شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
جناية جلال أمين على الأدب... النقد الحكائي الحافي وصعود الكتابة النظيفة

جناية جلال أمين على الأدب... النقد الحكائي الحافي وصعود الكتابة النظيفة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 30 يونيو 202202:29 م

بين عامي 1968 و1989 نشر الدكتور جلال أمين (1935 ـ 2018) أحد عشر مؤلفاً باللغة العربية في مجال تخصصه، الاقتصاد. وفي فترة لاحقة ربما أصدر في العام الواحد كتابين، أو أكثر. لا يهمني الإحصاء. أتوقف أمام باب اقتحمه في سن متأخرة، والخوض فيه لا يكلف الكاتب، النجم، كثيراً. وكان النقد الأدبي يعاني التصحّر. فاروق عبد القادر محاصر هنا. وفي المنافي استقرّ الكثيرون، ثم عادوا والمشهد يتصدره جلال أمين ناقداً. وزيادة الطلب، بمنطق اقتصادي، لا تعني الجودة، والناشر الذكي يستجيب لانتعاش السوق. والمؤلف الذي يكتب للجماهير الغفيرة يعي سيكولوجية الذهنية الجمعية، يُطمْـئن القطاع اليميني، ولا يضحي به، ولا يخذل متوسطي الذكاء.

الجهود "النقدية" الغزيرة لجلال أمين لم تتقاطع مع صلب الحركة الأدبية. سكك متوزاية. أدباء لا يأخذونه بجدية، وهو لا يبالي، ويمتدح أعمالاً متواضعة لهواة حلا للبعض أن يسموهم "ساقطي القيد". وصفٌ قاسٍ ومسيء، وبلا معنى مع صعود المكتوب عنهم إلى نجومية عبرت الأدب، إلى صدارة المشهد العام. ولم تقصّر جائزة البوكر العربية، فاستثمرت شعبية الدكتور جلال أمين، واختارته رئيساً للجنة تحكيم دورتها السادسة، عام 2013. وعلى الجانب الآخر كان ممثلون صاعدون، محدودو الموهبة أيضاً، يؤسسون نجاحهم على تملّق جمهور محافظ يتسم بالنفاق الاجتماعي، ويكرسون مفهوم "السينما النظيفة". والآن تدلّ مجموعات القراءة على ذائقة معطوبة تغذّت بكتابة منزوعة الخيال، وتعتبرها "الإبداع".

من اعتادوا الحشيش المغشوش ينكرون غيره مهما تكن جودته وأصالته. وفي صفحات التواصل الاجتماعي تمضي مجموعات القراءة في طرق لها عناوينها ورموزها. مؤلفون يجهلهم النقاد، ولا ينشرون في الصحف والمجلات المتخصصة، ولا تذكر أعمالهم في دراسة ولو عن السياق العام للظواهر الأدبية. مؤلفون نجوم يستغنون عن هذا كله بجحافل تتبادل الكتب والأخبار والتشجيع. في شباط/فبراير 2015 فوجئ رواد معرض القاهرة للكتاب بآلاف الصبايا المحجبات، ضمن مظاهرة حاشدة، لاقتناء كتاب "حبيبتي" لمغني راب اسمه زاب ثروت. نفدت عشرون ألف نسخة. ونشر المؤلف بياناً لإيضاح أن "الكتاب ببساطة رسائل تتناول معنى كلمة حبيبتي ومن يستحقها في حياتك... الأم والأخ والابنة والزوجة والوطن".

كان جلال أمين أذكى من الوصول إلى محطة زاب ثروت. توقف عند آخرين لهم حظوظ من الحرفة، ويستطيعون الادعاء والمزاحمة، والمطالبة بالحسنييْن، الاعتراف والبرستيج، ويتحصنون بجماهير محافظة تستهويها القصص البوليسية. جماهير تشاهد الأفلام الجنسية سرّاً، وتتطهر بلعن منى زكي، لأنها في الفيلم اللبناني "أصحاب ولا أعز" أدت، بالإيهام لا التجسيد، مشهداً آذى مشاعرهم. جماهير برأت طالباً ذبح زميلته أمام جامعة المنصورة يوم 20 حزيران/يونيو 2022، وأدانت الطالبة الضحية لأنها غير محجبة. وأسعفتهم سماجة نجم تلفزيوني، أستاذ للشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر، خيّـر النساء بين الحجاب والقتل. لم يجرّم القتل، وربط سلامة النساء بالحجاب، "هيشوفك اللي ريقه بيجري ويدبحك... ياللا خليه يدبحك".

تدريس الرواية، في رأي جلال أمين، لا علاقة له بالليبرالية: "ولا أزال أفهم نظام التعليم الحر بمعنى مختلف جداً، لا يشمل تدريس كتب من نوع (الخبز الحافي) فالمسألة ليست اختلافاً في الرأي بالمرة، وليست خلافاً فكرياً"؛ فللرواية شروط، أهمها أن يكون "البطل شريفاً في الأساس... أن يكون نظيفاً من الداخل


نجومية جلال أمين أنست قراءه مجال تخصصه الأكاديمي، أستاذا للاقتصاد في الجامعة الأمريكية بالقاهرة. لا صبر لقرائه على قراءة كتاب في الاقتصاد، أو عمل أدبي حقيقي. ولا يشعرون باليتم بعد وفاته، إذ ترك إخواناً وبنين وحفدة، من أطباء ومهندسين وقضاة وصحفيين ومحققي التراث ومترجمين وعاطلين. يكتب البعض شيئاً يسمى النقد، ويكتب البعض شيئاً شبيهاً بالإبداع. النقد يلخص حكايات الروايات، والإبداع "نظيف" يحكي قصصاً شائقة، بعضها عن الهزائم، للشماتة والتباكي. لا يعنيهم كيف تبنى الرواية، هذا فوق قدراتهم، "وما ينبغي لهم وما يستطيعون". لم يرثوا سلاسة أسلوب جلال أمين، واقتفوا رؤيته للإبداع. وأستشهد بموقفه من السيرة الروائية لمحمد شكري "الخبز الحافي".

في شتاء 1999 اعترض اثنان من أولياء الأمور على تدريس "الخبز الحافي" في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، بحجة الحفاظ على السمو الأخلاقي لابنيهما. غبار القضية عبَـر أسوار الجامعة، بل مصر كلها، وشغل أطرافاً في مشرق العالم العربي ومغربه، تأييداً للأوصياء على أبنائهم الطلبة واعتراضاً على مفهوم الوصاية. في مقال عنوانه "الفكر الحافي" استنكر سلامة أحمد سلامة "السلطوية الفكرية البغيضة، والظلامية العمياء، والتحرش العقلي بأجيال ينبغي أن تتعلم في الجامعة كيف وماذا ولماذا تقرأ دون وصاية" (مجلة "وجهات نظر" نيسان/أبريل 1999). وفي صحيفة "الحياة" كتبت الدكتورة فريال جبوري غزول الأستاذة بالجامعة الأمريكية أن للطلاب حرية اختيار شعبة ضمن مقرر الأدب العربي الحديث.

يقدم الأستاذ للطالب مخطط الفصل الدراسي، ويشمل الكتب موضوع الدراسة والبحوث. والطالب إذا لم يعجبه الأستاذ أو المخطط يمكنه أن يستبدل بشعبته شعبة أخرى. وأمام المستاء من كتاب أو مخطط مجال واسع لعدم دراسة المادة، "فالجامعة، على خلاف روضة الأطفال، يهمّها وقوف الطالب على قدميه وأن يتعلم كيف يدافع ويواجه، يتفق ويختلف، دون الرجوع إلى حضن الأم، مع أنني أتفهم تماما غواية حضن الأم. المسألة إذن ليست فرض كتاب على طالب، بل فرض طالب على الطلاب الآخرين لما يراه هو وذووه، وهو أمر غير مقبول، على الرغم من أن هناك مجالاً واسعاً أمامه لتفادي كتاب أو أستاذ". (11 أيار/مايو 1999).

أما جلال أمين فوثّـق رأيه في فصل من ثماني عشرة صفحة، بعنوان "محمد شكري أو الأخلاق والأدب"، في كتابه "شخصيات لها تاريخ" (طبعة دار الشروق الأولى، 2007). أجمل ما في رأيه هو الصراحة واليقين الذي يشبه النقد الأخلاقي الاتهامي لصناع الأفلام. بعد عرض فيلم "الراعي والنساء" (1991) لعلي بدرخان، قرأتُ اتهاماً للفيلم بالانفصال عن الواقع، فلا سُمع صوت للأذان، ولا ذهب أحد إلى الصلاة. والتقط داود عبد السيد هذا المعنى، ووضعه على لسان اللص في فيلم "مواطن ومخبر وحرامي". اللص غيّر بيده ما رآه منكراً، وجعل مخطوطة رواية المواطن وقوداً لصنع الشاي. اللص واجه المؤلف بالأسباب، في حضور ممثل السلطة.

في شتاء 1999 اعترض اثنان من أولياء الأمور على تدريس "الخبز الحافي" في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، بحجة الحفاظ على السمو الأخلاقي لابنيهما

قال اللص إن الرواية "مليانة قلة أدب وانحلال... الرواية كافرة... مافيش واحد في العشرين سنة صلى ركعة واحدة؟ ولا واحد يصوم؟ ولا أدان طول العشرين سنة؟ زي ما يكون البلد دي كلها كفَـرة". فلا يملك المخبر إلا أن يشكره، ويستغفر الله. والدكتور جلال أمين يتحدث عن "الخبز الحافي" كعمل فني لا سيرة ذاتية، عن "الرواية كرواية". ويقول: "رغم ما تصوره من فسق وفجور"، فلا تنتهي "نهاية فاضلة". وإذا زعم البعض تلك النهاية، "هل هذا الذي حدث في صفحاتها القليلة الأخيرة كاف لأن يمحو من ذهن القارئ كل هذا الفسق والفجور؟ بل وهل تغفر لبطل الرواية كل ما ارتكبه قبل ذلك؟".


تدريس الرواية، في رأيه، لا علاقة له بالليبرالية: "ولا أزال أفهم نظام التعليم الحر بمعنى مختلف جداً، لا يشمل تدريس كتب من نوع (الخبز الحافي) فالمسألة ليست اختلافاً في الرأي بالمرة، وليست خلافاً فكرياً"؛ فللرواية شروط، أهمها أن يكون "البطل شريفاً في الأساس... أن يكون نظيفاً من الداخل، مهما تكن قذارة الأعمال التي يرتكبها رغماً عنه، وهذه (النظافة من الداخل) لها مظاهر شتى، منها مثلاً: مدى الأسف الذي يشعر به عندما يرتكب عملا غير إنساني، أو الندم الذي يصيبه بعد ارتكابه مثل هذا العمل". وليس في الرواية "دليل واحد، مهما كان صغيراً، على أن بطل الرواية رجل نظيف من الداخل".

أمين يحاكم الرواية، فليس فيها "شعور واحد نبيل، وليس هناك عمل واحد من أعمال التضحية، ولم يحدث أن أظهر مرة واحدة مقاومة لعمل من الأعمال القذرة... البطل من أول صفحة في الرواية إلى آخر صفحة، يظهر تماماً أنه وغد، خال من أي ميزة، سواء في الذكاء أو في الإنسانية، بل ولا يتصف حتى بالنشاط أو الشجاعة، فما الذي ينتظر من قارئ الرواية غير اللامبالاة والاشمئزاز؟". ولا يجد أمين رغبة في قراءة أعمال أخرى لمحمد شكري، ولا يريد مقابلته، "لأني لم أشعر قط خلال قراءتي للرواية أنه يحس بمدى قذارتها". لعل هذه الاقتباسات تكفي لمعرفة أحد عرّابي "النظافة" في الآداب والفنون.


أمين حاكَمَ المؤلف، معزولاً عن الظروف القاهرة لبطل الرواية، الصبي الجائع الذي يحيا في هامش الهامش، متشرداً لا يملك إلا جسده العاري، في غياب المؤسسات باستثناء السجن. تفتّح وعيه على ضرورة تحدي عالم لا يرحم. هل تستقيم حياة لحَمَـل وسط الوحوش إلا بقوانين الغابة؟ في طنجة عاش الصبي في غابة المجرمين والقوادين والبغايا، فماذا كان عليه أن يفعل؟ وإذا كنت بدأت بالإشارة إلى معاناة الناقد النبيل فاروق عبد القادر، الذي دفع فاتورة اختيار لم يندم عليه، فعليّ أن أختم به. في كتابه "غروب شمس الحلم" يرى لغة محمد شكري ملائمة للتجربة. لا بدّ من لغة "سفلية تعبر عن العالم السفلي".

غداً نحصد الجديد من الفنون "النظيفة" والأدب المعقّم. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image