شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"قد أكون ذلك الفاشل الذي ليس لأفلامه الجمهور العريض"... المخرج محمد خان ورهاناته

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 26 يوليو 202204:47 م

"تحية من أحد الفاشلين إلى كل الناجحين"؛ يبدأ فيلم محمد خان "سوبر ماركت" (1989) بهذه العبارة التي، في معناها الساخر الأكثر عمقاً، قد تعبر عن شخص شديد الثقة بالنفس لدرجة التهكم بذاته، يقدم تحية ساخرة لمن يتهمونه بالفشل، لأن نجاحهم المرتبط بالثروة أو الشهرة أو السلطة بلا قيمة حقيقية، هو معيار فاشل بالنسبة له، فهو ينأى بنفسه عن الدخول في جدال فارغ لإثبات نجاحه، لأنهم أتفه من أن يستحقوا اهتمامه برأيهم، بينما يشير للمجتمع على اختلال الوضع.

ربما تعبر تلك العبارة عن المبدأ الذي يؤمن به خان نفسه، وقد قال ذلك مباشرة: "قد أكون أنا ذلك الفاشل الذي ليس لأفلامه الجمهور العريض جداً، فجمهورنا محدود إلى حد ما. قد تكون هذه الجملة تعليقاً على السينما التي أنا أعملها".

خان نفسه فارس له رهاناته؛ رحلته مليئة بالمغامرة التي تبدو عشوائية، منذ تغيير مساره لدراسة السينما، شغفه الساكن منذ الصغر، بدلاً من الهندسة المعمارية، الاختيار التقليدي الذي ذهب من أجله إلى لندن، ثم عودته لمصر وعمله في قسم قراءة السيناريو في الشركة العامة للإنتاج السينمائي، ورفضه الاستمرار بعد سنة لإحساسه أنه صار مجرد موظف، ثم ذهابه لبيروت للعمل كمساعد مخرج، وعدم رضاه عن نوع السينما التي يعمل بها هناك، ثم ذهابه مره أخرى إلى لندن وعمله في التجارة وبعده عن السينما، ثم عودته أخيراً إلى مصر وعزمه على إخراج وإنتاج فيلم "ضربة شمس" (1978) وعدم النظر للخلف بعدها، ليدخل في مغامرات على نوعية الأفلام التي يريد صنعها، فهو هاوٍ وعاطفي تجاه أفكاره، وبرغم ذلك محترف في تنفيذها، صنع سينما فنية مغايرة بشروط السينما التجارية السائدة، تخطئ وتصيب حساباته حول المكسب والخسارة، لكنه كان يتعامل مع السينما كفن وتجارة.

على الرغم من أنه كان ينتمي لمذهب الفن للفن، وأن أفلامه لا تسعى إلى تقديم قضية أو رسالة مباشرة للجمهور، إلا أنه كان يؤمن أن المخرج الصادق لا بد أن يكون اشتراكياً يرغب في تحقيق العدالة الاجتماعية، لذلك يبدو انحيازه للمهمشين في أغلب شخصياته التي قدمها

وعلى الرغم من أنه كان ينتمي لمذهب الفن للفن، وأن أفلامه لا تسعى إلى تقديم قضية أو رسالة مباشرة للجمهور، إلا أنه كان يؤمن أن المخرج الصادق لا بد أن يكون اشتراكياً يرغب في تحقيق العدالة الاجتماعية، لذلك يبدو انحيازه للمهمشين في أغلب شخصياته التي قدمها، من خلال الإخلاص في تقديم الشخصية بحقيقتها وتفاصيلها البسيطة العادية، ويشير للمشكلة دون ضرورة لتقديم حل، فحتى عندما قدم فيلم "أيام السادات" (2001)، إلا أنه بداخله ما كان يجذبه ليس شخصية الرئيس، بل الفلاح الحافي الذي عانى في الشوارع، ثم صار شخصية تاريخية.

ضربة شمس (1978)

منذ فيلمه الطويل الأول هذا، يعبّر اختيار المخرج للشخصية عن انحيازه للفرد، بداية من عنوان الفيلم الذي يجمع بداخله بتكثيف وإيجاز شديد عدة إحالات رمزية تعبر عن نفسها، والمغامرة التي يدخلها بطل الفيلم (شمس)، الفارس الذي يجوب المدينة (بالموتوسيكل) تعبيراً عن انطلاقه، بينما حبيبته تريده أن يمتلك سيارة، لأنها تريد الجلوس بجواره لا خلفه، بما فيه دلالة هذا المعنى عن علاقتهما وشخصيته.

البطل المصور الصحفي قد يمثل الشعب، لكنه يتميز بأنه بعين وعقل يقظ، ينافس/يسبق ضابط الشرطة الذي يمثل السلطة، في الكشف عن جريمة غامضة، كاميرا شمس مصوبة كالبندقية تجاه الواقع، بموازاة إمكانيات وأسلحة الضابط/الشرطة، ضد إجرام العصابة (المافيا) الجديدة في مجتمع ما بعد الانفتاح الرأسمالي، حيث يدفع شمس فضوله وراء الصور التي التقطها، ليبحث عن الحقيقة وراء تلك الجريمة، فيتورط في تحدّ مع عصابة خطيرة تحاول قتله. وبعد أن يكون على وشك الموت مقتولاً، تتضح له في النهاية الصورة الكاملة، بعد أن كان يرى جزءاً منها فقط بكاميرته. يزول ظلام الليل بعد المطارة الشاقة، لتشرق شمس يوم جديد، أصبح شمس فيه شخص مختلفاً، بسبب خوضه هذه التجربة واكتشافه لحقائق لم يكن يدركها قبل ذلك.

"قد أكون أنا ذلك الفاشل الذي ليس لأفلامه الجمهور العريض جداً، فجمهورنا محدود إلى حد ما. قد تكون هذه الجملة تعليقاً على السينما التي أنا أعملها" 

كما تعبّر أماكن تصوير فيلمه الأول، والذي يعتبر طفرةً في السينما المصرية، عن انحياز خان للشارع ورفضه للديكور، وهو انحياز الاقتراب للحقيقي في مقابل المصنوع، على مستوى المكان، كما هو على مستوى الشخصيات. وذلك سيكون عنصراً أساسياً في العالم السينمائي لخان نستطيع مشاهدته في ما بعد في الأفلام الأخرى، وطريقة أساسية لبداية الفيلم من الشارع إلى بيت البطل، وكأنه يقول للناس: أنا أتحدث عن واحد من بينكم.

"طائر على الطريق", "الحريف"، "فارس المدينة"

"زمن اللعب راح"

تتكرر فكرة الحنين إلى الزمن الضائع، في فيلم "فارس المدينة" (1990)، من خلال إهداء إلى أصالة صوت وزمن أم كلثوم التي تصاحب أغانيها البطل في سيارته.

ربما تكون شخصية "فارس" في هذا الفيلم، وفيلم "الحريف" (1983) وأيضاً "طائر على الطريق" (1981)، هي الأكثر تعبيراً عن عالم خان السينمائي، والفارس هنا لا يمتطي جواده، بل ينطلق بسيارته على الطريق السريع، أو يجري في الساحة الشعبية للعب الكرة الشراب، ثم يجوب المدينة بسيارته لتسديد ديونه بعد أن ولى زمن اللعب، وصار رجل أعمال منهزماً أمام الرأسمالية.

ففارس هنا نموذج ”البطل المضاد" (anti-hero)، والذي ينطبق باختلافاته على أبطال الأفلام الأخرى المذكورة في هذا المقال، هو عادي/المهمش، لكنه معتد بذاته وبذكائه وموهبته، المغامر المتحرر من القيود، العنيف في مشاعره وطريقة تعبيره عنها، وبرغم ذلك يبحث عن الاستقرار والأمان والحب؛ يحارب رأسمالية الانفتاح بموهبته، ثم ينخرط بها مع احتفاظه ببعض المبادئ.

فارس في مواجهة مستمرة ومتكررة مع الرأسمالية الغاشمة، في "الحريف" بموهبته كلاعب كرة شراب، وصراعه بسبب فقره وظروفه الاقتصادية وعمله غير المستقر في المصنع، والتي تؤثر على علاقته بزوجته وابنه، فتؤدي للطلاق، في مواجهة عرض عمل في تهريب السيارات من صديق قديم كون ثروة من هذه التجارة غير المشروعة، بعد أن كان يلعب مع فارس في نادي الترسانة، وتبدو عليه الغيرة من موهبته التي جعلته يترك الكرة لأنه لن يصبح مثله، قبل أن يرحل فارس بسبب ضربه للمدرب.

كأن هذه الدعوة هي صفقة الشيطان؛ في ظاهرها يريد أن ينتشل فارس من الفقر ويأخذه لطبقة اجتماعية قد ترقى إليها، بينما بداخله لم يستطع أن يتفوق على فارس في الملعب، فأراد أن يسلبه موهبته التي هي فرسه الوحيد بإغرائه بالمال، فيزول الفرق بينهما، بل سيقع فارس تحت أمره، بعد أن تحول لعبد مطيع للمال. يترك فارس زمن اللعب، يتخلى عن انطلاق جريه بالكرة ويألف حبسة السيارة، التي برغم شعوره بالتفاخر بركوبها لأول مره أمام معارفه، جعلته يتوه في شوراع كان يعرفها بقدمه.

وهو ما حدث في "فارس المدينة" الذي تنتقل فيه السيارة من مشهد إلى مشهد لتحصيل ديونه، حتى بعد أن صار يمتلك ثروة ومدخرات منها معرض سيارات، لكنه تهزمه مرة أخرى وحشية الرأسمالية الأكبر منه بإغراقه بدين كبير، وخسارة كثير من أمواله في شركة توظيف الأموال. يلهث فارس طوال رحلته لتسديد هذا الدين لأنه ما زال به من فارس القديم الوفي مهما كلفه ذلك، برغم أن هذه المبادئ لم تعد موجودة بهذا الزمن، ليخسر كل أمواله ويعود لنقطة الصفر، لكنه يكسب حبيبة جديدة.

"سوبر ماركت" (1989)

يناقش الفيلم مفهوم العبارة المطروحة في البداية من خلال ثلاث شخصيات رئيسية، رمزي، عازف بيانو خريج معهد الكونسرفتوار، وبينما يخسر عمله كعازف في فندق سياحي، يعرض عليه الدكتور عزمي الطبيب الثري، أن يعمل له مدرس بيانو خصوصي مقابل أجر مجز، ليحقق حلمه منذ الصغر. ينبهر رمزي بثرائه ويطلب منه أن يعلمه كيف يصبح ثرياً مثله.

يقدم الدكتور عزمي درسيْن لرمزي ليكون مليونيراً من الصفر؛ أن يعتمد على ضربة حظ أو يتنازل أخلاقياً. لكن رمزي لم يستفد من النصيحتين، فيسهو عن حقيبة الأموال التي وقعت بحوزته بالخطأ، ويرفض أن يساعد الدكتور عزمي في طلبه أن يتقرب لأميرة، صديقة رمزي من الطفولة من خلاله. تعمل أميرة كبائعة في سوبر ماركت، مطلقة، ولديها ابنة مراهقة، تواجه أزمة عندما يعود طليقها من الخليج بعد تكوينه ثروة، وتمتلك قناعة هي ورمزي برغم ظروف معيشتهما الضيقة.

تعبّر أماكن تصوير فيلمه الأول (ضربة شمس) والذي يعتبر طفرة في السينما المصرية، عن الاقتراب للحقيقي في مقابل المصنوع، على مستوى المكان، كما هو على مستوى الشخصيات

في النهاية يعود رمزي لعمله في الفندق، يقبل أن تعمل زوجته خريجة معهد الباليه الذي لم يعد له سوق، في فرقة للرقص الشعبي بعد أن كان يرفضه، حيث أن الناس لم تعد تفرق بين الرقص الشعبي والباليه. ويتفاجأ وهو يعزف بالدكتور عزمي يرسل له التحية (بقشيش) بينما هو جالس مع أميرة بعد أن رافقته أو تزوجته، وقد استجابت لإغرائه بالمال من أجل أن تسترد ابنتها التي انجذبت لثراء أبيها، برغم أنها في البداية نصحت رمزي أن يبعد عنه كيلا يخسر كرامته، ورفضت شخصيته المتعجرفة بثرائها.

يجلس رمزي في سيارته حائراً، ويستمع لموسيقى بيتهوفن التي كانت تصاحبه دائماً، بينما يلقي له أحد المارين بسيارته شريطاً، يشغله فيسمع "إيه الحكاية... إيه الرواية... كلمني.. فهمني"، في إشارة إلى أنه منفصل عن الزمن الذي يعيش فيه؛ هو يعيش في الماضي بموسيقاه ومبادئه، فالموسيقى الكلاسيكية التي يعزفها والمبادئ التي ما زال متمسكاً بها لم تعد لها قيمة.

في النهاية يفشل رمزي في أن يصير مليونيراً كما يفشل الدكتور عزمي أن يصير بيانيست، لكنه يثبت صحة نظريته أن المال يغري كل الناس، والناس يمكن أن تبيع أهلها وشرفها وروحها من أجل المال.

"مستر كاراتيه" (1993)

"أنا عايز أكسب زيهم"

في هذا الفيلم نشاهد شخصية صلاح، القروي الساذج الذي يناطح أضواء المدينة، حيث يذهب للقاهرة بعد وفاة أبيه، ليجد نفسه يرث عمله (كسايس) في مرأب سيارات، وبينما جاء بأخلاق القرية الطيبة حسنة النية، يواجه لاأخلاقيات المدينة، فيتعرض للإهانة والسطو والعنف بسبب استضعافه، حتى يتعرض لحادثة تسبب له العرج الدائم، ويجد نفسه مستضعفاً وسط مدينة وحشية البقاءُ فيها للأقوى. ينبهر بعالم أفلام أبطال الكاراتيه الذي كلما نظر إليهم في الملصقات شعر أنهم ينادونه، فيقرر أن يتعلم الكاراتيه ليحمي نفسه بيد فارغة كما هو معنى الكلمة، مؤمناً بما يغنيه.

يخشى صلاح أن يكون مصيره مثل مصير أبيه الذي مات غريباً في بلد غريب، وتدهسه الساقية لتأتي بغيره. يبحث عن القيمة وتحقيق الذات، لكنه لا يجدها أو حتى لا يعرف كيف يصل إليها، يتمنى لو يجيد التخطيط لحياته وبناء مستقبله، ويريد أن يجد من يساعده، وهو على استعداد أن يكسر حجارة الجبل، في مقابل أن يخرج بشيء جيد يسعد به هو ومن حوله. يستمر في تعلم الكاراتيه، غير أن الحادثة تحرمه من أن يحترف اللعبة، لكنه يحقق غرضه منها في حماية نفسه وحفظ حقه حتى عندما يترك المرأب، ويذهب لجلب الرزق من ساحة سيارات عامة، فيزيد مستوى العنف والمخاطر التي يقابلها. يتعلم ويمارس الحيلة والخداع كما تمارَس ضده. يرفض أن يكون مصيره مثل مصير (السايس) الذي سبقه، حيث جاء بسيطاً مثله من قريته، لكنه وقع في فخ عصابة المخدرات المسيطرة على المنطقة.

صلاح ابن التدهور الذي وصل إليه المجتمع والدولة بعد الانفتاح الاقتصادي، حيث التحول من الاشتراكي إلى الرأسمالي، ومحاولة تحويل مصر من دولة زراعية إلى دولة صناعية، فقد استفاد من مجانية التعليم الاشتراكي، لكنه لم يجد وظيفة، فلا بقي كفلاح ولا استفاد من شهادته التعليمية عديمة الجدوى، فتعلم أن يرمي نفسه في فم الأسد يعض فيه، لكنه بعد رحلته هذه يحن للأرض الواضحة الصريحة الذي يرمي البذرة فيها وهو يعرف ما سيحصد، بينما في المدينة لا يعرف ما سيحصده، أو قد يجدها أرض بور. يدرك أنه لن يكسب كل شيء كما في أفلام الكاراتيه، لكن البطولة الحقيقية أن ينجو بنفسه، فيرضى بكسب الحبيبة ابنة المدينة، يعودان معاً لعيشة القرية البسيطة الهادئة، ويعود في النهاية لاستخدام يده الفارغة في الزراعة بدلاً من المعارك الخاسرة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard