في 27 تموز/ يوليو من هذا العام، تُحال أمي إلى المعاش. كما أن عيد ميلادها الستين في اليوم التالي ليوم إحالتها للمعاش أي 28 تموز/ يوليو. أثار حلول هذين الحدثين مشاعر مختلطة ومختلفة لدي، وكأنني كنت نائمة واستيقظت فجأة لأجد أمي قد أنهت مشوار عملها الذي بدأته قبل ثمانية وثلاثين عاماً، أي قبل أن أولد بعشر سنوات. سعيدة لأن أمي أتمت فترة عملها، لأنه أصبح مُرهقاً لها في السنوات الأخيرة. لكن، مرور السنوات بهذه السرعة مُربك ومخيف، وجعل الأيام والسنوات الماضية تمر أمام عيني كشريط من اللقطات المتكررة.
اللقطة الأولى
كانت أمي توقظني أنا وأختي باكراً يوم الجمعة، حتى نساعدها في تنظيف المنزل، فهي ترى كما تقول السيدة عائشة أن البركة في البكور، ونحن لا يعنينا سوى أننا نريد أن ننام في يوم إجازتنا من المدرسة. لكنها تنهرنا حتى نستيقظ، فمرات نستجيب لها متذمرتين، ومرات أخرى لا نستجيب. ونستيقظ فيما بعد لنجدها أنهت كل أعمال المنزل، بما فيها غداء اليوم.في سنوات اغترابي الأولى في القاهرة، كنت أستيقظ مبكراً، وأبدأ في ترتيب كل شيء كما تفعل أمي في بيتنا في الإسكندرية. وبعد أن أصبحت زميلاتي في السكن صديقات مقربات، ولمحن اهتمامي الزائد بالنظافة، أخبرن بذلك أمي. وصرن حينما يأتيني طيف أمي قائلاً لي: "نظفي المنزل ورتبيه باكراً" فاستجيب له، يقولن لي ضاحكات "ماجدة، كفاية تنظيف بقى" فأضحك وأبتسم، لأنهم ينادينني باسم أمي.
إذا كان لدى أمي مشوار، سواء كان تخليص بعض الأوراق من جهات حكومية، أو زيارات عائلية لأقارب لنا يعيشون في منطقة تبعد كثيراً عنا، ويكون عليَّ الذهاب معها، توقظني مبكراً مرة أخرى، فأعترض على إيقاظها لي ثم تقول لي: "نخلص اللي ورانا قبل الحر، والزحمة أحسن"
اللقطة الثانية
إذا كان لدى أمي مشوار، سواء كان تخليص بعض الأوراق من جهات حكومية، أو زيارات عائلية لأقارب لنا يعيشون في منطقة تبعد كثيراً عنا، ويكون عليَّ الذهاب معها، توقظني مبكراً مرة أخرى، فأعترض على إيقاظها لي ثم تقول لي: "نخلص اللي ورانا قبل الحر، والزحمة أحسن". وبالفعل، ننتهي من مشوارنا سريعاً، ونعود إلى المنزل، ونجد في اليوم بعض الوقت نصنع فيه أشياء أخرى.عندما أصبحت أعمل في بيع الكتب، سواء مع المكتبات الإلكترونية، أو في مشروعي الخاص، ويكون لدي أكثر من مشوار، أراني أستيقظ مبكراً. وبالفعل، أستطيع أن أنهي في يومٍ واحد كل ما كنت أعتقد أنه يحتاج إلى يومين أو ثلاثة لإنهائه.
اللقطة الثالثة
لأن أمي تعمل عملاً حكومياً (أمينة وسائل، ومسؤولة حكومة إلكترونية) في مدرسة ابتدائية، كان الراتب الذي تتلقاه صغيراً نسبياً حتى بعد زيادته سنة تلو أخرى. لكنها كانت تستطيع شراء وتوفير كل شيء نريده من هذا الراتب، من أصغر شيء إلى أكبر شيء، من ألعاب، وملابس، ومستلزمات إضافية للمنزل، وغيرها من الاحتياجات. وكانت تستطيع تأمين بعض المبالغ المالية جانباً خوفاً من حدوث أي ظرف خارج عن إرادتنا يجعلنا في حاجة إلى المال. وكنت أتعجب كيف تستطيع فعل كل هذا من راتبها.بعد أن تخرجت من الجامعة، وأردت دراسة دبلوم النقد السينمائي بعد تخرجي مباشرة، كان عليّ تأمين مصاريف الدبلوم، ومصاريف انتقالي إلى القاهرة من سفر ومواصلات وإيجار المنزل الذي سأعيش فيه خلال ثلاثة أشهر فقط. وبالفعل، استطعت فعل ذلك من راتب صغير جداً ربما أقل مما كانت أمي تحصل عليه. وقتها، لم أتذكر سوى كلمات أمي تقول: "نستطيع فعل كل شيء مهما كان المال قليلاً طالما نتصرف فيه بنظام، فمن يرغب في فعل شيء سيفعله".
لأن أمي تعمل عملاً حكومياً في مدرسة ابتدائية، كان الراتب الذي تتلقاه صغيراً نسبياً حتى بعد زيادته سنة تلو أخرى. لكنها كانت تستطيع شراء وتوفير كل شيء نريده من هذا الراتب، من أصغر شيء إلى أكبر شيء، من ألعاب، وملابس، ومستلزمات إضافية للمنزل، وغيرها من الاحتياجات
لقطات تخص أمي وحدها
كل ما مضى لقطات خاصة بحياتي مع أمي أما ما يخصها وحدها فهو أجمل بكثير. مثل لقطة جلوسها بعد الانتهاء من أعمالها المنزلية، وتسريح خصلات شعرها السوداء الناعمة، واستمتاعها بمشاهدة فيلم لعبد الحليم حافظ أو فريد الأطرش أو وردة للاستماع لأغانيهم المحببة لقلبها.وأخرى وأنا صغيرة عندما طلبت منا المُعلمة أن نرسم الكعبة، وكنت لا أحب الرسم ولا أجيده. عُدت إلى البيت في هذا اليوم لا أعرف كيف سأذهب غداً ومعي الرسمة المطلوبة، فأخبرتُ أمي. وإذا بها تمسك بالقلم الرصاص وترسم الكعبة بشكل مُجسم. وكانت المرة الأولى التي أعرف فيها أن أمي تمتلك هذه الموهبة. وفيما بعد، حدثتني عن رغبتها السابقة في الالتحاق بكلية الفنون التطبيقية، قسم الديكور. لكن، جدي رفض سفرها إلى القاهرة للالتحاق بالكلية، وضاعت الرغبة بين الزواج والأولاد.
وإذا بها تمسك بالقلم الرصاص وترسم الكعبة بشكل مُجسم. وكانت المرة الأولى التي أعرف فيها أن أمي تمتلك هذه الموهبة. وفيما بعد، حدثتني عن رغبتها السابقة في الالتحاق بكلية الفنون التطبيقية، قسم الديكور. لكن، جدي رفض سفرها إلى القاهرة للالتحاق بالكلية، وضاعت الرغبة بين الزواج والأولاد
إلى أمي الرقيقة،
كل عام وأنتِ عظيمة.
يختلف عيد ميلادك هذا العام عن سابقيه تماماً، فأشعر وكأنه أول عيد ميلاد نشهده معك أنا وإخوتي. لذا، وددت أن يكون مختلفاً بكتابة هذه الكلمات إليكِ، ومشاركة الجميع معك في قراءتها. أتألم كثيراً يا أمي عندما أرى تأثير مرور هذه السنوات على صحتك، رغم احتفاظ وجهك الجميل بنضارته. فأنتِ الوحيدة يا أمي على وجه هذه الأرض التي أتمنى أن ينتقل كل ما تشعرين به من ألم إليَّ، والوحيدة أيضاً التي أتمنى من الله أن ينقص من عمري أياماً ويعطيها لك. لكن، الإشكالية هنا تكمُن في كلمات محمود درويش التي تقول "أعشق عمري لأني إذا مت... أخجلُ من دمع أمي".
في النهاية أحب أن أهدي إليك كلمات الكاتب طارق إمام "كل المحبة لكل جمالك".
ابنتك المحبة لكِ بجنون
رنا
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...