أربع سنوات ونصف، قضاها المناضل والثوري المصري عبد الحميد عمار (1901- 1963)، متجرعاً العذاب في السجن أو في "وادي الجحيم" – كما كان يُحب أن يُسميه- كانت كفيلة بأن تعصف بحياته، وأن تطفئ شعلة الثورة في دمائه، خاصة بعد أن اُغلقت الأبواب في وجهه بعد خروجه من السجن وهو مازال شاباً في الـ23 من عمره، ليصبح على هامش الحياة، ويرتكن إلى الصمت، هو الذي حمل مع رفاقه من الطلبة الثوريين، شعلة ثورة 1919، ومضى بها إلى المدن والقرى والنجوع، لتهتف الجماهير بـ"الاستقلال التام أو الموت الزؤام". أما الموت الزؤام فكان من نصيب هذا الثائر بعد الكثير من الأحلام المجهضة، والتهميش الذي كان حليفه حتى رحيله عن الدنيا.
المعاناة التي عاشها الشاب الحالم عبد الحميد عمار في السجن، حرضته على تسجيل وتوثيق يومياته وعذاباته، وهو يرزح تحت سطوة السجانين والجلادين، في كراس مسطر، بلغت عدد صفحاته 138 صفحة بغلاف مهترئ من ورق مقوى ذهبت الأيام بلونه فتركته بلا لون، ومؤخراً، تحديداً بعد ما يزيد عن مائة عام من ثورة 1919، صدر هذا المخطوط، في كتاب تحت عنوان "مذكرات سجين"، عن الهيئة المصرية لقصور الثقافة ضمن سلسلة "ذاكرة الكتابة"، ويحتوي الكتاب على دراسة وافية ومهمة للباحث وليد ماجد كساب، الذي حقق المخطوط وأعده للنشر.
من هو عبد الحميد عمار؟
ولد عبد الحميد عمار لأبوين مصريين، بقرية بيبان التابعة الآن لمركز كوم حمادة بمحافظة البحيرة، وقد عُرفت أسرته بدورها الوطني والسياسي؛ فالشيخ علي عمار كان عضواً بأول مجلس نيابي مصري، أما جده لأبيه مصطفى عمار، فكان أحد أعضاء الجمعية العمومية أو المجلس النيابي، وكان ضمن الجمعية الوطنية التي عُقدت بالقاهرة إبان ثورة عرابي واجتمعت على عزل الخديوي توفيق وتأييد أحمد عرابي في مواجهة المحتل البريطاني.
أما عمه عبد الحميد عمار، الذي تسمى باسمه على عادة المصريين، فكان أحد رفقاء الزعيمين مصطفى كامل ومحمد فريد في جهادهما ضد الاحتلال البريطاني، وكان عضو اللجنة الإدارية الأولى للحزب الوطني وعضو الجمعية العمومية، وقد أثنى عليه المستر كير هاردي، زعيم حزب العمال البريطاني في خطبته بمؤتمر بروكسل أيلول/سبتمبر 1910، حين رآه مرتدياً الزي المصري (العمة والقفطان)، فقال: "وإنني أعتقد أن الفلاحين يرضون بمثل عبد الحميد بك عمار حاكماً عليهم لا إنجليزياً أجنبياً عنهم، وإني لآسف شديد الأسف لرؤيتكم مرتدين ملابس أجنبية، وأرجو ألا ترتدوا ملابس أجنبية، وأرجو ألا ترتدوا إلا الملابس الوطنية".
المعاناة التي عاشها الشاب الحالم عبد الحميد عمار في السجن، حرضته على تسجيل وتوثيق يومياته وعذاباته، وهو يرزح تحت سطوة السجانين والجلادين، في كراس
في هذا المناخ النضالي نشأ عبد الحميد عمار، مفعماً ومتحمساً لقضية التحرر من الاستعمار، متأثراً بالدور الوطني لمصطفى كامل. يقول عن نشأته: "عندما أستعيد أيام طفولتي، تتجسد أمامي صورة مصطفى كامل، بصحبة عمي عبد الحميد بك عمار. هذه الصورة المفرحة، ستثير في نفسي الشجون، فيما بعد. حيث مات هذا الزعيم الوطني، وكنت آنذاك طفلاً في العاشرة من عمري. فرأيت وجوه الناس حزينة، والحسرة تسكن النفوس. وللمرة الأولى، أدركت حاجة مصر إلى مُخلص ينتشلها من العذاب. وكم تمنيت أن نكون جميعاً مصطفى كامل".
في قبضة ألف جندي
التحق عبد الحميد عمار بمدرسة المساعي المشكورة بالمنوفية، وهناك كان له نشاطه في مقاومة المحتل الإنكليزي، عبر انضمامه إلى الجمعيات السرية، التي كانت تقوم بعمليات نوعية ضد الإنكليز، ومع اندلاع ثورة 1919 في التاسع من مارس، برز اسمه كأحد الثوريين والفاعلين، وكان دوره يتحدد في مد شعلة الثورة إلى القرى والأقاليم، وفي التاسع عشر من آذار/مارس –وفقاً للمذكرات- جمع الثوار، وحاصروا مركز الشرطة بكوم حمادة، وقاموا بقطع أسلاك التليفونات، وقضبان السكك الحديدية، وأشعلوا النار حول معسكر الإنكليز.
وحسب رواية الأسرة العمارية فإن عبد الحميد قد حاصر المعسكر الإنكليزي الذي كان مقاماً في سوق القرية، لكن عائلة منافسة لهم، قامت بتهريب المفتش الإنكليزي في زي امرأة وأطلقت عليه أعيرة نارية واتهمت عبد الحميد بإطلاق النار على المفتش، وفي 27 من آذار/مارس 1919، لم يجد عمار بداً من تسليم نفسه، بعد محاصرة القرية بأكثر من ألف جندي. وبدأت محاكمته أمام محكمة عسكرية بمدينة دمنهور في 24 نيسان/أبريل من العام نفسه، وبعد أربعة أيام، صدر عليه حكم بالإعدام، ثم خُفف الحكم إلى السجن مع الأشغال الشاقة المؤبدة.
المذكرات التي ظلت طي النسيان لعدة عقود، أهداها عبد الحميد عمار، للرئيس جمال عبد الناصر، وذيل صفحاتها بتوقيعه "عبد الحميد عمار 516"، وهو رقمه الذي ظل محفوراً على صدره في السجن، حتى أفرج عنه في الخامس من تموز/يوليو 1924. وتتكون من قسمين؛ جاء القسم الأول تحت عنوان "فذلكة تاريخية"، ويتكون من ثمانية فصول، يتناول فيها معاناة مصر تحت الاحتلال البريطاني، وبعض الذكريات عن ثورة 1919 قبل يوم 17 آذار/مارس، الذي يراه يوماً مفصلياً في تاريخ مصر. ويشتمل القسم الثاني على الفصول من التاسع حتى نهاية الكتاب، ويسرد فيها ذكرياته الأليمة ومعاناته في السجن مع زملائه في النضال ضد المحتل البريطاني.
الكُرباج والصخر والخبز الأسود
"زمان ينتقم، وصخر يرتطم، وحياة شاقة طويلة، وقارَبَ الصبر النفاد، ودمعٌ جف أو كاد! استدعوني لمكتب المأمور- وكنت يومئذ أشتغل بفِرق الزلط– فأمر بي إلى فِرَقِ الصنعة، وهي الفرق المنوط بها اقتلاع الحجر وصنع البلاط لرصف الشوارع. كنا نعمل بين وابل من الصخور التي تهوى علينا، ولسعات الكُرباج التي لم تتوقف أبداً".
كان الصخر حليفاً ورفيقاً لـعمار طوال فترة سجنه، حيث كان عمله ينحصر في "حمل الصخور من باطن الأرض إلى سطحها على ارتفاع لا يقل عن خمسين متراً، ومن ورائي السجانين غلاظ شداد يفعلون ما يؤمرون وزيادة. عندما رأيت الجبل فكرت في الهرب، وعولتُ على انتهاز أول فرصة مفضلاً رصاص الحارس على شواظ تلك النار". أما الجبل فكان بمثابة مقبرة جماعية للمساجين، فلم يمر يوماً دون قتلى وجرحى، بسبب سقوط الحجارة عليهم، أو جراء عمليات التعذيب من جانب السجانين : "موتى بالمئات يتكومون فوق بعضهم البعض، بلا أي عزاء. فلا قانون هنا سوى صوت الكُرباج".
أهدى عبد الحميد عمار مذكراته للرئيس جمال عبد الناصر، وذيل صفحاتها بتوقيعه "عبد الحميد عمار 516"، وهو رقمه الذي ظل محفوراً على صدره في السجن
الصخر كان حليفاً للشاب الصغير، والخبز الأسود كان طعامه، أما عمليات الجلد، فكانت المشهد الثابت التي غرست في أعماقه ألماً وحشياً، ابتلعه هو ذاته، حتى لم يبق منه سوى الرقم 516: "شاهدت الجلد مراراً وتألمت منه كثيراً، لم تدمع عيني لمجلود اللهم إلا مرتين: الأولى في سجن دمنهور، وقد جُلد أمامي طالبين، والثانية في أبي زعبل، وقد جُلد أمامي طالب وصديق. رأيت أصدقائي وزملائي من الطلبة الثوريين والسياط تُمزق ظهورهم. كانوا يُعذبون على أيدي إخوانهم المصريين، والباشا الإنجليزي يضحك بعلوّ صوته. وكنت أتساءل: كيف لمصري أن يُعذب أخيه المصري؟! لكن بمرور الوقت أدركت مدى سذاجتي. وكنتُ في أيامي الأولى في السجن أقول للسجان: أنا مسجون سياسي، فيضحك ساخرًا: يعني أنت من حزب يحيا الوطن... ثم ينهال علي بالكرباج".
مرارة التهميش
هذه الذكريات الدامية، لم تُفارق عبد الحميد حتى يوم وفاته؛ فلم يستطع أن يمحو من فوق صدره الرقم 516، وما مثله له من إهانه وتعذيب، وإهدار للكرامة، ولم تمنح من ذاكرته صورة الجبل، وجروح يديه وقدمه إثر العمل في الصخر. وكذلك إهانات السجانين، وصوت الكرباج، ومشاهد الجلد. وقد ساعد التهميش الذي ناله في حياته، في ترسيخ هذه الصور المأساوية في روحه وذاكرته، فبعد خروجه من السجن في عام 1924، سعى عبد الحميد عمار، إلى إكمال تعليمه، لكنه لم يُقبل في أي مدرسة، حيث كان يُعامل كـ"رد سجون" وليس كمناضل وثوري دفع حياته وشبابه ثمناً لحرية الوطن. التحق لمدة قصيرة بمدرسة الزراعة المتوسطة بدمنهور، على مضض من مديرها، ثم هجرها بسبب ما لاقاه من تعنت واضطهاد.
وعن التهميش يقول محقق الكتاب وليد كساب: "عانى عبد الحميد عمّار مرارة التهميش كغيره ممن قامت على أكتافهم ثورة 1919 في ظل استئثار فئة بعينها بمكاسب الثورة. ولسنا نعدم أدلة تاريخية على هذا التهميش؛ فمثلًا لقي عبد القادر شحاته تجاهلاً رغم تاريخه النضالي، وكذلك الوطني الثائر عريان يوسف سعد، ويُفسر الأستاذ مصطفى أمين ذلك التجاهل والتهميش في كتابه المهم عن ثورة 1919 بقوله: (ولعل من أخطاء ثورة 1919 أنها نسيت الذين عرضوا حياتهم للخطر، والذين وضعوا رؤوسهم على أكفهم، والذين داعبت أعناقهم حبال المشانق، ولقد كانت وجهة نظر الثورة يومها أن العمل الوطني لا يجوز أن يُدفع عنه ثمن؛ ولكن الذي يحدث أن المتسلقين والانتهازيين كانوا هم الذين يصعدون إلى المناصب الكبرى)".
الأمر الأكثر أهمية لهذه المذكرات يرجع إلى كونها مذكرات غير رسمية لأحد البسطاء الذين لم يهتموا بتحسين صورتهم أو يسعوا في الدعاية الرخيصة لذواتهم وأحزابهم كما نرى دائماً في مذكرات بعض الزعماء والساسة الذين دأبوا على إظهار الوجه المشرق لهم دون غيره
ويرى كساب أن لهذه المذكرات أهمية تاريخية وأدبية، تكمن في كونها –على حد تعبيره- "حلقة متقدمة من أدب السجون، الذي يُعرف أيضاً بـ "أدب الحرية"، أو الأدب الاعتقالي، حيث كتبها صاحبها في السجن في الفترة من 1919 حتى 1924، و"رغم وجود العديد من الكتب التي تناولت سجناء ثورة 19، إلا أنني أرى أن هذه المذكرات، هي من أوعى ما وقفت عليه في هذه الفترة التاريخية، وذلك لأن كاتبها كان أحد هؤلاء الذين قامت على أكتافهم الثورة، ولأنه كان من أكثر هؤلاء الكتاب معاناة ومكوثاً بالسجن بين سجناء الثورة، كما أنها تعتبر وثيقة هامة عن السجون في ذلك الوقت ونظامها ولوائحها ومعاناة السجناء فيها".
والأمر الأكثر أهمية لهذه المذكرات –من وجهة نظر كساب- يرجع إلى كونها مذكرات غير رسمية لأحد البسطاء الذين لم يهتموا بتحسين صورتهم أو يسعوا في الدعاية الرخيصة لذواتهم وأحزابهم كما نرى دائماً في مذكرات بعض الزعماء والساسة الذين دأبوا على إظهار الوجه المشرق لهم دون غيره.
مقابلة المشير والخزلان
زادت عزلة عمار عن المحيطين به يوماً بعد يوم، ولم يجد سلواه إلا في القراءة وكتابة الشعر، الذي ضاع في ما بعد وطواه الزمن في ما طوى من آثار، وعبر عمار الأيام وعبرت معه مصر، ومع تنازل الملك فاروق عن الحكم عام 1952، وتصدر الضباط الأحرار للمشهد، أحس الرجل بشيء من البهجة، وبأن تضحياته هو وإخوانه لم تذهب سدى.
عَوَّل على الرئيس جمال عبد الناصر كثيراً في بناء بلد ينعم فيه الشعب بحريته ويتمتع بخيراته التي حُرم منها، لكن آماله سرعان ما تبخرت، حيث طلب عبد الحميد عمار من ابن عمه الفريق عبد الواحد عمار، مدير الكلية الحربية بعد قيام الثورة، أن يُساعده لمقابلته المشير عبد الحكيم عامر، وحدث اللقاء بالفعل، وحدثت مشادة بين الرجل والمشير، وعلى إثر ذلك، عاد عمار غاضباً يائساً من أي تقدم سيحدث للبلاد بسبب عدم وضوح رؤية الضباط، وقال آنذاك: "أخاف ألا ينعم الناس بالحرية والاستقلال الحقيقي وأن يزدادوا فقراً، ويُقيدوا بقيود أبناء الوطن بدلاً من قيود الاحتلال".
وعاد عمار إلى ماضيه المؤلم، يجتر ذكريات السجن ويتساءل في أسى وحيرة: "أيها الوطن المحبوب الخالد... لك وحدك كان الفداء؛ فهل انتفعت بما قدمنا أم استغل ذلك أولئك الوصوليون لمصالحهم الخاصة وشخصياتهم الفانية وكنت من الخاسرين؟!".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...