تداول الغزيون أخيراً فيديو منسوباً لمجموعة شبان وشابات يقضون يوماً استجمامياً في منتجع "بيانكو" على شاطئ بحر غزّة. وأمام الواقع المعيشي تحت الحكم الإسلامي في غزّة منذ سنوات، تحوّلت القضيّة إلى قضية رأي عام، امتدّت إلى ما هو أبعد من ذلك، من تهديدات متطرفة وعنيفة رافضة لهذا الفيديو.
الشرارة انطلقت بعد أن نشر الفيديو حساب على تطبيق إنستغرام يطلق على نفسه "الفيروس الساخر"، وهو حساب مجهول الهويّة، اعتاد نشر انتقادات للحسابات الأكثر متابعة في قطاع غزة بشكل ساخر، بالإضافة إلى منشورات تتعلّق بأوهام التسويق الهرمي وغيرها، لكنّ الحساب في المقابل - يدّعي الفضيلة - ينشر عدّة فيديوهات تحريضيّة متطرفة ترفض وجود "الشابات غير المحجبات اللواتي يمارسن الرياضة على شاطئ البحر".
الفيروس يتغلغل
انتقلت القضية لمهاجمة المنتجع السياحي "بيناكو"، حتى أصدرت وزارة السياحة والآثار بياناً قضى بإغلاق المنتجع، لكنّه بعد يومين، قام بحذف الفيديو واعتبر أن الترويج لقضية الفيديو كان نصراً كبيراً بالنسبة له. هذا الحساب اكتسب قرابة 80 ألف متابع في وقت زمني قصير، العديد من المعلقين رفضوا أسلوبه المتمادي في اقتحام الخصوصيات على حسابات غزيين.
من خلال ما ينشره، يروّج الحساب لبعض المفاهيم الذكورية والرجعية، مثل ما جاء في أحد المنشورات، كأن يقتصر دور المرأة على انتظار زوجها لحين عودته من العمل، أو مساعدته في خلع حذائه ووضع قدميه في مياه دافئة ومالحة، وحدث هذا في منشورات سابقة، وأبدى كثيرون اعتراضهم، خاصّة أنّ معظم متابعي الحساب تابعوه من الأساس لمنشورات تتعلّق بالتحذير من التسويق الهرمي وعمليّات النصب التي يكون ضحاياها من الغزّيين.
اعترضت سميرة الجمّال وغيرها على هذه المنشورات، بعد أن بدأت تلاحظ أنّ الحساب ينشر خصوصيات الناس، ويشجّع على السخرية من شابات غزّيات يعملن في التسويق، وصولاً للتنمّر عليهن. تقول الجمّال لرصيف22: "هُناك مدافعون عن الفيروس الساخر، لكن للأسف، ظللنا ننظر إلى هذه الظاهرة كأنّها شيء مسلٍّ حتّى وصل الأمر للاستهزاء بالمرأة فقط لظهورها، هذا الحساب يروّج لأفكار نمطيّة وسلبيّة، وعلينا كنساء محاربتها".
بدأت تلاحظ أنّ الحساب ينشر خصوصيات الناس، ويشجّع على السخرية من شابات غزّيات يعملن في التسويق، وصولاً للتنمّر عليهن
تأتي هذه المنشورات، على الرغم من المادة (32) في القانون الأساسي الفلسطيني المعدل عام 2005 وتُقر بأن "كل اعتداء على أي من الحريات الشخصية أو حرمة الحياة الخاصة للإنسان وغيرها من الحقوق والحريات العامة التي يكفلها القانون الأساسي أو القانون، جريمة لا تسقط الدعوى الجنائية ولا المدنية الناشئة عنها بالتقادم، وتضمن السلطة الوطنية تعويضاً عادلاً لمن وقع عليه الضرر".
حصلوا على تصريح
نشرت وزارة السياحة والآثار في غزة في اليوم التالي بيانًا تعتبر فيه أن ما حدث مخالفة لعدم الالتزام بالشروط والإجراءات المتبعة في تنفيذ إقامة الفعاليات والأنشطة، مدّية أنها "تخالف أعراف وتقاليد شعبنا المحافظ الأصيل" وعليه، أعلنت في اليوم نفسه عن إغلاقها للمنتج السياحي ونشرت صوراً توضح عمليّة الإغلاق.
مصدر خاص قريب من "بيانكو"، أكد لرصيف22 أن ما جرى من إغلاق طال فقط الفيلا التي أقام فيها أفراد المجموعة الشبابية يومهم الترفيهي، وكانوا قد حصلوا على تصريح شفوي من مباحث السياحة، لكن بعد إثارة الضجة حول الأمر، حوّلت مباحث السياحة الرد لوزارة السياحة والآثار من أجل عدم الإحراج، وبدورها، أصدرت بياناً تقول فيه إنها أغلقت المنتجع.
يضيف المصدر: "حجز الفريق الشبابي الفيلا قبل أسبوع، وهم مجموعة كشفية تابعة للكنيسة الكاثوليكية في غزة، يحكم المنتجع نظام دخول لوزارة الداخلية، يلزم الرقابة والحصول على بيانات المستأجرين للشاليهات والفلل".
ويتابع: "كل مشاكل غزة انتهت أمام المنتجع، هناك عاطلون عن العمل وحالات انتحار وفقر مدقع، بدلاً من الوقوف مع هذه المشاريع التي تُشغِل عاطلين عن العمل وتضيف منظراً سياحياً جميلاً لغزة، المنتجع استقبل مغتربين فلسطينيين عبّروا عن سعادتهم بتطور المشاريع بهذا الشكل رغم الحصار والانغلاق".
انفجار وتطرُف
بعض التعليقات عبرت عن غضبها كذلك، لا شكّ أن أكثر التعليقات المكررة كانت تعبّر عن استفسارات وأسئلة من نوع "هل هذا في غزّة؟" و"هل يعقل أن يكون هذا في غزّة؟"، للتدليل على أنّ "ظاهرة الاختلاط" لا يمكن أن تحدث هُنا. ومن جانب آخر، رفض ناشطون وصحافيون وكتّاب الحملة ضد المجموعة الشبابيّة، واستهداف المشاريع السياحية التي تعكس صورة جميلة وسط هذا الخراب.
سعت وزارة الداخلية في كثير من المناسبات للطلب من الفرق الموسيقيّة التي تقدّم عروضاً عامّة، على عدم الاختلاط بين الفرق الموسيقية المؤدية للاحتفالات، واقتصار الأمر على الصالات والمسارح المغلقة لدى بعض المؤسسات، كما سبق أن منعت فرقاً عديدة بسبب احتوائها على عناصر نسائيّة، سواء في الغناء أو العزف. على سبيل المثال، ما حصل مع فريق "صول باند" الغزي.
ينظر الكاتب محمود جودة إلى أنّ الحصار لم يكن عسكرياً بحتاً، بل هو اقتصادي وثقافي واجتماعي. يقول "الناس هنا لا تعرف عن العالم الآخر والثقافات الأخرى شيئاً، وتظن أنها تملك المفهوم والمعنى، حتى ثقافات من يعيشون معهم في نفس الحيز الجغرافي المحاصر يجهلونها، المجتمع لم يعد بحاجة إلى أجهزة أمن توجه سلوكه لتفرغ منه شحنات الغضب. نجحت السلطات بتحويل الشعب إلى أفراد أمن: على أنفسهم عندما يمارسون الرقابة الذاتية، وعلى غيرهم عندما يمارسون دور الرقيب".
لم يُدهش أخصائي الطب النفسي باجس النجار من التهويل الذي أحدثته قضية الفيديو، إذ تحدث كثيرًا في دراسات شارك فيها مع منظمات دولية ومحلية حول الضغوط النفسية التي يواجهها الغزيون مع استمرار الحصار الإسرائيلي والانغلاق على العالم الخارجي، واعتبر أن الانغلاق الجغرافي على غزة يولِد حالات نفسية أهمها "الاغتراب النفسي" و"التطرف الديني".
المجتمع لم يعد بحاجة إلى أجهزة أمن توجه سلوكه لتفرغ منه شحنات الغضب. نجحت السلطات بتحويل الشعب إلى أفراد أمن: على أنفسهم عندما يمارسون الرقابة الذاتية، وعلى غيرهم عندما يمارسون دور الرقيب
ويلفت إلى أن الانغلاق الثقافي يخلق حالة من الانعدام النفسي، كذلك التوحد المجتمعي النفسي على أفكار غير قابلة للتغيير والنقاش، ومن يساعد على ذلك هو السياسة العامة إن كانت سياسية ودينية. يقول لرصيف22: "تمّت برمجة الدماغ الغزي منذ عشر سنوات لاستقبال السيئ كي يتقبل الفضائح والكوارث، التي أصبحت على شكل جراثيم نفسية تنتشر بصورة سريعة في بؤرة مغلقة، بل تحولت للمجالس الاجتماعية بين الشبان من باب التسلية، وهو ما أسميه إعادة تدوير الحالة النفسية المنعدمة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
عبد الغني المتوكل -
منذ 20 ساعةوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 21 ساعةرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت