كنا صغاراً نتشاجر حول لغة كتبنا المقدسة، وكنت أسمع من زملائي أن العربية لغة الإسلام، ولكني لم أتقبل هذا الطرح بداخلي، وبسذاجة الأطفال تساءلت: كيف ذلك، والإنجيل مكتوب بالعربية؟! إذاً فهو الأسبق، والعربية لغة الإنجيل.
كأطفال مسيحيين في مصر، شاع بيننا الاعتقاد أن الإنجيل، كُتب أصلاً بالعربية، خاصة أننا لم نجد أبداً في بيوتنا نسخاً بلغات أخرى، وحين كبرت علمت أن العربية هي مجرد ترجمة للإنجيل، فولد آنذاك بداخلي شغف كي أعرف رحلة "أنفاس الله" مع لغة العرب.
وحين درست تراثنا العربي المسيحي، اكتشفت غناه وعمقه، وتساءلت كلما تقدم العمر والبحث بي، ألا يمكن أن تكون العربية هي الوعاء الحاوي للاهوت المسيحي الشرقي منذ القرن التاسع ميلادي.
بداية الرحلة
"رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خديجة يرجف فؤاده، فانطلقت به إلى ورقة بن نوفل، وكان رجلًا تنصر، يقرأ الإنجيل بالعربية".
"أنفاس الله" θεόπνευστος، هكذا لقّب بولسُ رسول المسيحية أسفارَ الكتاب المقدس، أكثر المنتجات الأدبية ترجمة للغات عديدة، قديمة وحديثة، وواحدة من أكثر الرحلات المشوقة هي رحلة الكتاب المقدس مع اللغة العربية.
يشير باحثون إلى أن شكل الكتابة بـ"لغة القرآن"، أي عربية مكة وقلمها، أصلها نبطي، وأن من كتبوا بهذا القلم هم نصارى العرب، وبالأخص أهل الأنبار والحيرة، فكتب جواد علي في موسوعته "تاريخ العرب قبل الإسلام": "ويلاحظ أن الذين كتبوا بالقلم العربي الشمالي، الذي أخذ منه قلم مكة، هم من العرب النصارى في الغالب. فأهل الأنبار والحيرة وعين شمس ودومة الجندل وبلاد الشام كانوا من النصارى".
أقدم النقوش العربية التي وصلتنا من القرن السادس هي من بيئة مسيحية، بحسب رابين في "إنسيكلوبيديا الإسلام"، مثل كتابة "خرائب زبد" في جنوب شرقي حلب، المكتوبة بثلاث لغات: اليونانية والسريانية والعربية، كُتبت سنة 512، وكذلك "نقش حران" باللغتين اليونانية والعربية المنقوش سنة 568.
يشير باحثون مثل لويس شيخو، حنا إسكندر وجواد علي إلى وجود ترجمة عربية للأناجيل سبقت الإسلام.
وهذا يدفعنا لتتبع رحلة "أنفاس الله" مع العرب المسيحيين، ويشير باحثون مثل لويس شيخو، حنا إسكندر، وجواد علي إلى وجود ترجمة عربية للأناجيل سبقت الإسلام، حتى وإن لم تصلنا، ويُعتبر ورقة بن نوفل، الذي ذكرناه في الافتتاحية، هو أقدم ذكر لترجمة الإنجيل إلى العربية.
في حديث آخر، تروي عائشة: "ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وهو ابن عم خديجة، أخو أبيها، وكان امرءاً تنصّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربي، فيكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عُمي".
وأيضاً يذكر جواد علي أنه عند "فتح" الحيرة، كانت بالمدينة مدرسة صغيرة يتعلم فيها الأطفال القراءة والكتابة، وكتابة الإنجيل بالعربية.
من الحيرة وورقة بن نوفل تبدأ رحلة أنفاس الله مع اللغة العربية، والتي امتدت زهاء 1500 عام.
رحلة القرن السابع
وما زلنا في القرن السابع الميلادي، فقد توفي ورقة عام 610، ومعركة الحيرة كانت عام 633، وبالانتقال إلى عام 643 نجد أنفسنا في بلاط عمير بن سعد الأنصاري، ومعه يوحنا الثاني أبو السدرات (صنّف أدعية خشوعية، تعرف بالحواسيات أو السدرات ومن هنا سمي يوحنا أبو السدرات) بطريرك الكنيسة السريانية الأرثوذكسية، ويطلب عمير من يوحنا أن يترجم له الكتاب المقدس بالعربية، فينقل الكتاب المقدس من الترجمة السريانية المشهورة بالبشيطا (أي الترجمة البسيطة) على يد مهرة التراجمة من العرب المسيحيين الأرثوذكس من بني عقيل وتنوخ وطي.
ومن أرض الشام، نسافر عبر البحر إلى أوروبا، وبالتحديد إلى إشبيلية في إسبانيا، وبعد حوالى قرن، نجد الأسقف يوحنا يترجم الكتاب للغة العربية حوالى عام 750م، من الترجمة اللاتينية الفولجاتا (أي الترجمة الشعبية)، والحقيقة أن تلك الترجمة ليست هي الوحيدة التي جاءتنا من إسبانيا بعد مرور قرنين من الزمن، ففي حوالى 960م كان الاسم الأشهر بين مسيحيي القوط، في شبه الجزيرة الأيبيرية، هو حفص بن البر، قد ترجم سِفر المزامير إلى العربية.
بالرغم من كل تلك الشهادات التاريخية عن الإنجيل العربي، سواءً قبل الإسلام أو بعده، إلا أنه لم يصلنا حتى مخطوط واحد عن أي ترجمة عربية أو حتى شذرة قبل عام 867م، وهو العام الذي أكمل فيه بشر بن السري ترجمته في دمشق، ووصلنا هذا المخطوط تحت اسم Mt. Sinai Arabic Codex 151، وهو من مكتبة دير سانت كاترين في جنوب سيناء.
وتعد أحد أقدم الشذرات العربية للإنجيل، شذرة غير متوقعة تماماً، عبارة عن جزء من ورقة واحدة عليها كتابة في الوجهين.
كأطفال مسيحيين في مصر، شاع بيننا الاعتقاد أن الإنجيل، كُتب أصلاً بالعربية، وحين كبرت علمت أن العربية هي مجرد ترجمة للإنجيل، فولد آنذاك بداخلي شغف كي أعرف رحلة "أنفاس الله" مع لغتنا
فقد نشر معمل برينستون لحفظ وثائق الجنيزا (وثائق الجنيزا هي الوثائق المدفونة في المعابد اليهودية، ولا يمكن حرقها، وتسمى جنيزا أي جنازة) على موقع التدوينات القصيرة "تويتر"، صورتين لشذرة misc.27..4.24.b. ويمكن أن تكون إحدى أقدم الترجمات العربية لنص إنجيل يوحنا (تؤرخ على الأرجح بالقرن التاسع الميلادي).
حسب قراءة مختصين للنص، تقدم الشذرة رواية صلب المسيح وتسليمه لأمه، بحسب صديقه وتلميذه يوحنا الحبيب، حسب نص إنجيل يوحنا في الإصحاح التاسع عشر.
قد تعد تلك الشذرة أقدم ترجمة عربية معروفة لإنجيل يوحنا، ومن أسرار تميز تلك الشذرة، ليس فقط قدم تاريخها بل المصدر الذي أتت منه، وأن اسم المسيح فيها ظاهر بنسخته العبرية (أيشوع) وليس عيسى أو يسوع.
ولكن، ماذا عن المسلمين ودورهم في نقل وترجمة نصوص الكتاب المقدس؟
الإنجيل الإسلامي
"قال أحمد بن عبد الله بن سلام، ترجمت صدر هذا الكتاب والصحف والتوراة والإنجيل وكتب الأنبياء والتلامذة من لغة العبرانية واليونانية والصابية وهي لغة أهل كل كتاب إلى لغة العربية حرفاً حرفاً، ولم أبتغ في ذلك تحسين لفظ ولا تزيينه مخافة التحريف ولم أزد على ما وجدته في الكتاب الذي نقلته ولم أنقص".
هكذا نقل النديم في مؤلفه الشهير المعنون بـ"الفهرست" عن محاولة أحمد بن سلام لترجمة الكتب المقدسة للديانات السابقة على الإسلام، في عهد هارون الرشيد في القرن التاسع الميلادي.
ويعرض الباحث الأكاديمي والمؤرخ الفلسطيني، طريف الخالدي، في كتابه "الإنجيل برواية المسلمين" أكثر من 300 اقتباس، مما سماه الإنجيل الإسلامي، من القرآن والأحاديث النبوية والسنة.
ومن الاقتباسات الملفتة للنظر في كتاب الخالدي، وهو حسب تصنيف الخالدي من أقدم الاقتباسات عن الإنجيل لدى المسلمين، إذ ينقل بن المبارك عن هلال بن يساف الأشجعي قوله: "قال عيسى بن مريم: إذا كان صوم يوم أحدكم فليدهن رأسه ولحيته، ويمسح شفتيه، لئلا يرى الناس أنه صائم، فإذا أعطى بيمينه فليخف من شماله، وإذا صلى فليرخ ستر بابه".
وهذا الحديث هو نفسه الوارد في عظة المسيح على الجبل في إنجيل متى الإصحاح السادس، وفيه: "وأما أنت فمتى صمتَ فادهنْ رأسَك واغسلْ وجهك، لكيلا تظهر للناس صائماً… وأما أنت فمتى صنعت صدقةً فلا تعرف شمالك ما تفعل يمينك… وأما أنت فمتى صليت فادخل إلى مخدعك وأغلق بابك، وصلّ إلى أبيك الذي في الخفاء".
ومن الملاحظ أن هلال التزم بدقة شديدة في نقل نص كلام المسيح، لكنه لم يلتزم بترتيب العظة الأصلية، حيث تأتي وصية الصدقة، ثم الصلاة، ثم الصوم.
حسب الشهادات تلك، وأخرى كثيرة قد تصل إلى 1300 اقتباس، كما في رسالة الدكتوراه الخاصة بمرتان عقاد، نجد أن المسلمين الأوائل اهتموا مبكراً بنقل نصوص العهد القديم والجديد إلى العربية، وتضمينها داخل التراث الإسلامي.
"أنفاس الله" سُمعت باللغة العربية في كنائس الجزيرة والشام والعراق قبل الإسلام بحوالى 100 عام على الأقل، وحين أتى الإسلام ضمها داخل تراثه، وعرّبها عن العبرانية واليونانية
بحلول القرن العاشر الميلادي، أصبحت اللغة العربية هي لغة مسيحيي "الدولة الإسلامية"، متبايني الأجناس والأعراق، من قبط وروم وعرب وسريان ونساطرة مشرقيين ولاتين قوط، وأصبحت هي وعاءَ لاهوتهم وثقافاتهم المتعددة ذات الخلفيات العقائدية والحضارية المختلفة، ونجد عميد الأدب المسيحي القبطي المكتوب باللغة العربية ساويروس المكنّى بابن المقفع، يشتكى من الحال الذي وصل له قبط مصر من تدنٍّ في المعرفة اللاهوتية، بسبب تخليهم عن اللغة القبطية، ما حدا بعد ذلك بالبطريرك القبطي غبريال بن تريك لإصدار قرار بطريركي بتعريب الصلوات والقراءات الإنجيلية داخل القداس.
من القرن العاشر حتى اختراع الطباعة في 1440 ميلادية، وطباعة أول كتاب مقدس كامل باللغة العربية في عام 1671 ميلادية، ظل مسيحيو الشرق بالأخص على مداومة إصدار ترجمات عربية للنص المقدس عن اللغات الخاصة بتقليدهم، فترجم الروم عن اليونانية، والقبط عن القبطية، واليونانية، والسريان عن السريانية واليونانية.
"أنفاس الله" سمعت باللغة العربية في كنائس الجزيرة والشام والعراق قبل الإسلام بحوالى 100 عام على الأقل، وحين أتى الإسلام ضمها داخل تراثه، وعربها عن العبرانية واليونانية، وظلت تلك الحركات المبكرة في ديناميكية شديدة، هدفها المؤمن وسدّ حاجته الإيمانية والروحية حتى استقرت الثقافة العربية، ليصدح صوت أنفاس الله في كل بيت وكل حلقة نقاش بين أتباع الأديان المختلفة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...