شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
في ذكرى رحيل محمد خان… كيف وثّق وطناً تنكر له بكل هذه القسوة؟

في ذكرى رحيل محمد خان… كيف وثّق وطناً تنكر له بكل هذه القسوة؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 26 يوليو 201902:02 م

"بغيابها كوّنتُ صُورتَها"... هكذا عالج الشاعر محمود درويش صورة الفقد باستكمال الناقص عبر خيوط غيابه، فمِن مادة الموت يُمكنك اختراع الحياة.. وكانت هذه ترجمة حرفية أداها المخرج محمد خان لعلاقته بوطنه اللدود، وذلك بالخروج من أيامه ليُثبت نسبه إلى مكانٍ ما في الخريطة، لعل العالم يرتاح.

قبل أن نسمع عنه مخرجاً ربما كنا سنجد اسمه على سلسلة محلات فول وطعمية شهيرة ينشئها، حسبما ذكر في كتابه "مخرج على الطريق"، في عاصمة الضباب، لندن، وتنتقل منها إلى دولٍ أوروبية أخرى كواحدةٍ من الماركات ذائعة الصيت... لكن مشروعه السينمائي هَزَمَ مشروع الفول والطعمية، الذي أراد أن يشارك فيه رائد الواقعية السينمائية، المخرج صلاح أبو سيف، في أواخر ستينيات القرن العشرين... كان مشروع الفول والطعمية بديل محمد خان عن وطنه السينمائي المفقود، ومقبرة جماعية لأحلامه، وعتاباً مكتوماً لشخص ملأه الغيظ ضد وطن لا يتسع للموهوبين بل لرجال الأعمال.

الهروب من الإقامة الدائمة إلى كادر سينمائي

هو المواطن محمد حامد حسن، ولعلك تجد مثيلاً لاسمه الثلاثي هذا في ريف مصر ومدنها على حد سواء... لعله يصلح لموظف أرشيف أو باشا من باشاوات مصر ما قبل الثورة... ويصلح أيضاً ليكون ميكانيكياً أو فلاحاً أو معلم جغرافيا... حتى لقبه، "خان"، لم يُثر فضول أحد ولم يبحثوا في أمر المُسمّى إلا حين دار الحديث على أنه لا يتمتع بالجنسية المصرية، بل هو مولود لأب من أصل باكستاني ولأم مصرية ويحمل الجنسية البريطانية، حتى "أنعمت" السلطات عليه أخيراً، بعد أن تجاوز السبعين من عمره، بالجنسية المصرية، ليكون مصرياً بريطانياً.

كيف توثّق وطناً يتنكّر لك بكل هذه القسوة؟ كيف تعامل أباك بالولادة والحلم، وهو المتبرّئ من خطيئته مع أمّك؟ كيف تكون محمد خان وتهرب من الإقامة الدائمة في الحلم، بكادر سينمائي لا يمت إلى المنام بصلة؟ أسئلة كبرى أجاب عنها "خان" عبر أفلامه... إذ صوّر القاهرة والشوارع والناس في لقطاتٍ من قاع المدينة القاتلة، كأنه يحرّض على هجرها برصد قبحها الآسِر، وقد خانته فطرته واعترف بهذا علانية في هروبه الكبير بفيلم "خرج ولم يعد".

الالتحاق بمعهد السينما في لندن

غادر خان القاهرة في عام 1956، متجهاً إلى إنجلترا لدراسة الهندسة المعمارية، وقادته المصادفة - تماماً كما تروي الأساطير دائماً فلا بد من مصادفة ما - للالتقاء بشاب سويسري يدرس السينما هناك، فذهب معه إلى مدرسة الفنون تاركاً الهندسة وملتحقاً بمعهد السينما في لندن.

درّبته عيناه على ما يريد كما يتدرّب غريب على لافتات الشوارع... عاش أفلام الموجات الجديدة للسينما، وسجّل في كراساته ما يريد أن يقوله الفرنسيون والإنجليز، فعاد بنظرة جادة ومختلفة عما هو سائد هنا في القاهرة، قلب العرب.

 كان مشروع الفول والطعمية بديل محمد خان عن وطنه السينمائي المفقود، ومقبرة جماعية لأحلامه، وعتاباً مكتوماً لشخص ملأه الغيظ ضد وطن لا يتسع للموهوبين بل لرجال الأعمال

سبع سنوات قضاها في لندن، أنهى فيها دراسة السينما عام 1963، بعدها عاد إلى القاهرة وعمل في شركة إنتاج تحت إدارة المخرج صلاح أبو سيف، وذلك بقسم القراءة والسيناريو، مع كل من رأفت الميهي ومصطفى محرم وأحمد راشد وهاشم النحاس، لكن هذه التجربة لم تستمر إلا عاماً واحداً بعدها هرب إلى لبنان ليعمل مساعداً للإخراج، وبعد عامين هناك، سافر مرة أخرى إلى إنجلترا، غريباً ينتظر نكسة وطنه في حرب حزيران 1967، وبعد عشر سنوات عاد إلى مصر، وبالتحديد في عام 1977 ليخرج فيلماً قصيراً، ثم في العام التالي يخرج لنا بـ"ضربة شمس"، أولى تجاربه الروائية الفيلمية، والذي أعجب به الممثل المصري نور الشريف عند قراءته للسيناريو، لدرجة أنه قرّر إنتاجه.

مواجهة "عدوية" في سينما السبعينيات

يمكن التأريخ لسبعينيات القرن العشرين بمعايير مختلفة، لكن ظهور المغني الشعبي أحمد عدوية يحتل لديّ مكانة المعيار الأصدق اجتماعياً وفنياً، وربما سياسياً، لرسم ملامح مرحلة العبث الكلّي... تسلّم معيار "عدوية" عقد السبعينيات ولم يتركها إلا وقد وصمها بالصخب والهمجية وركود المنظر والمضمون في قعر الآنية، كطبقةٍ صدئة لا يصلح معها سائل تنظيف ولو حتى بقوة قنبلة نووية، حيث تسمّمت معه القاهرة بكل أنواع السموم التي تضرب المجتمعات: حب لم يعد إلا سلعة.. شهرة لمن يستطيع الوصول إلى معدلات أسوأ في النشاز وهدر القيم... سينما وصفها المخرج المصري محمد كامل القليوبي بأنها "الموجة الأكثر هبوطاً في تاريخ السينما المصرية"، حيث لم يعد الإنتاج السينمائي مجرد استثمار لأموال تم الحصول عليها عن طريق التجارة في السوق السوداء، والتي بيع فيها قوت المصريين لمعسكرات الاحتلال البريطاني على خط القناة كما حدث في الثلاثينيات والأربعينيات، وإنما أصبح هناك إنتاج غزير دون الاهتمام بجودة العمل، نتيجة الأموال المتدفقة مجهولة المصدر، كأنها عمليات غسل أموال لثلاثة مصادر للثروة غير المشروعة في مصر، وهى حسب ما حدّدها مركز البحوث الاجتماعية، تجارة الآثار وتجارة السلاح وتجارة المخدرات.

وفي ظل سينما مسمّمة كهذه، كبر حلم خان، الذي حتماً وقفت شجاعته مع شجاعات أخرى لمخرجي جيله، أمثال عاطف الطيب وخيري بشارة وداوود عبد السيد، بالإضافة إلى السيناريست بشير الديك، لمواجهة ذوق جمهور يحتاج إلى الاغتسال من جنابةٍ معنويةٍ لحقت به... كان التحدي كبيراً، لكن تأثير سنوات لندن على "خان" بدا واضحاً، فالمخرج المصري بداخله اكتسب انضباطاً إنجليزياً صارماً، كان مُقلقاً لكل من يعمل معه، ورغم تورطه في حبّ شخصيات وقصص شديدة المصرية لم يخجل من ذوق "الخواجة" بداخله، وأفلتت علاقته بوطنه، الذي هرب منه، من فخ كونه مجرد مخرجٍ سائحٍ أتى لمصر بفنون الغرب بنظرة مستعلية.

كيف توثّق وطناً يتنكّر لك بكل هذه القسوة؟ كيف تعامل أباك بالولادة والحلم، وهو المتبرّئ من خطيئته مع أمّك؟ كيف تكون محمد خان وتهرب من الإقامة الدائمة في الحلم، بكادر سينمائي لا يمت إلى المنام بصلة؟ أسئلة كبرى أجاب عنها "خان" عبر أفلامه

 أسهب محمد خان في تأثير الحياة على البشر. كيف تؤثر فيهم بيوتهم وشوارع مدنهم ومواصلاتهم وأحلامهم بالزواج والحب... كيف تجعلهم الظروف السياسية ضحايا وقتلة... كيف يحبون الحياة بطرقٍ مبتكرة، كالهرب من الحياة حين تكون قوة ضاغطة على البشر تحرمهم الوجود

تأثير الحياة على البشر

انشغل عاطف الطيب في أفلامه بمناقشة أخلاقيات وقواعد إغريقية عن الحق والعدل، وغرق داوود عبد السيد في فلسفة إنجيلية صامتة، وسرح خيري بشارة مع تجارب سيريالية بين الواقع والفن، فيما أسهب "خان" في تأثير الحياة على البشر... كيف تؤثر فيهم بيوتهم وشوارع مدنهم ومواصلاتهم وأحلامهم بالزواج والحب، كيف تجعلهم الظروف السياسية ضحايا وقتلة... كيف يحبون الحياة بطرقٍ مبتكرة، كالهرب من الحياة أصلاً حين تكون قوة ضاغطة على البشر تحرمهم الوجود... لذا يبدو أبطاله مطارَدين من قبل الواقع: موظف يحلم بأن يكون مديراً ليحقق حلم والده، يخطب فتاة لا يحبها لكنه مضطر لاستكمال علاقته بها ويعيش كباقي المطارَدين بلقمة العيش والأحلام الفاسدة، لكن المصادفات فقط، أو التخطيط للمصادفات، هو ما ينقذ أبطال "خان" من هذه المطاردة العبثية، فأبطاله يكتشفون فجأة حماقتهم بأنهم هم مَن صنعوا عدوهم وأعباءهم وحملوا أثقالاً لا لزوم لها سلبتهم لذة العيش في كوخ بعيد عن كهرباء وضوضاء وحشية العالم المادي.

لقد مثّل "خان" دور جرس الإنذار والمُنادي الذي يصرخ بالغارقين في الحزن المصري: فرّوا من الجحيم، فهناك امرأة جميلة تنتظركم وكوب شاب يعدل المزاج وصينية مسقعة شهية وخالية من السُّم، هناك ما ينتظركم في ريف نقي يحتاج إلى الهرب إليه، لا منه، هناك حياة ما تنتظر المطحونين بإرادتهم... هناك دائماً في أفلام محمد خان حياة ما تستحق أن نتنازل عن الرخيص اللامع من أجل امتلاك وإدمان النفيس الذي يعلوه تراب العمى.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image