تفتح وفاء باب بيتها الكائن في إحدى بلدات البقاع اللبناني بابتسامة عريضة وترحيب، وتبدأ بتقديم الحلوى السورية التي صنعتها من مكونات المنزل المتوفرة، تعبيراً عن فرحها بعودة ابنها من امتحان الشهادة الإعدادية في سوريا.
بعيون لامعة من الحزن والفرح والأمل واليأس تباشر السيدة الأربعينية حديثها إلى رصيف22: "لا يوجد خيارات، نريد استكمال تعليم أبنائنا وبناتنا. هذا العام شاهدت طلاباً اقتربوا من عامهم العشرين، يذهبون من لبنان إلى سوريا لتقديم امتحانات الصف التاسع مع ابني، بعد سنوات ضائعة وفجوة في تعليمهم. بينما هو عاد من سوريا بنصف وزنه، ألوم نفسي على هذه التجربة، لكن لا بدّ منها".
تشير مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، بأن 67% من الأطفال السوريين التحقوا بمدارس المرحلة الإعدادية الرسمية في لبنان لعام 2020-2021، في حين التحق 29% منهم فقط بالتعليم الثانوي.
هنالك أسباب كثيرة تقف عائقاً أمام إكمال الأطفال السوريين تعليمهم في لبنان.
تظهر هذه الأرقام فجوةً كبيرةً ناتجةً عن صعوبات جمّة تمنع هذه الفئة من الانخراط في المؤسسة التعليمية اللبنانية الرسمية، ما يدفع بكثير من العائلات، مثل عائلة وفاء، لإرسال أبنائها لتقديم امتحانات شهادة التعليم الأساسي (أي الصف التاسع) في سوريا، ثم العودة إلى لبنان على أمل استكمال تعليمهم في بلد اللجوء.
وتمثّل هذه العملية، على أهميتها كبصيص أمل لهذه العائلات، تحدياً كبيراً، سواء قبل الامتحانات أو في أثنائها أو حتى بعدها، إذ على الأهل معرفة القنوات الموثوقة للقيام بالأمر، والتأكد من إتمام كافة الوثائق المطلوبة، لضمان حصولهم على شهادة معترف بها، وإلا فإن جهودهم وجهود أبنائهم ستذهب سدى. وفي الوقت ذاته تسعى بعض المؤسسات وعدد من الناشطين/ ات لمساعدة العائلات على التعامل مع هذه الصعوبات، والوصول إلى أفضل صيغة تضمن مستقبل أبنائهم التعليمي.
مراكز غير نظامية وامتحانات في سوريا
هنالك أسباب كثيرة تقف عائقاً أمام إكمال الأطفال السوريين تعليمهم في لبنان، أهمها عدم قدرة الأهل على تحمّل تكلفة المصاريف الدراسية، وغياب منهج مدروس لتسهيل عملية دمج الأطفال في النظام التعليمي اللبناني المختلف عن نظيره في سوريا، وتعرّض بعض الطلاب للتنمر والتمييز من قبل معلّمين وإداريّين أو زملاء في الصف مما يدفعهم لترك المدرسة، إلى جانب عدم القدرة على تأمين الوثائق المطلوبة لإتمام عملية التسجيل في المدارس، والإقامات القانونية. وتشير إحصائيات إلى أن قرابة ثلاثة أرباع السوريين في لبنان لا يملكون إقامات رسمية.
تتحدث السيدة وفاء، التي لجأت إلى لبنان قبل ثماني سنوات، عن هذه العوائق: "نقلنا أبناءنا من المدارس الحكومية بسبب الإضرابات المتواصلة للأساتذة منذ 2019 حتى الآن، ولا نستطيع إرسالهم إلى مدرسة خاصة بسبب تكاليفها الخيالية وصعوبة التأقلم مع مناهجها".
ذهاب الطلاب من لبنان إلى سوريا لتقديم الامتحانات - المصدر: مواقع التواصل
كان الحل بالنسبة لأبناء وفاء مدرسة "غير نظامية"، هي واحدة من مراكز عدة موزعة على مناطق البقاع الأوسط وبعلبك وعرسال وصيدا وبيروت، تعطي الطلاب السوريين شهادات غير معترف بها، وعند وصولهم إلى نهاية مرحلة التعليم الأساسي، يتجهون لتقديم الامتحانات في سوريا، بهدف الحصول على شهادة معترف بها على الأقل من قبل وزارة التربية هناك. والجدير ذكره أن هذه العملية موجودة منذ سنوات ما قبل الحرب في سوريا، لكن تجربة النزوح زادتها بشكل ملحوظ.
ويتم الأمر كما شرحت وفاء والعديد من أولياء الأمور الآخرين لرصيف22، بإشراف وتسهيل عدد من المنظمات والمراكز الموجودة في لبنان، وبالتنسيق مع الهلال الأحمر السوري الذي يستقبل الطلاب على الحدود ويبقى مسؤولاً عنهم ضمن المراكز الامتحانية ويقدم لهم وجبات طعام يومية، وكذلك مع مؤسسات حكومية سورية تجهز بعض المدارس في بلدات حدودية مثل الكفير وجديدة يابوس بالإسفنج والبطانيات، ليبيت فيها الطلاب حتى انتهاء الامتحانات. وتتراوح التكلفة بين 50 و250 دولاراً أمريكياً حسب المركز والخدمات التي يقدمها.
عرقلة تعديل الشهادات
"تبدأ الصعوبات المرافقة لهذه العملية من لحظة اتخاذ قرار السفر، نتيجة الخوف والقلق اللذين يرافقان الأهالي والطلاب، بالرغم من الضمانات، حتى أن بعضهم يتراجعون عن إرسال أبنائهم بسبب التشديد وعرقلة الإجراءات على الحدود"، تروي إحدى الأمهات لرصيف22، وتضيف أنها عملت مع بداية هذا العام على تسوية وضع ابنتها القانوني بسبب دخولها خلسةً إلى لبنان، للحصول على إقامة صالحة وتالياً تسهيل سفرها لتقديم الامتحان. مع ذلك، لم يكن عبور الفتاة سهلاً من نقطة "المصنع" الحدودية، واستغرقت الإجراءات ساعات طويلة.
وبعد العودة، تستمر معاناة الأهالي للحصول على شهادة معترف بها في لبنان، وهنا تكمن المعضلة الأكبر نتيجة تعقيدات كبيرة لها علاقة بالمستندات المطلوبة بشكل أساسي. فهنالك العديد من الطلاب الذين لا يملكون إقامات صالحة، وبحاجة إلى تسوية مع الأمن العام وخوض إجراءات مطولة تزيد من العبء المادي على الأهل، كما أن تغير القرارات ذات الصلة من وزارة التربية اللبنانية باستمرار، يفرض تحديات إضافيةً لها علاقة بتأمين وثائق قد يصعب الحصول عليها من سوريا نتيجة النزوح.
لا يوجد خيارات، نريد استكمال تعليم أبنائنا وبناتنا. هذا العام شاهدت طلاباً اقتربوا من عامهم العشرين، يذهبون من لبنان إلى سوريا لتقديم امتحانات الصف التاسع مع ابني، بعد سنوات ضائعة وفجوة في تعليمهم
تروي وفاء ما حصل مع الطلاب الذي قدموا الامتحانات في سوريا بين العامين 2015 و2019: "هذه الفئة لم تحصل على حركة مرور على الحدود، مما أثّر على تعديل شهادة التاسع، فلم يستطيعوا الإكمال في مدارس لبنانية، والأمر نفسه ينطبق على الشهادة الثانوية". وتضيف بحسرة حول واحدة من قريباتها، حصلت على الثانوية بمعدل يؤهلها لدراسة الصيدلة في سوريا، لكن لم تستطع معادلة شهادتها بسبب حركة المرور عندما قدمت الصف التاسع. "منذ أشهر، يئست وتزوجت وعينها على إكمال دراستها بعد أن استنزفتها كل الصعوبات".
أيضاً، منذ عام 2019 إلى اليوم، تعمل ريما نادر، وهي سيدة سورية ثلاثينية مقيمة في صيدا، على تعديل شهادة التعليم الأساسي لابنتها شهد، في وزارة التربية اللبنانية، من دون جدوى.
في مقابلة مع رصيف22، تقول ريما إن شهد تمكنّت من دراسة الصفين العاشر والحادي عشر في لبنان بناءً على وصل من الوزارة، ولكن لم تتابع بعدها لعدم قدرتها على تعديل الشهادة السورية، فتوقفت عن الدراسة وهو ما أثر سلباً على صحتها النفسية. "عانت ابنتي من مشكلات نفسية واكتئاب، وعرضتها على طبيب نفسي". وأكملت بأن هنالك الكثير من الطلاب الذين يعيشون تجربة شهد، ممن ضاع مستقبلهم إذ أصبح التعليم بالنسبة لهم مستحيلاً.
بذلك، يشير الأهالي ممن تحدث إليهم رصيف22، إلى ضرورة التأكد من الأوراق المطلوبة لمعادلة الشهادة في وزارة التربية اللبنانية، قبل خوض تجربة تقديم الامتحان في سوريا، وهذه الأوراق هي:
حملات لدعم التعليم
في مواجهة كل هذه الصعوبات، تعمل بعض المنظمات على دعم تعليم اللاجئين السوريين في لبنان، سواء عن طريق التمكين التعليمي، أو حملات المناصرة، أو غيرها من الأدوات.
في عام 2021، عملت منظمة مابس في البقاع على استجابة سريعة لتوفير تدريب مكثف لطلاب الشهادات مع نهاية العام الدراسي، ودعم الطلاب وتأكيد جاهزيتهم لتقديم الامتحان الرسمي في سوريا.
من الضروري التأكد من الأوراق المطلوبة لمعادلة الشهادة في وزارة التربية اللبنانية، قبل خوض تجربة تقديم الامتحان في سوريا.
في مقابلة لرصيف22 مع بيان لويس، منسقة المشاريع في برنامج التعليم المستمر وخدمة المجتمع في "مابس"، قالت إن المنظمة بالإضافة إلى ذلك، تقدم منحةً دراسيةً عبر الإنترنت للطلاب الحاصلين على شهادات من مدارس غير مرخصة أو غير معترف بها أو الذين لم يتمكنوا من تعديل الشهادة في الوزارة. وتضيف: "يُقبل في هذه المنحة ما يقارب 30 طالباً سنويّاً في منطقة البقاع، وتوفّر المنظمة قاعات مخصّصةً ومجهّزةً تقنياً لمساعدتهم على الالتزام بحضور المحاضرات وورشات العمل وتنفيذ الواجبات المسندة إليهم". وتشير إلى أن الإعلان عن فتح باب التسجيل في هذه المنح يتم عبر حسابات مابس على مواقع التواصل الاجتماعي.
من جهة أخرى، يعمل فريق إيديوباس (EduPass-Education is my passport)، على دعم الأطفال الذين لا يمكنهم الذهاب إلى المدرسة لأنهم أمضوا سنوات عدة خارجها بسبب الحرب أو كورونا.
محمود قانصو، وهو مهندس مدني عشريني سوري، أسس هذا الفريق انطلاقاً من تجربة ذاتية، ويقول إن هنالك الكثير من الطلاب ممن توقفوا عن الدراسة، أو لجأوا إلى عملية التقديم في سوريا، ولا يوجد برنامج تعليم سريع في لبنان يساعدهم على التعويض لتأمين عودة أسهل إلى المدرسة. ويضيف لرصيف22: "الهدف ليس تقديم حلول بديلة عن التعليم المدرسي، ولكنها حلول مكمّلة لدعم الطلاب لتحسين مستواهم التعليمي والاندماج مع المنهاج اللبناني، كونه الخيار الأفضل والأضمن لجميع الطلاب".
يعمل فريق إيديوباس على تطوير تطبيق إلكتروني يحتوي على شرح دروس المنهاج اللبناني بطريقة سلسة وبلغة سهلة، وسيكون متوفراً خلال العطلة الصيفية لطلاب الصف التاسع بشكل مجاني، بالإضافة إلى تأمين أساتذة مختصين للإجابة عن أسئلة الطلاب واستفساراتهم من خلال التطبيق.
يستكمل قانصو: "من أهداف المبادرة معالجة مشكلة لجوء الطلاب إلى خيار تعلّم المنهاج السوري بدلاً من الخوف من الاندماج في المنهاج اللبناني، وهو من شأنه خفض التكاليف الدراسية، وعدم استنزاف الوقت للدراسة والحصول على شهادات غير معترف بها. قد لا تكون هذه المبادرة حلّاً جذريّاً، ولكنها عامل مساعد يسهّل اندماج الطلاب السوريين في المنهاج اللبناني. وسنلعن عن نشر التطبيق على صفحات إيديوباس قريباً".
نوعّي الأهالي حول مخاطر حصول أبنائهم على شهادات سورية عن طريق مراكز تجارية، لا تتطلع لأمرهم بعد انتهاء الامتحانات، وتهتم فقط بالربح. فمشكلة الطالب بعد حصوله على شهادات لا يمكن معادلتها، أصعب بكثير، وتؤثر عليه نفسياً بعد هدره سنوات من عمره من دون جدوى
وضمن سياق متصل، تعمل رابطة الطلاب الجامعيين في لبنان AUSL، على حملات لمناصرة الطلاب اللاجئين في لبنان ودعمهم للحصول على حقهم في تعليم رسمي معترف به، من خلال تسليط الضوء على المشكلة والتواصل مع جهات معنية وصنّاع قرار لإيصال صوت الطلبة والضغط لتقديم تسهيلات وحلول سريعة، ومن هذه الحملات "إقامتي تفقدني تعليمي".
يقول محمد العبار، وهو طالب دراسات عليا في إدارة الأعمال في الجامعة اللبنانية الدولية، وأحد المتطوعين المتابعين لهذه القضايا ضمن الرابطة، لرصيف22: "نعمل على توعية الأهالي حول مخاطر حصول أبنائهم على شهادات سورية عن طريق مراكز تجارية، لا تتطلع لأمرهم بعد انتهاء الامتحانات، وتهتم فقط بالربح. فمشكلة الطالب بعد حصوله على شهادات لا يمكن معادلتها، أصعب بكثير، وتؤثر عليه نفسياً خاصةً بعد هدره سنوات من عمره من دون جدوى. يومياً تصلنا اتصالات الأهالي، يصفون مشكلاتهم ويطلبون الحلول، منهم من توقفت معادلة شهادته على التسلسل الدراسي، ومنهم على حركة المرور على الحدود، ومنهم من لا يستطيع تأمين إقامة أو أوراق ثبوتية".
ذهاب الطلاب من لبنان إلى سوريا لتقديم الامتحانات - المصدر: مواقع التواصل
ويشير إلى أن الأولوية بالنسبة للرابطة أيضاً، توجيه الطلبة نحو استكمال تعليمهم الرسمي في لبنان، عن طريق متابعة كافة القرارات ذات الصلة من وزارة التربية، وتقديم التوضيحات اللازمة للطلاب لمعرفة الشروط المطلوبة لمتابعة تعليمهم بشكل قانوني.
بالرغم من كل هذه المحاولات، إلا أن الحل الجذري بحاجة إلى تدخل حكومي لتدارك الوضع وتقديم تسهيلات أكثر في قطاع التعليم بما يتناسب مع حاجة اللاجئين السوريين، فوضع عقبات وطلب وثائق لا يمكن الحصول عليها قد يحرمان جيلاً كاملاً من التعليم ويتركانه لمستقبل مجهول المصير.
من جهة أخرى، لا بد للأهالي من متابعة السبيل الأفضل لدراسة أبنائهم من دون هدر المال والسنوات، والمرور بمطبات قد تعيق استكمال تعليمهم في المستقبل، فمن الضروري النظر إلى طريق واضح يتناسب مع الوجود القانوني لهم على الأراضي اللبنانية، والتأكد من حيازتهم الوثائق المطلوبة للحصول في النهاية على شهادات معترف بها، لا تضيع جهدهم وجهد أبنائهم من دون أي طائل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون