجاوز القطيعة التاريخية مع الأرمن.
هذا الانفتاح تزامن مع تحول تركيا الى وجهة سياحية محببة للسواح وغيرهم من الباحثين عن أوطان بديلة بعدما ضاقت بهم أوطانهم، حيث أصبحت ملاذاً للكثير من اللاجئين والناشطين العرب الهاربين من بطش أنظمتهم وحكوماتهم.
أما الشعب التركي فقد تعامل مع اللاجئين السوريين والعرب بصورة حسنة ورحب بهم، ما رفع رصيد تركيا كبلد وشعب في قلوب العرب جميعاً، لكن مؤخراً ونتيجة الوضع الاقتصادي المتردي في تركيا، ارتفعت بعض الأصوات العنصرية لدرجة غير معهودة، وتحول بعضها من مجرد خطاب كراهية في الشارع أو على الإنترنت إلى سلوك يمارس على أرض الواقع.
إما أن تنتصر إسمراي وتفوز تركيا بقلوب العالم، أو ينتصر خطاب الكراهية وتدور عقارب الزمن في تركيا نحو الخلف
يكاد لا يمر يوم دون خبر عن اعتداء عنصري هنا أو هناك، حتى أصبحت الاعتداءات تطال السياح والأجانب في البلاد، بضعة شبان في استانبول يعتدون على صحفي إسباني بذريعة أنه يبدو سورياً أو أفغانياً، عجوز تركي يوبخ أباً أسود البشرة أمام أطفاله في المترو، مطالباً إياه بالعودة إلى المكان الذي أتى منه، ولم تقتصر هذه الممارسات على تصرفات فردية فقط، أكبر شركة ملابس في تركيا نشرت بيان اعتذار إثر اعتراض بعض المواطنين الأتراك على بيع الشركة كنزة أطفال تحوي كتابة باللغة العربية، ولتسحب بعدها المنتج من السوق، في حين تعج قائمة منتجات الشركة بملابس تحوي كتابات باللغة الإنكليزية ولغات أخرى.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...