خلال السنوات الأخيرة أصبحت البيوت النوبية الواقعة بالقرى والجزر النوبية في محافظة أسوان، بمثابة وجهة سياحية قائمة بذاتها وأحد عناصر الجذب السياحي الداخلي والخارجي في أقصى جنوب مصر، والتي أسهمت بدورها في القضاء على معدلات البطالة لدى السكان المحليين، حيث يستمتع الكثير من السياح بقضاء وقتٍ ممتع تحت قباب البيوت النوبية التراثية ذات الألوان الزاهية والزخارف والنقوش الجميلة التي تشعرنا بأنها لوحات فنية من صنع فنانين موهوبين، ويقومون بالتقاط الصور التذكارية لها وفيها.
ويحظى نزلاء البيوت النوبية بمشاهدة التماسيح النيلية التي يربيها النوبيون داخل أقفاص ضمن عادات وتقاليد ورثوها عن الأجداد، ويتناولون كذلك مشروبات الشاي بالنعناع و"الدوم" و"الكركدية"، وتُقدم لهم وجبات الغذاء المكونة من اللحوم والدجاج وطواجن الخضار على الطريقة النوبية، وفي المساء تزور بعض تلك البيوت فرق فنية لتقديم الأغاني التراثية النوبية القديمة والفلكلور النوبي، كما يمكن للسياح شراء المشغولات اليدوية التى يصنعها السكان المحليون من خامات الطبيعة.
قِباب تقوم بعمل المراوح والمُكيفات
من الصعب أن تخطئ العين الطراز المعماري المميز للعمارة النوبية، سواء كان ذلك متعلقاً بأشكال البيوت أو المنشآت الإدارية، وحتى فى أسلوب بناء المقابر، حيث تشتهر العمارة النوبية دون غيرها بديكوراتها وحليها المعبّرة عن التراث والفلكلور النوبي، وتستلهم أفكارها من الطبيعة والبيئة المحيطة.
استفاد النوبيين في العمارة من عناصر البيئة المحيطة بهم كالزهور والأعلام والنخيل والنجوم والأهلة وزخارف الأطباق الصينية ومجسمات للحيوانات
وبشكل عام تُبنى البيوت النوبية من الطوب اللبن المصنوع من الطين غير المحروق، ويتكون البناء من طابق واحد فقط تكون جدرانه عالية تغطي سطحه قِباب صُمّمت خصيصاً بغرض توزيع حرارة الشمس كيلا تصبح مسلطة بشكل عمودى على سطح البيت فتنقل كل الحرارة إلى داخل البيت.
وعادة ما يتم تصميم سطح البيت على شكل قبة مجوفة من داخل البيت النوبي، ويغطي سطحَ كلِّ غرفة قبةً تمتد بامتداد مساحة الغرفة، كما يوجد بداخل تجويف القبة أربع فتحات تكون اثنتان منها في بداية الغرفة، واثنتان أخريتان في نهاية الحجرة لتجديد الهواء داخلها كيلا تتطلب وضع مراوح أو مكيفات بها على الرغم من شدة الحرارة في بلاد النوبة، خارج البيوت، حيث تم تصميم فتحات القباب بطريقة تجعلها تجدد الهواء باستمرار. أما المساحة ما بين الغرف فيتم تغطية أسقفها بواسطة تعريشة يتم صنعها من سعف النخيل بغرض حجب أشعة الشمس عن فناء البيت النوبي.
رموز فرعونية وقبطية وإسلامية
يتكون البيت النوبي التقليدي من بناية لا تتعدى الدور الواحد، يتألف عادة من حوالى 4 حجرات بخلاف الديوان، ويشمل: المدخل، الفناء أو الحوش السماوي، غرف النوم أو القباوي، المخزن ، المطبخ أو الديوكة ويسمونه ديو نار، المرحاض ، المزيرة، غرفة الرجال أو المضيفة، والتي تكون بعيدة من جناح "الحريم"، لأنها مخصصة لاستقبال الضيوف من الذكور فقط. وعادة ما تتم عملية بناء البيت بجهود الأهل والجيران؛ يشارك كلُّ شباب ورجال العائلة والقرية في بناء البيت، وقديماً كانت تصاحب عملياتِ البناء طقوسٌ نوبية موروثة تختلف من منطقة لأخرى.
وقد استفاد النوبيون في العمارة من عناصر البيئة المحيطة بهم كالزهور والأعلام والنخيل والنجوم والأهلّة وزخارف الأطباق الصينية ومجسمات لحيوانات مثل التمساح والقطة والبومة والغراب والسباع والعقارب، كما ألقت الرموز القبطية بظلالها التي تجلت في العمارة النوبية والمصنوعات اليدوية، على هيئة رسومات للنجوم والسمك وسعف النخيل والمثلث الصغير، وكذلك تتجلى رموز الحضارة الإسلامية، مثل النيل والنخيل والهلال والكعبة والإبريق والمثلث الكبير.
وتجمع بعض البيوت النوبية في عمارتها بين النماذج الفرعونية والقبطية والإسلامية التي تمتزج في تناغم شديد، وتزينها رسوم ذات ألوان زاهية، وبعضها يتم تطعيم جدرانها من الخارج والداخل بأحجار كريمة جميلة الشكل.
جدران وأسقف تصدّ الحرارة وأشعة الشمس
ويختلف تصميم البيوت النوبية وفقاً لطبيعة المناخ في الجزيرة أو القرية، حيث نجد بعض البيوت تغطيها القباب بسبب وجودها في مناطق ذات طقس حار وجاف، بينما تلك البيوت المتواجدة حول مجرى نهر النيل فتمتاز بإنشاء أسقفها على ارتفاع كبير وكونها يغطيها الجريد، وتكون جدرانها مصنوعة من الطين أو الطوب الطيني، وغالباً ما يتم طلاؤها باللون الأبيض للحدّ من آشعة الشمس، وتُزينها الرسوم والنقوش النوبية.
ويُسمى غطاء أسقف البيوت النوبية بـ"الدوكسيد"، وهو يُصنع من سعف النخيل، ثم يغطى بورق النخيل، وتغطيه طبقة من الطين الممزوج بالقش لعدة أيام، ويتم رصّ جريد النخل فوق الجزوع عكس اتجاهه، ويُربط بحبال مصنوعة من ليف النخل، ثم يجري وضع سعف النخل فوق الجريد لسد الفتحات، قبل أن يُوضع الطين المخمر فوقه، وتعمل تلك الأسقف على تظليل البيوت وخفض درجة الحرارة بها، فتكون أقل مما هي عليه في البيوت التي صُنعت أسقفها من الإسمنت.
وعلى النقيض من كل المنازل يتميز البيت النوبى بعدم وجود نوافذ وشرفات به، حيث يتم استبدالها بكوة أو فتحات في سطح البيت، وتهدف تلك التقنية المعمارية للحفاظ على الرطوبة داخل المنزل بحيث يرتفع الهواء الساخن للأعلى فيخرج، ويبقى الهواء البارد فقط في الأسفل بسبب وجود القباب، مما يخلق تياراً من الهواء الرطب داخل البيت النوبي.
النساء وتزيين البيوت النوبية
منذ آلاف السنين والنوبيون يهتمون بالرسم على جدران بيوتهم، وعادة ما تقوم النساء النوبيات بتزيين وزخرفة البيوت ولا سيما في أوقات المناسبات السعيدة، كحفلات الزفاف داخل العائلة وعند الأعياد.
تجمع بعض البيوت النوبية في عمارتها بين النماذج الفرعونية والقبطية والإسلامية التي تمتزج في تناغم شديد، وتزينها رسوم ذات ألوان زاهية
ويتجلى الذوق النسائي النوبي في الوحدات الزخرفية الرقيقة التي تتكرر على المحورين الأفقي والرأسي، على هيئة وحدات وأشكال هندسية كالدوائر والمثلثات والنجوم والأهلة، ورسوم وزخارف مستمدة من البيئة المحيطة والقريبة من الحياة اليومية للنوبيين كأصص الزرع والنيل والنخيل والطيور والحيوانات والعرائس والمراوح بجانب الجُعل الفرعوني، كما تجمع الزخارف التي تُزين جدران البيوت النوبية بين كلٍ من الرسم التعبيري والكلام المكتوب، وهي ذات طابع شعبي وتحمل في طياتها دلالات رمزية متنوعة اجتماعية وثقافية وبيئية، كما تحمل بعضها طابعاً أسطورياً.
ويمكننا القول إن الزخارف النوبية تأثَّرت بشدة بالفن القبطي بسبب إقامة عدد كبير من الرهبان المسيحيين ببلاد النوبة في الماضي، حيث قاموا بتشييد مجموعة من الأديرة والكنائس هناك، وكذلك انعكس التأثر بالفن الإسلامي على كل من البيوت والصناعات اليدوية النوبية، حيث استلهم منه النوبيون فن صناعة الأرابيسك، واستعانوا برموز وزخارف إسلامية كالهلال والنجمة.
الاستفادة من عناصر البيئة المحيطة
تختلف كل قرية أو جزيرة نوبية من حيث الرموز والرسوم التي تُزيّن جدران بيوتها؛ فنجد بعضها تعتمد في زخرفة البيوت على استخدام كلٍّ من الوحدات الزخرفية الملونة والبارزة والغائرة، وتُزيّن بها واجهات المنازل، كما تعتمد في ذلك على تكرار العناصر الزخرفية المستلهمة من البيئة المحيطة والتي تحمل دلالات رمزية وتجمع بينها وبين الأشكال الهندسية المجردة كالمثلث والدائرة والأسطوانة، ويتم رسمها على جانبي مدخل البيت النوبي وفي الأعلى بشكل متماثل.
ويحرص الإنسان النوبي على الاستفادة من عناصر البيئة المحية، ولا سيما النخيل الذي يدخل في الكثير من الاستخدامات داخل المنازل بالنوبة، حيث تُستعمل جذوع النخيل بعد شقها وتهذيبها كدعامات رأسية داخلية للبيوت، وكدعامات أفقية لحمل الأسقف، كما يستخدم سعف النخيل في أسقف بعض الغرف غير الأساسية بالمنزل، بينما تُستعمل أوراق جريد النخل بعد تقطيعها لقطع صغيرة ضمن مكونات المزيج الذي يصنع منه قوالب البناء ومادة اللصق بين القوالب.
أجمل الجزر والقرى النوبية
تعد جزيره هيسا الواقعة شرق مدينة أسوان في أحضان نهر النيل من أقدم وأجمل الجزر النوبية، فتاريخها يعود إلى العصر الفرعوني حيث كانت بمثابة مقبرة للكهنة والكاهنات، وهي تتميز باحتوائها على العديد من الآثار والرسوم الفرعونية، بجانب كونها مزاراً صحياً لمرضى الروماتيزم وأوجاع المفاصل، مما يجعلها وجهة تجذب الكثير من السياح سنوياً، لا سيما في فصل الشتاء حيث أنها دافئة شتاءً حارة صيفاً.
وتتمتع البيوت النوبية على تلك الجزيرة بالألوان المشرقة، وهي مبنية على صخور الجبل الصغير وموزعة بشكل متناسق، وتغطي جدرانها الرسوم الزاهية والأحجار، وتجمع في عمارتها بين النماذج الفرعونية والقبطية والإسلامية.
وتتميز جزيرة هيسا بصناعة المراكب الخشبية، والتي تعد وسيلة مواصلات الوحيدة للدخول والخروج منها، ويعمل معظم سكانها في مهن الصيد والنجارة وصناعة أدوات الزراعة، كالساقية والطنبور وتأجير المراكب للسياح، إضافة إلى صناعة الفخار من طمي النيل والمشغولات اليدوية والإكسسوارات النوبية التي يبيعونها للسياح وزوار الجزيرة.
بينما تعتبر أيضاً قرية غرب سهيل، وجزيرة سهيل من أجمل القرى النوبية التي تستقطب أعداداً كبيرة من السياح في محافظة أسوان، ويعود تاريخ نشأتها إلى نحو مائة عام، وتستضيف بعض بيوت القرية الزوار الذين يأتون للاستمتاع بالتراث النوبي والإطلالة الجميلة على ضفاف نهر النيل، وتُقدم لهم المأكولات والمشروبات النوبية والفقرات الغنائية وترفيهية التراثية.
لا تزال العمارة النوبية مصدر إلهام للعديد من المعماريين والفنانين، ومنهم المصري الراحل حسن فتحي، الذى استلهم من العمارة الريفية النوبية في طرازه المعماري، ولا سيما في تشييد قرية القرنة
ويحافظ السكان المحليون لقرية غرب سهيل على العادات النوبية القديمة والتراث النوبي، ويشيدون منازلهم على شكل قباب غالباً ما تدهن باللون الأبيض للحد من حرارة الشمس. وبعض سكان القرية يربون التماسيح في البيوت.
عمارة ملهمة وبيوت صديقة للبيئة
لا شك أن العمارة النوبية صديقة للبيئة، لما تتمتع به من خصائص فريدة في مواد البناء أو التصميم الذي يعتمد على اتجاهات الرياح والإضاءة الطبيعية من الشمس.
في الماضي كانت تُبنى البيوت النوبية بالطوب اللبن، وذلك قبل تهجير أهالي النوبة عام 1963بسبب بناء السد العالي، ولكن في الوقت الراهن تطورت مواد بناء البيوت والمباني النوبية، وصار معظمها يُبنى بواسطة الإسمنت المسلح والطوب الأحمر والسيراميك. وبسبب ارتباط أهالي النوبة بالنيل يجري استخدام اللون الأزرق في طلاء معظم البيوت الجديدة، والتي تغطيها زخارف مستمدة من التراث النوبي، وتُعلّق عليها بعض الحيوانات المُحنطة ولاسيما التماسيح.
رغم ذلك يُفضّل قطاع كبير من النوبيين البيوت الطينية لكونها مناسبة للمناخ ولا تتأثر بالحرارة في الصيف، فلا يحتاجون إلى مكيفات، وتقيهم من برودة الشتاء، كما لا تتأثر بالأمطار بسبب القباب، وعندما يحل الشتاء يغلق الأهالي فتحات التهوية بالقباب لمنع دخول الهواء والمطر.
ولا تزال العمارة النوبية مصدر إلهام للعديد من المعماريين والفنانين، ومنهم المصري الراحل حسن فتحي، الذى استلهم من العمارة الريفية النوبية في طرازه المعماري، ولا سيما في تشييد قرية القرنة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 4 أيامtester.whitebeard@gmail.com