لله درّ كاتب أغنية فيروز "أسامينا". ورثت اسمي محمد، كوني الابن البكر، من اسم جدي الذي بدوره أطلق على أبي اسم عبد القادر تيمّناً باسم أبيه، وبهذا أكون محمد بن عبد القادر بن محمد بن عبد القادر، بتتابع مستمر منذ قرن ونيف من الزمن، فأين التعب في هذا الاستنساخ، خاصةً أن التقاليد الموروثة تفترض أدبياً أنني سأطلق على ابني اسم عبد القادر؟
إن رغبة الإنسان في الحفاظ على بقائه الخاص عن طريق أولاده قديمة جداً في التاريخ، ولكن محاولة البقاء عن طريق الاسم قضية محدثة وهامشية وبائسة.
أطلق الكبار في طفولتي عليّ اسم "أبو جاسم"، ولم أعلم للاسم سبباً. فهمت من أمي أن من يحمل اسم محمد يُفترض منطقياً أن يكنّى بأبي جاسم، أي قاسم على اسم ابن الرسول البكر، ولكن بعض المناطق في سوريا تستعيض عن القاف بالجيم، لذا أصبح جاسم اسماً رسمياً ومتداولاً. يا له من جهد وتعب في استنباط ما يكنّى به المرء بمجرد أن يحمل اسماً محدداً! فلا يكفي أن يكون اسمك محمد موروثاً لتصبح من دون أن تعلم أبا جاسم/ قاسم. وطبعاً يغدو التطير بلا قيمة عندما يسمّي أحدهم ابنه باسم أحد أولاد النبي، وكلهم ماتوا صغاراً! هل أنا الوحيد الذي يقلقه هذا التحدي للتطير؟
وإذا وضعنا التعب في اختيار الاسم جانباً، كيف تكون سرقة الاسم؟ الإمام الغزالي على سبيل المثال كان يحمل اسم محمد بن محمد بن محمد بن أحمد، وربما خفة دمه هي ما دفعته إلى التمرد في اسم ابنه حامد الذي مات صغيراً. من يعلم! لو كبر وتزوج ربما أورث ابنه اسم أبيه محمد! فنكون أمام متتالية رياضية من 3 بواحد قد يكون لها شأنٌ لو كُتب لها الاستمرار.
يا له من جهد وتعب في استنباط ما يكنّى به المرء بمجرد أن يحمل اسماً محدداً! فلا يكفي أن يكون اسمك محمد موروثاً لتصبح من دون أن تعلم أبا جاسم/ قاسم. وطبعاً يغدو التطير بلا قيمة عندما يسمّي أحدهم ابنه باسم أحد أولاد النبي، وكلهم ماتوا صغاراً! هل أنا الوحيد الذي يقلقه هذا التحدي للتطير؟
لو تعرف يا قارئي كم بذلت من الجهد في التدرب على عدم الالتفات إلى صوت المنادي في الشارع "يا محمد"، إلا بعد 5 أو 6 ثوانٍ، لأضحك في سري مع شلة من أصحاب أسماء مثل محمود ومصطفى وأحمد المتساوية مع المحمدات في المحيط، والذين تطلعوا بحثاً عن هوية المنادي اللئيم. هذه الإشكالية من انعدام الندرة، وقضايا أقل أهميةً، دفعتني إلى أن أقول بفخر أمام أبي في اجتماع عائلي مصغر إنني لن أسمّي ابني عبد القادر، ليرد بسعادة: أريد ما تريد، فينطلق أحد الأعمام في محاولة لتسويد الوجهة الأبدية في العائلات متبرعاً بأنه سيطلق على ابنه اسم عبد القادر، فيردّ أبي بسعادة أيضاً: أريد ما تريد.
علينا أن نكون خفيفي الوزن لنصدق أن الحديث القائل "خير الأسماء ما عبّد وحمّد"، هو دافع الشعوب وراء الإقبال على اسم محمد ومشتقاته اللفظية وأسماء آل بيته. إنما الدافع الحقيقي هو الاحترام الشعبي العميق لهذه الشخصية التي نجحت في تحطيم عوامل الزمن والتطير والتلفيقات التاريخية والخصوصية اللغوية أيضاً، ففي تركيا مثلاً مُسخ لفظ محمد إلى مهمت أو ممت، علماً بأن حرفي الحاء والدال معروفان في اللغة التركية، ولكن التصور العام يرى في قدسية الاسم ما يمنع أن يُطلق بخفة على كائن من كان، وقد يكون سيّئ السيرة، بالرغم من اقتراب اسم مهمت من اسم نشأت الذي هو عبارة عن غلطة تركية في اللغة العربية.
لو تعرف يا قارئي كم بذلت من الجهد في التدرب على عدم الالتفات إلى صوت المنادي في الشارع "يا محمد"، إلا بعد 5 أو 6 ثوانٍ، لأضحك في سري مع شلة من أصحاب أسماء مثل محمود ومصطفى وأحمد المتساوية مع المحمدات في المحيط، والذين تطلعوا بحثاً عن هوية المنادي اللئيم
إن الإقبال على اسم محمد درس اجتماعي وتاريخي ذو عبر، منها على سبيل المثال، عندما تذهب أدراج الرياح محاولات الفقهاء ورجال الدين الكثيرة عبر القرون في إضفاء صورة الصحابي على شخصية إسلامية محددة، وهي أسماء لا ولن تقبلها الذاكرة الشعبية كمصدر للحق أو الخير أو البطولة، فكم من معاوية عرفت في حياتك؟ وهل يستطيع أن يكون جاداً ويجرب اسم يزيد على ابنه؟ لا بل إن المحنة الحقيقة تكمن عند شخص يحمل اسم معاوية، وهو ذو إحساس ديني مرهف، فماذا سيكون اسم ولده الأول او ابنته الأولى؟ الحسن أو الحسين أو زينب؟ أعتقد أن حس الفكاهة التربوي في هذه العائلة يستحق بثاً تلفزيونياً ومباشراً. شخصياً، لا أستطيع أن أمنع نفسي من تخيل زوجة معاوية تعاتبه بلطف بعد نوم الأطفال: "لقد تحاملت كثيراً اليوم على الحسن أمام الضيوف، وأظن أن تحاملك هذا يعود لسبب تاريخي وليس لتصرفات ابننا". إن الذاكرة الاجتماعية الشعبية وبالرغم من مظالم النسيان والتحوير التي ترتكبها أحياناً، فيها من صفاء سريرة الزمن الذي ينتقي ويصطفي ويمجد. هل تحدّث الشاعر كاتب كلمات أغنية فيروز "أسامينا"، عن هذه القضايا المتعبة والمعقدة في أثناء استغراقه في وصف عيون أصحاب الأسماء؟ بالتأكيد لا!
شخصياً، لا أستطيع أن أمنع نفسي من تخيل زوجة معاوية تعاتبه بلطف بعد نوم الأطفال: "لقد تحاملت كثيراً اليوم على الحسن أمام الضيوف، وأظن أن تحاملك هذا يعود لسبب تاريخي وليس لتصرفات ابننا".
ثمة مشكلة تواجه المهتمين بتتبع حذافير سنّة النبي صلى الله عليه وسلم، لباساً وحفّ شوارب واستخدام سواك و و ويقلقون راحة العباد لأجلها بالعودة إلى المصادر وأمهات الكتب والسيرة وحواشي السيرة. فالرسول الكريم أطلق على ابنه الأول اسم القاسم، ولم يلتزم باسم عبد الله وهو اسم أبيه، بل كان اسم عبد الله مختصاً بابنه الثاني! فكيف يصحّ أن نطلق اسم الأب على الابن البكر والرسول لم يفعل ذلك؟ أليس هذا الفعل بدعةً؟ وتالياً هل من السنّة أن يكون اسم الابن الأول لمن يحمل اسم محمد، القاسم؟ أم عليه أن يطلق اسم أبيه على المولود الثاني الذي قد يكون أنثى؟ أسئلة كهذه كانت تبقيني في حصة التربية الدينية في المدرسة متابعاً فقط.
شخصياً، لا أكره اسمي أبداً، بل أحبه وتروق لي صيغة المبالغة من جذره حمد، محمّد، أي "مُفَعَّل"، فبالله عليكم من يحب أن يكون أمراً محموداً لا أكثر وموضوعاً على هامش التصرفات الحميدة؟ وأعترف أن محبتي لاسم المصطفى والفادي ومعناهما الأخلاقي، جعلتني أتمناهما اسماً لي في مرحلةٍ من مراهقتي.
إن رغبة الإنسان في الحفاظ على بقائه الخاص عن طريق أولاده قديمة جداً في التاريخ، ولكن محاولة البقاء عن طريق الاسم قضية محدثة وهامشية وبائسة. ويتابع الملاحظ في سوريا خلال العقد الأخير، وضمن هذا السياق، ظاهرتين؛ الأولى إطلاق الأسماء الأجنبية مثل ألمى أو لمار أو سيلا أو سيلينا على المواليد وخاصةً البنات، والثانية ظهور أسماء سورية قديمة تاريخياً شام أو سرجون أو أنانا أو نارام. وبغض النظر عن أمنيتي الخاصة بانقراض الظاهرة الأولى ورواج الظاهرة الثانية والزمن لا يسجل الأمنيات بل الأفعال، ثمة ما يدل على رغبة المجتمع في التغرب عن البرهة الثقافية التي يحيا فيها، ويصعب معها الاستنتاج ما إذا كانت ستُكتب لهذه البداية نتائج أكثر عمقاً وتأثيراً، أم تبقى ظاهرةً وتنقرض بعد عقود! ولا تغترّ يا قارئي بمستوى شهادة مطلق الاسم أو ثقافته، فأنا أعرف شاعراً شهيراً أطلق على بكره اسم خالد، بينما جاره النجار أطلق على ابنه الذي وُلد في يوم ميلاد خالد، اسم نورس!
بصراحة، أستطيع تخيّل موقف ابنتي في المدرسة عندما تسألها المعلمة عن اسمها أرمايا، وتُعجب المعلمة بالمعنى، وتسألها عن اسم أمها أنانا، وتُعجب بالمعنى أيضاً، والصوت الذي ستتلفظ به باسمي محمد وتلك الصفنة الصغيرة للمعلمة قبل أن تسجل اسمي على استمارتها الخاصة
من حقك يا قارئي أن تسألني: وأنت يا أخ "أبو جاسم"؟ عندما عرفت وزوجتي أنها حامل ببنت، اتفقنا على اختيار اسم سوري قديم. جمعنا معاً أسماءً عدة وانتخبنا من بينها اسمين، وكنت أريد اسم أمارجي الذي يعني في السومرية حرفياً "العودة إلى الأم"، ولكن اصطلاحاً يعني الحرية، بينما زوجتي أرادت اسم أرمايا الذي هو الصياغة الأقدم من الكلمة العبرية آرام، وتعني العلو والسمو في الآشورية القديمة، أو أريمو في الأكادية أو أريمي في البابلية. عبثاً حاولت زوجتي أن تثنيني عن اسم أمارجي، فماذا تنتظرون من شخص يُدعى محمد ويكنّى بأبي جاسم إلا الثبات والعناد الذكوري الموروث؟ ليتكم شاهدتم نظرة الثقة المنتصرة والجدية وأنا أتلفظ لكاتب النفوس باسم ابنتي وأهجيه له: أرمايا، وأشدد على الألف الأخيرة وأنها ليست تاءً مربوطة. أصبحت "أبو أرمايا"!
بصراحة، أستطيع تخيّل موقف ابنتي في المدرسة عندما تسألها المعلمة عن اسمها أرمايا، وتُعجب المعلمة بالمعنى، وتسألها عن اسم أمها أنانا، وتُعجب بالمعنى أيضاً، والصوت الذي ستتلفظ به باسمي محمد وتلك الصفنة الصغيرة للمعلمة قبل أن تسجل اسمي على استمارتها الخاصة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...