شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
رقص فوق التاريخ... الأماكن الأثرية في دمشق تتحول إلى صالات أفراح

رقص فوق التاريخ... الأماكن الأثرية في دمشق تتحول إلى صالات أفراح

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

السبت 30 يوليو 202203:14 م

تتداخل أصوات طَرق كؤوس المشروبات الكحولية مع موسيقى الـ"تكنوهاوس" المنبعثة من الحفلات "الأسطورية"، كما يصفها البعض، والتي تقام في خان أسعد باشا العظم في دمشق. وبالرغم من احتراق غرفة في الخان، إلا أن تصاريح إقامة الحفلات لا تزال مستمرةً حتى اليوم. الحادثة وقعت مطلع عام 2022، في إحدى المناسبات الاجتماعية التي تقام في هذا المكان، عندما صادف وجود مدفأة كهربائية مع بخاخ ((spray، الأمر الذي تسبب بحريق تمت السيطرة عليه لاحقاً وسط محاولات لإخفاء القصة، واستمرت مديرية الآثار والمتاحف في منح التصاريح لإقامة الحفلات في الخان وفي الأماكن الأثرية التراثية الأخرى.

كما هو معروف، فإن الأماكن الأثرية لها حصانة من المجتمع المحلي والدولي تحفظها من العبث والإهمال، لكن بحسب بعض الشركات التي تنظّم هذا النوع من الحفلات في الأماكن الأثرية القديمة، تتم مخالفة الشروط المتفق عليها علناً وبمعرفة مديرية الآثار التي تشجع على إقامة هذه الحفلات لرفد خزينة الدولة، وليس على الراغب في إقامة حفل زفافه في إحدى المباني الأثرية في دمشق سوى تقديم طلب إلى مديرية الآثار والمتاحف، وتسديد الرسوم المحددة لدى وزارة المالية، ثم التوقيع على ورقة يتعهّد بموجبها بالحفاظ على سلامة المكان.

هناك 20 شرطاً لاستئجار الأماكن الأثرية، منها منع إشعال النار أو استخدام المكبرات الصوتية ذات الاهتزاز العالي التي ستؤثر على البنيان، بحسب كلام المسؤولين في مديرية الآثار والمتاحف. لكن شركات تنظيم الحفلات التي تواصل معها رصيف22، أكدت عدم وجود شروط محددة أو مكتوبة يوقّع عليها المنظّمون، وإنما هي ورقة يتعهدون بموجبها بالمحافظة على المكان وتسليمه من دون أضرار.

 تتم مخالفة الشروط المتفق عليها علناً وبمعرفة مديرية الآثار التي تشجع على إقامة الحفلات في الأماكن الأثرية لرفد خزينة الدولة

الوجه الآخر لدمشق

تالة، شابة سورية مقيمة في دمشق، تؤيد بشدة إقامة الحفلات الاجتماعية ضمن الأماكن الأثرية في حال توفر القدرة المادية على ذلك، فهذه الحفلات من وجهة نظرها، تُظهر الوجه الآخر لدمشق بشكل إيجابي، خاصةً بعد سنوات الحرب الطويلة.

تقول: "أنا شخصياً أحب الحفلات التي تقام ضمن الأماكن الأثرية، وأعتقد أن هناك كثيرين مثلي قد ألفوا الاحتفال في الفنادق وصالات الأعراس التقليدية، وباتوا يبحثون عن كل ما هو مميز وجديد، خاصةً أن صور الحفلات أصبحت تُشارَك اليوم على مواقع التواصل الاجتماعي ويصل صداها عالمياً".

وخلال حديثها، تُشدد تالة (33 عاماً)، على أن يكون لدى الشباب حس المسؤولية الاجتماعية تجاه تراثهم، بحيث لا يهملون أو يتسببون في أي أذية لهذه الأماكن خلال الاحتفال بمناسباتهم فيها.

تُبرر جويل شامي، مديرة شركة لتنظيم الحفلات والمناسبات الاجتماعية، إقبال الشباب على الأماكن الأثرية للاحتفال بمناسباتهم الاجتماعية، بأنه مدفوع بـ"الحنين إلى الماضي وإلى رائحة الشام المتجلية في الأماكن القديمة، بالإضافة إلى دوافع جمالية من ناحية تصميم المكان وتنسيقه باستخدام النباتات الخضراء والأزهار المستوحاة من طبيعة البيئة الشامية، وهو ما يضفي مظهراً جمالياً مميزاً قد يصعب تطبيقه في الفنادق وصالات الأفراح التقليدية المعروفة".

وتتابع: "مديرية الآثار هي من يشجع على إقامة الحفلات في الأماكن الأثرية، وتعلم بوجود منسقي الإضاءة والصوت وكذلك موسيقى الـ’دي جي’، في تلك الحفلات، حيث تتم مشاركة الصور على مواقع التواصل الاجتماعي، ويشاهدها الجميع".

شامي لم تُخفِ حدوث بعض المبالغات أحياناً في الحفلات، كما أوضحت أن المنظّم هو من يتحمل أي ضرر يصيب المكان الأثري، وكذلك هو المسؤول عن تنظيف المكان قبل تسليمه إلى إدارته.

تتداخل أصوات طَرق الكؤوس مع موسيقى الـ"تكنوهاوس" المنبعثة من الحفلات "الأسطورية"، والتي تقام في خان أسعد باشا العظم في دمشق والذي عمره مئات السنين، فيما لا أحد يبدو مكترثاً بما سيحلّ بالمكان نتيجة هذه الحفلات

تقول شامي، لرصيف22، إن "الحصول على ترخيص لإقامة حفل في قصر العظم أصبح اليوم صعباً جداً، كونه يحتوي على معروضات أثرية، على عكس خان أسعد باشا الذي تشجع إدارته على تأجيره، لكن الأمر لن يقف عند هذين المكانين، إذ ستكون الوجهة المقبلة لإقامة الحفلات في متحف خالد العظم أو كما يُعرف بالبيت الشامي أو الدمشقي".

والبيت الشامي هو منزل قديم في حي ساروجة، تحوّل مع الزمن إلى متحف يأتيه الزوار ليطّلعوا على حياة الدمشقيين القديمة داخل منازلهم. وستقام أول حفلة في هذا المكان في آب/ أغسطس المقبل، "لأن خان أسعد باشا وقصر العظم أصبحا مكانين معروفين"، بحسب شامي.

أصوات منددة

في الوقت الذي تتعالى فيه بعض الأصوات لاستثمار المواقع الأثرية وجلب العائدات من خلالها، على النقيض، هناك أصوات تعارض تحويل هذه الأماكن إلى صالات لإقامة المناسبات الاجتماعية، وترى في ذلك مخاطرةً وتهديداً لسلامة تراث يتجاوز عمره 269 عاماً.

بعض الآثاريين الذين تحدث إليهم رصيف22، وكانوا من الأصوات المعارضة لاستثمار المواقع الأثرية، أكدوا فقدانهم الأمل من تجاوب الجهات المسؤولة مع دعوات إيقاف الحفلات في هذه الأماكن، في الوقت الذي يصعب فيه إجراء أعمال الصيانة والترميم، ورأوا أنه في حال كانت الغاية من هذه الحفلات رفد خزينة الدولة، فإنه يمكن الاكتفاء بمعارض الحرف اليدوية، والندوات الحوارية والثقافية، بدلاً من تعريض هذه الأماكن للخطر بحجة إظهار صورة مختلفة عن البلد.

الحفلات التي تقام ضمن الأماكن الأثرية تشكّل خطراً عليها، خاصةً مع عدد الزوار الكبير واستخدام الموسيقى ذات الاهتزازات العالية، فيما هذه الأمكان بحاجة إلى ترميم أصلاً، واللافت أيضاً أن عائدات هذه الحفلات تذهب إلى وزارة المالية وليس إلى مديرية الآثار

تقول الدكتورة عزة آقبيق، الباحثة المتخصصة في تراث دمشق وتاريخها، لرصيف22: "الحفلات التي تقام ضمن الأماكن الأثرية تشكّل خطراً عليها، خاصةً مع عدد الزوار الكبير واستخدام الموسيقى ذات الاهتزازات العالية، وهذه الأماكن -حالها حال البلد بأكمله- بحاجة إلى ترميم لوجود تصدعات وشقوق فيها".

كلام آقبيق، أكده مصدر آخر في خان أسعد باشا فضّل عدم كشف اسمه، كاشفاً عن رفع كتب عديدة إلى مديرية الآثار والمتاحف لترميم التشققات الموجودة في قبب الخان، لكن لم يتم الاستجابة لها حتى الآن لعدم وجود ميزانية كافية للترميم، مؤيداً منع تشغيل موسيقى الـ"دي جي" في الأماكن الأثرية نهائياً.

وحول حادثة الحريق التي سببتها إحدى الحفلات، لم ينف المصدر وقوعها، مؤكداً محاسبة منظمة الحفل حينها وتغريمها بترميم الغرفة ورفع آثار الحريق وإعادة الوضع إلى ما كان عليه.

العائدات صفر

القائمون على حماية الأماكن الأثرية لا يرون في تلك الحفلات أمراً يتعارض مع قيمة المكان الأثري، بل هو شيء مشجع للسياح لزيارة هذه الأماكن، كما يقول مصدر مسؤول عن شؤون المتاحف في مديرية الآثار والمتاحف لرصيف22، مفضلاً عدم ذكر اسمه.

يشرح المصدر أن إقامة الحفلات في المواقع الأثرية يسهم في إبرازها والتعريف بها، كما يرفد خزينة الدولة بالنفع المادي، ويتابع موضحاً: "كثيرون لا يعرفون متحف الطب والعلوم (البيمارستان النوري)، في الحريقة في دمشق، بينما الجميع يعرفون بائع الفلافل الشهير الملاصق للمتحف"، رافضاً عدّ الأمر تشويهاً للأماكن الأثرية، وإنما "دعاية غير مباشرة ساهمت في زيادة أعداد الأجانب الذين يقصدون الخان بمجرد الوصول إلى دمشق".

لم ينفِ المصدر مخالفة بعض الأشخاص لشروط إقامة الحفلات في الأماكن الأثرية، لكن عدّها محدودةً جداً ومقتصرةً على الصخب وترك الأوساخ وليس الإساءة إلى المكان أو إيذاء حجارته، وأكد تقليص الأذونات الممنوحة لإقامة المناسبات وإلغاء الحفلات الغنائية نهائياً، مضيفاً: "ليست من مصلحة المتعهد أو منظم الحفلة مخالفة الشروط العشرين الموضوعة لإقامة الحفلات في الأماكن الأثرية، لأن أي مخالفة ستمنعه من دخول المكان بشكل نهائي".

تحوّل الأماكن الأثرية إلى صالات لإقامة حفلات المناسبات الاجتماعية للعائلات الراقية، ليس أمراً جديداً، فهذا النمط من الحفلات يُقام منذ عام 2010

ولعل المفاجأة في كلام المصدر كانت في أن عائدات تأجير الأماكن الأثرية لا تستفيد منها المديرية على الإطلاق، وإنما تذهب جميعها إلى وزارة المالية، وفي حال كانت هناك حاجة إلى تنظيف حجارة المكان الأثري أو إجراء بعض أعمال الصيانة فإنه يُطلب من مقيم الحفل إتمامها على نفقته الشخصية مقابل تخفيض كلفة استئجار المكان.

بين الماضي والحاضر

تحوّل الأماكن الأثرية إلى صالات لإقامة حفلات المناسبات الاجتماعية للعائلات الراقية، ليس أمراً جديداً، فهذا النمط من الحفلات يُقام منذ عام 2010، إلا أن الأمر أصبح ملفتاً مع استمرار مخالفة شروط إقامة تلك الحفلات جهاراً، وكذلك تضخم كلفتها.

في السابق، أي قبل 11 عاماً تقريباً، كان استئجار خان أسعد باشا ليوم واحد يكلّف 200 ألف ليرة سورية، أي ما يعادل 4 آلاف دولار (عندما كان سعر الصرف 50 ل.س)، أما اليوم فالكلفة تتراوح بين 3 و5 ملايين ليرة، أي ما يعادل 1،250 دولاراً (سعر الصرف اليوم يعادل 4 آلاف ل.س)، لاستئجار المكان فقط.

أما كلفة ديكور الحفل، فإنها تبدأ من 15 مليون ليرة سورية وتزداد تبعاً للمواد التي يرغب الشخص في استخدامها، فهناك من يأتي بـ"دي جي" من بيروت، وهناك تكاليف أيضاً لمنسقي الإضاءة والصوت، وتكاليف محروقات المولد الكهربائي، وتكاليف الضيافة.

قد تستمر الحفلات في الأماكن الأثرية لأعوام عديدة قادمة، والشيء الوحيد الذي قد يختلف هو لائحة أسعار استئجارها، لكن أسوأ ما في الأمر هو تكريسها للطبقية في المجتمع، وتأثيراتها على الأجيال القادمة من ناحية التهاون في الحفاظ على هذه الأماكن، وعدّها ملكاً للدولة فقط وليس للمجتمع.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image