منذ عام 1974، العام الذي خرج فيه محمد حسنين هيكل من رئاسة تحرير جريدة الأهرام، أكبر وأهم الجرائد المصرية على الإطلاق، وأهم الجرائد المكتوبة باللغة العربية حتى ذلك الحين، يبحث الرؤساء والسياسيون في مصر عن بديل يستطيع أن يملأ الفراغ الكبير الذي خلَّفه خروجه من المشهد الرسمي. ومن ناحية أخرى، يتسابق الصحافيون أنفسهم ليحظوا بما حظي به "الأستاذ".
محاولات الطرفين قائمة على اعتبار أن "الخبر الحصري" كافٍ وحده لصناعة نجم إعلامي، هذا النجم الذي تحتاجه كل الأنظمة القمعية لترويج سياساتها بين جمهور البسطاء، وبين النخب المثقفة والناشطة على حد سواء.
فن صناعة ونشر الخبر
الإعلاميون يعرفون أن "الخبر" وحده لا يصنع توهُّجاً إعلاميّاً وإنْ كان حصريّاً، وبالتالي لا يصنع نجماً، لأن الخبر وحده لا قيمة له، إنما تكمن القيمة في طريقة تقديمه وتفسيره وربطه بما يشتبك معه في الماضي والحاضر والمستقبل، في الداخل والخارج.
فلو قلت إن الصراع بين روسيا وأوكرانيا مرشح للتصاعد، مثلاً، قبل اندلاع الحرب، لن يكون ذلك مفيداً لمستهلك الخبر إلا بشرح أصول الصراع ومآلاته وتبعاته وتأثيره على السياسة والاقتصاد الدوليين، وتجارة النفط وزيادة الأسعار والتضخم، كما لا يكفي كل ذلك إنْ لم يكن لدى "مالك" الخبر الحصري رؤية لكيفية تطور الأحداث، وتوقع اندلاع الحرب واحتمالات توقفها.
طوال سنوات، اقترب صحافيون من مركز صنع القرار، من الرئيس المصري نفسه، يكتبون له ويكتبون عنه ويحصلون على توجيهات مباشرة بالموضوعات التي يجب التركيز عليها والتي يجب إهمالها، بما يجب نفيه وما يجب إثباته.
من هؤلاء أنيس منصور، مكرم محمد أحمد، إبراهيم سعدة، سمير رجب، حتى وصلنا إلى ياسر رزق الذي فارق الحياة منذ وقت قصير، وكان قريباً من الرئيس عبد الفتاح السيسي، يجري معه حوارات مطولة في أمور متعددة، يضع هو أسئلتها وأجوبتها بعد أن يستمع إلى، ويدوّن، توجيهات الرئيس حول ما يجب وما لا يجب. وهناك تسريب صوتي لواحد من هذه اللقاءات توضح ما يدور.
لكن النموذج الذي أراد، وأُرِيد له، أن يكون قريباً من طريقة هيكل في الحديث ومنهجه في التحليل، وحتى أنه استعار بعض مفرداته، هو عماد الدين أديب. طبعاً، إذا استثنينا عبد الله السناوي من هذا الزحام، فالسناوي كان قريباً جدّاً من هيكل ويقلده حتى في تعبيرات الجسد، وناصري واضح التوجه، ولا تتفق آراؤه المعروفة والمنحازة للحقبة الناصرية وتوجهاتها العامة في السياسة والاقتصاد والعلاقة مع إسرائيل، مع توجهات الرؤساء المتعاقبين منذ أنور السادات حتى السيسي.
مَن هو عماد الدين أديب؟
يبلغ من العمر 67 عاماً، فهو مواليد عام 1955، تخرج في كلية الإعلام، وبدأ حياته المهنية صحافيّاً في الأهرام، وهو الابن الأكبر للسيناريست المعروف عبد الحي أديب، وشقيق الإعلامي عمرو أديب والمخرج عادل أديب، وتزوج ثلاث مرات: الإعلامية المعروفة هالة سرحان، وهالة قورة، وزوجته الحالية الممثلة مروة حسين المولودة عام 1979.
يمتلك عماد الدين أديب شركة إنتاج سينيمائي اسمها Good News، أنتجت عدة أفلام أشهرها "عمارة يعقوبيان" (بطولة عادل إمام ونور الشريف وكوكبة من نجوم السينما المصرية)، و"حسن ومرقص" (بطولة عادل إمام وعمر الشريف)، كما رأس تحرير مجلات يغلب عليها الطابع الفني والأسري، مثل مجلة "كلام الناس" الملوّنة، التي اعتمدت على صور الممثلات وفساتينهن وأخبارهن خارج السينما، وهي مجلات تهم القارئ البعيد عن السياسة والثقافة، المنشغل بأخبار النجوم وزواجهم وطلاقهم وأزيائهم.
"عماد الدين أديب الذي يبدو ‘تابعاً’ للمصدر، يصنع له مادة إعلامية تروق له بأسعار جيدة، هو أقرب إلى المروّج الإعلامي منه إلى المثقف... لكنه لا يستطيع، كما كان يفعل (محمد حسنين) هيكل، أن يتناقش مطوَّلاً مع صاحب القرار"
اقتراب عماد الدين أديب من السياسة والثقافة يُعَدّ عملاً فنيّاً بالأساس! فأهم ما قام به في مسيرته المهنية هو اللقاء التلفزيوني الذي أجراه مع الرئيس الأسبق حسني مبارك عام 2005، ضمن حملته لإعادة انتخابه لفترة رئاسية خامسة تكمل ثلاثين عاماً من بقائه على مقعد السلطة في مصر.
في ذلك اللقاء، انصبّ الاهتمام على "التاتشات" البصرية التي تداعب عين المتلقي، مثل: اختيار ملابس الرئيس غير الرسمية تماماً ليبدو شابّاً، واختيار أماكن التصوير، والتركيز على دوره في حرب أكتوبر بانتقال الكاميرا إلى "غرفة العمليات" حيث الصورة الشهيرة للسادات وحوله القادة العسكريون يستعرضون خرائط انتشار القوات وخطط حرب أكتوبر، ومن بينهم مبارك، قائد سلاح الطيران وقتها.
هذا "الفيلم" استُنسخ في حملة السيسي عام 2018 مع المخرجة ساندرا نشأت، التي أخرجت أفلام: "مبروك وبلبل" للفنان يحيى الفخراني، "ليه خلتني أحبك" بطولة كريم عبد العزيز ومنى زكي، و"حراميه في كي جي تو" بطولة كريم عبد العزيز أيضاً مع حنان ترك (المعتزلة) وماجد الكدواني.. إضافة إلى إخراج بعض الأغاني بطريقة الفيديو كليب.
إعلام الصورة المشوهة
هذه الخلفية الفنية الخفيفة التي تتعامل مع الفن باعتباره مادة ربحية تقف بالتأكيد حائلاً بين عماد الدين أديب والدور المهم والمحوري ثقافيّاً وفكريّاً وسياسيّاً الذي كان يؤديه محمد حسنين هيكل. فالأخير بدأ حياته الصحافية مبكراً جدّاً، وتتلمذ عن يد محمد التابعي، وعمل مراسلاً حربيّاً عام 1948 في فلسطين، ونافس الأخوين علي ومصطفى أمين، اللذين تربّيا في بيت سعد زغلول شخصيّاً، واستطاع هزيمتهما وإخراجهما نهائيّاً من المشهدين الصحافي والسياسي. وهو، على الرغم من تعليمه البسيط، كان قارئاً جيّداً، ومطّلعاً على أحوال الدنيا والناس والسياسة والمجتمع، ومتواصلاً مع كبار المثقفين والسياسيين في زمنه، لأن لديه ما يقوله لهم، مما لا يستطيع أحد سواه أن يقوله.
وعلى الرغم من انحياز هيكل لجمال عبد الناصر ومرحلة حكمه، وكتبت في مقال سابق أنه كان شريكاً في صنعها وليس مجرد بوق إعلامي يردد تعليمات الزعيم الأوحد، فقد استطاع هيكل أن يكون مستقلّاً، أو أن يبدو كذلك على الأقل، في مقالاته وتحليلاته السياسية، ثم في كتبه الشهيرة بعد ذلك.
"الفرق الأهم بين محمد حسنين هيكل وعماد الدين أديب أن ‘الأستاذ’ يمكن أن يثني على رئيس في جملتين، لكنه لا يخرج خصيصاً لتجميل الوجوه بشكل مكشوف، ولا يضع نفسه في مكانٍ من الوارد تعريته في لحظة"
هذه الميزة يفتقر إليها بشكل كبير عماد الدين أديب الذي يبدو "تابعاً" للمصدر، يصنع له مادة إعلامية تروق له بأسعار جيدة، هو أقرب إلى المروّج الإعلامي منه إلى المثقف، يستطيع أن يختار الملابس والمناظر والألوان والموسيقى المصاحبة بواسطة فريق عمله، لكنه لا يستطيع، كما كان يفعل هيكل، أن يتناقش مطوَّلاً مع صاحب القرار في صلب الرسالة التي يجب إيصالها لـ"المواطن" الذي هو عند عماد أديب مجرد "مُشاهد" أو مستهلك للمادة الفيلمية.
هيكل يقدّم الصورة الأصلية للمادة الإعلامية وإنْ اختلفت مع تفاصيلها، بينما يقدّم عماد الدين أديب صورة مشوهة، تبدو كالأصلية من الخارج، لكنها أبعد ما تكون عن الجوهر.
يستطيع عماد الدين أديب أن يُغَلِّظَ صوته ويضبطه عند درجة "تون" معيّنة، يعرف من خبرته بالفن أنها الأقرب للتأثير على المشاهد ولفت انتباهه، ويستطيع أن يتحدث بهدوء، ويركز على بعض المفردات هنا وهناك، وأن ينطق أسماء الرؤساء والشيوخ بشكل صحيح، بحسب التسميات المعتمدة في كل بلد، فلديه مَن يجهز له ذلك ويضعه أمامه، ويستطيع أن يلتفت بحساب ويبدو واثقاً، لكنه لا يستطيع إلا أن يردد المعلومات المتاحة التي يحصل عليها أي متابع مهتم، فليس لديه مصادر نافذة من رؤساء ورؤساء وزارات ووزراء دفاع، إضافة إلى صحافيين نافذين ومحللين استراتيجيين ومراكز أبحاث دولية، في المنطقة وحول العالم، كما كان لدى هيكل الذي كانت المعلومات تتزاحم في رأسه أثناء الحديث، وتتناطح، ولا يستطيع المتابعون المهتمون تركه بعض دقائق ليعدّوا كوباً من الشاي، لأن حجم المعلومات التي ستفوتهم كبير جدّاً، بشكل سيؤثر بالتأكيد على رؤيتهم للحدث من داخله ومن وجهة نظر صُنَّاعه.
الفرق الضخم بين هيكل وعماد الدين أديب ليس في لون البدلة التي يرتديها، أو كمية الضوء الساقطة على وجهه وحجم الكادر، وكلها أشياء مهمة كان يهتم بها هيكل أيضاً، لكن في عمق الثقافة، والخبرة الواسعة، وقوة المصادر التي من بينها رؤساء دول فاعلين في المشهد الدولي، وقدرة فذة على التحليل والتنبؤ.
وأخيراً، ثمة فارق لا يمكن تعويضه ولا اكتسابه، وهو قوة التعبير باللغة. صحيح أن "البلاغة" التي استخدمها هيكل قديمة آتية من شعر أحمد شوقي وسرد العقاد والمازني وأحمد لطفي السيد وغيرهم من أساتذة النهضة المصرية، لكنها كافية لخطاب صحافي لم يدَّع أكثر من ذلك، فقد كان مشهوراً عنه قوله إنه "جرنالجي"، صحافي، وليس أديباً أو مفكراً، وهو في هذه الحالة يبعد عن عماد الدين أديب آلاف الأميال.
عماد أديب والحرب الروسية الأوكرانية
استعان الإعلامي الشهير عمرو أديب، في برنامجه "الحكاية" الذي يذاع على قناة MBC مصر، بأخيه عماد الدين أديب ليحلل لمشاهديه وقائع وخلفيات وتوقعات ومستقبل ومدى الحرب الروسية على جارتها الصغيرة أوكرانيا، التي كانت شريكة معها في الاتحاد السوفياتي قبل تفككه، وكذلك موقف أوروبا وأمريكا من هذه الحرب، وحلف الناتو تحديداً، خاصة أنها تؤثر بشكل مباشر على الاقتصاد العالمي، وعلى المنطقة العربية كونها إحدى أهم مناطق إنتاج النفط، وكون أوكرانيا مصدراً رئيسياً للقمح، مع الأخذ في الاعتبار الموقف الصيني، ناظراً إلى مستقبل العالم بعد انتهاء العمليات العسكرية...
قسَّم عماد الدين أديب لقاءه إلى نصفين تقريباً: الأول يتحدث فيه عن الحرب وخلفياتها في ضوء التقارير المنشورة والمعروفة لدى أي تابع، وحاول في هذا الجزء أن يبدو حكيماً أريباً عالماً ببواطن الأمور، مستخدماً كل مهاراته "الإعلامية/ الفنية"، واتضح أن هذا النصف لم يكن سوى مقدمة للنصف الثاني الذي خُصص للحديث عن حكمة الرئيس عبد الفتاح السيسي وحنكته في إدارة الأزمة التي نتجت عن الحرب، وتسببت في غلاء خام البترول بشكل كبير، وانهيار الاقتصاد في بعض الدول، ومنها مصر.
الحقيقة أن عماد الدين أديب لا يخاطر بشيء، فهو لا يملك شيئاً ولا يخاف على فقدان شيء، خاصة بعد مرور عدة أيام كانت كفيلة بدخول مصر في موجة عاتية من الغلاء وانهيار سعر العملة (الجنيه المصري) أمام الدولار الذي لا يزال مستمرّاً.
لم يكن مهتمّاً بما سوف يحدث غداً مقارنةً بما يقوله اليوم، فآثار الحرب لا يمكن إخفاؤها أو التستر عليها، فالمواطن العادي الفقير، وهو الذي يدفع الفاتورة عادة، لم يكن مهتمّاً سوى بالدور الذي يؤديه لمصلحة "المنتج"، فهو يؤدي عملاً في الأخير.
هذا هو الفرق الأهم بين هيكل وعماد الدين أديب، فـ"الأستاذ" يمكن أن يثني على رئيس في جملتين، لكنه لا يخرج خصيصاً لتجميل الوجوه بشكل مكشوف، ولا يضع نفسه في مكانٍ من الوارد تعريته في لحظة.
الفرق أن هيكل، بصرف النظر عن خلافي مع بعض توجهاته، يعرف ما يقول ويدرك الآثار المترتبة عليه، بينما الآخرون، وأولهم أديب، ينفّذون أدواراً لحساب الآخرين، ليس على حساب الحقيقة وحسب، بل وعلى حساب أنفسهم في كثير من الأحيان.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع