لا يبدو أنّ الأميركي جيرالد فوس في الفيلم التسجيلي "المتلصص" (كتابة غاي تاليس، 2017) قد تأثر برواية "الجحيم" (1908) للفرنسي هنري باربوس، أو قرأها لكي يدمن التلصّص على نزلاء فندقه. وفي حين أنّه لا يعترف بانحرافه، بل بأنّه باحث، دوّن ملاحظاته عن الحياة الحميمية والوجدانية للإنسان الأميركي على مدى ثلاثة عقود، فإنّ بطل "الجحيم" بدأ الأمر معه بمحض مصادفة ولّدت لديه الفضول إلى التطلّع، لكنّه سرعان ما عاد إلى عالمه الواقعي محمّلاً بذخيرة من التأملات والذكريات عن الحياة الحقيقيّة للمرء في وحدته.
والواقع أنّ صنع الله إبراهيم إذ يُعنَوِن روايته باللفظ الصريح "التلصص"، مجرياً الكلام على لسان طفل، بوصفه الراوي والرائي والسامع والمتلصّص، يطرح علينا تساؤلات عن مغزى اختيار مماثل. وكذا هي الحال مع عبد الحكيم قاسم، في روايته "أيام الإنسان السبعة"، حيث يسجّل بعض التقاطعات مع إبراهيم في اختياره الطفل عبد العزيز مراقباً الحياةَ القروية اليوميّة، ومنفعلاً بها، إلا أنّه يستخدم ضمير الشخص الثالث. وليست بعيدة عنهما، من حيث الغمز من عالم الطفولة الماثل في مطاردة بطرس ياسمينةَ ذات الثوب الأبيض، وقد دخلت حفرة كأرنب "أليس في بلاد العجائب"، روايةُ ربيع جابر "بيريتوس مدينة تحت الأرض".
التلصّص في متعته وجحيمه واستعاراته
قد يتبادر إلى الذهن أول الأمر ربطُ التلصص بالدوافع النفسية الجنسية حصراً، فيقتضي ذلك، في خطوة تالية، قراءة نفسية للشخصيات المتلصّصة في الإشارة إلى اضطراب يعرف بالبارافيليا (استراق النظر بهدف النشوة الجنسية). لكن هذه القراءة لا تقدّم جديداً، لا سيما أنّ النصوص موضوع الدرس لا تنحو هذا النحو إلا في بعض السلوكيات، بل تذهب، أي القراءة، في اهتمامها أكثر بتأويل التجربة الإنسانية والرؤى من طريق استخدام التلصص بوصفه تقنية، وما يدور في فلكه من استراق نظرٍ أو سمع، مع لحظ التفاوت في درجاته.
عالم التلصص في 3 أعمال... رواية ربيع جابر "بيريتوس مدينة تحت الأرض"، ورواية صنع الله إبراهيم "التلصص"، ورواية "الجحيم" لهنري باربوس
لا تخلو هذه الممارسة في اقتحام عالم الآخرين من إحداث متعةٍ في النفس تتعاظم لتغدو في بعض النماذج إدماناً. وإن كانت مشتركاً إنسانياً ترسيه النصوص الروائية، إلا أنّ ثمة إشاراتٍ على ألسنة الشخصيات تدينها؛ فبطل "الجحيم" يدرك تماماً ذنبه في الاطلاع على أسرار الآخرين باقتحامه خلوتَهم، وعلى غفلة منهم، من خلال فجوة في جدار يفصل غرفته عن الغرفة الملاصقة بها في النَزل المتهالك. ويمعن الروائي تسريبه التنازعَ البشري الخفي في الرغبة في التطلّع إلى ما هو محرّم واشتهاء ما هو للغير، فيصفه بالفكرة الأزلية الملازمة للإنسان. ومن منظور ثقافي شرقي يؤكّد خليل أفندي، والد الطفل السارد في "التلصص" أنّ: "البصّ على عورة الآخرين حرام".
عبد العزيز غلام تتنامى رغباته الجنسية، فكل ما يراه، مصادفة أو عن عمد، يحرّك أحاسيسه الذكورية. بعض المشاهد التي تعترض مدى رؤيته تدفعه ليحجب عينيه عنها خجلاً، كرؤية جسد والده العاري تماماً، أو عري أخواته النائمات في الغرفة الوحيدة التي تضمّهم جميعاً مع الوالدين، "فالإحساس بالإثم يرعبه". وأخرى ينعم النظر فيها، كأذرع النسوة المجتمعات والمنهمكات في العمل يوم الخبيز، بعد خلع جلابيبهنّ، وكشف الأعناق وأعلى الصدور، ولا سيما صدر محبوبته صباح، ناهضة الصدر، بحيث "يقفز الثدي خارجاً، وعبد العزيز مبهور الأنفاس يكاد يموت في مكانه".
أما طفلُ صنع الله إبراهيم، ومقابل ما يجول فيه نظره من مظاهر الحياة اليوميّة رفقة أبيه، ليرى صوراً وإعلاناتٍ عن أفلام، وما يسمع به من أخبار الساعة، والتعليقات عليها، فإنّ التلصّص من ثقب المفتاح ومن زجاج "البلكونة"، ومن خلف قضبان سور، أو من مخبأ تحت الطاولة، انتهاءً باقتحام الغرف، يلقي هوى في نفسه، وحاجة ليكتمل فهمه للحياة؛ حياة البالغين. وغالباً ما يعزّز هذا السلوك طلبُ والده إليه مراقبةَ عاملاتِ المنزل، وهذا الأخير نفسه ليس بمنأى عن هذه العادة، فيتضّح التماهي والتعلّم بالحال والمثال الأبوي.
"بيريتوس"... الدخول إلى متاهة الذاكرة لمطاردة أرنب أبيض
قد يحدث أن يتساءل قراء "بيريتوس" عن زجّها في موضوع هذه المقالة، باحثين عن تيمة التلصّص فيها. أوجز القول في أن القراءة المسطّحة تظلم الرواية والقراء معاً، وهي في قراءة استعاراتها ورموزها، تتيح فهماً من منظورات متعدّدة، أبرزها النفس-تاريخي. فدخول بطرس في حفرة، في إثر طيف أبيض تراءى له في لحظة تهويم، ليكتشف مدينة مطمورة، ما هو إلا تلصّص من ثقب الذاكرة والتجول في دهاليز الماضي القريب والبعيد، بحثاً عن منفذ للخروج/الخلاص من ثقل التاريخ في عنفه ومآسيه.
توجد هذه الحفرة في خربة سينما "سيتي بالاس"، الأثر الماثل من زمن الحرب الأهليّة اللبنانيّة، والكائن على خطّ التماس الذي كان يقسم بيروت بين شرقيّة وغربيّة، ويحيل إلى طفولة بطرس المعذّبة. هذا الأخير هو كلّ لبناني وعى جزءاً من تلك الأحداث. ويصف المتاهة بأنّها منخورة بسوسة المنخوليا، وهي مرض الاكتئاب الشديد، فيقول: "إذا دخلتْ سوسةُ المنخوليا إنساناً سكنت قلبه. إذا بلغت المخّ صارت تأكل المادّة الرماديّة، وتقضم التلافيف الطريّة التي تشبه الدهاليز، وتتغذّى على الذكريات والأحلام والخيبات، وتنمو كالدودة".
فناس بيريتوس ليسوا غير أطياف من خُطفوا وفقدوا، على غرار إبراهيم ابن خالة بطرس المخطوف، وقد عَثر عليه في المتاهة الأرضيّة. ويفصح بطرس عن أنّ سبيله للخروج ممّا تولّده المعارك من ضيق وفزع، حين كان صغيراً، هو الهروب إلى النوم، ليتساءل قائلاً: "لماذا لا أذكر من الحرب كلّها إلا نومي في الملجأ؟". ويمنّي نفسه لو كان كلُّ ما شاهده في بيريتوس مناماً لا حقيقة: "هذا كلّه منام طويل لن ألبث أن أستيقظ منه".
طفل يراقب، لكن لا يُلحظ وجوده... يا قوم لا تحقروا صغار الأمور!
بعد أن خلعت النسوة جلابيبهن من الحرّ والجهد يوم الخبيز، وبقينَ في القميص "البمبي"، وفي ظنّهنّ أن لا حرج عليهنّ، فلا يوجد غرباء وعبد العزيز لا خطر منه، ظلّت أم صباح هي الوحيدة حذرة ومحذّرة في قولها: "ما تآمنش للذكير ولو كان صغير". فهل كانت محقّة؟! الإجابة طيّ السؤال. الحكاية مع طفل "التلصّص" مشابهة، حيث نزعت الجارة "ماما تحية" شعرَ ذراعيها والإبطين بالحلاوة أمامه، قائلة بغير مبالاة: "وإيه يعني؟"، في ردّها على من فوجئت بذلك: "يا خبر، قدام الواد؟".
قد يتبادر إلى الذهن أول الأمر ربط التلصص بالدوافع النفسية الجنسية حصراً، فيقتضي ذلك، قراءةً نفسية للشخصيات المتلصّصة في الإشارة إلى اضطرابٍ يعرف بالبارافيليا، أي استراق النظر بهدف النشوة الجنسية
يمكننا القول، في هذا السياق، إنّ الروايتين كرّستا مقولة الجاحظ في بخلائه: "يا قوم، لا تحقروا صغار الأمور، فإنّ أوّل كلّ كبير صغير". وإذا ما رصدنا الوضع السردي في النصين لوجدنا أنّ عبد العزيز هو من يسمع ويرى، بينما يخبر عنه راوٍ عليم، بما يُعرف بالمرآة العاكسة (سرد من وجهة نظر شخصية). في حين أنّ الطفل المتلصّص، المتكلّم بضمير الأنا، يستحوذ على التبئير على امتداد السرد، ليجعل القراء يرى من منظوره. هذان الاختياران يتيحان التفسير بأنّ كلّاً من الروائيين يطلّان على ذاكرة طفولة بعيدة، جاعلين من القراء يرون من خلالها طبقة من طبقات ذكرياتهم بهواجسها ورغباتها المخزونة.
ثمة زمنان يسيران جنباً إلى جنب في رواية "التلصّص"؛ زمن الطفل النفسي بمخاوفه التي أضحت هاجساً بأن يتركه والدُه الستيني وحيداً، بعد أن فقد رعاية الأم، لجنونٍ أصابها، فيرافقه أينما ذهب، ويراقب تحرّكاته كيفما اتجه، وزمن مجتمع النص المتناصّ مع زمن الحدث الروائي الانهزامي (1948). فالقراءة السياسيّة تكشف دلالةَ عجزِ الوالد الذي بات عنيناً، ومعنى بحثه الدائم عن امرأة ليؤكّد رجولته، ويتحرّر من وحدته. هو زمن الفقد، في قراءة أولى، على مستوى العائلة (خليل بك) وانحدارها الاجتماعي والاقتصادي والنفسي، ومن خلال الصور والأحاديث يتعرّف الطفل إلى ماضي عائلته السعيد.
وما تلصّص الابن على الأب، ورؤية عورته، وإدانته حين فاجأه في وضع مشين مع خادمته "فاطمة"، ليصيح بهما قائلاً: "ينعل أبوكم"، إلا استعارة كبرى لزمن الآتي من الأجيال التي ترى وتدي الخرافة المستحوذة على عقول البسطاء، وفساد الملك وفضائحه الغراميّة، والغش والفساد والطبقية. كل ذلك من مصفاة وعيِ طفلٍ ناقم، نخاله لا يفقه شيئاً مما يراه، غير أنّه يتعمّد التلصّص عليه، فيفهم أسباب زمن الهزيمة. ولعلّ في المشهد الأخير لبكاء الوالد مع صفحة مفتوحة على عبارة "في القوة على الباه"، من كتاب "شمس المعارف الكبرى" يتّخذه مرجعاً يتكئ عليه في الحياة، رجاء في استعادة مجد الفوران، لتخطي تداعيات النكبة وانكساراتها.
الروائي المتلصص لاستلهام تجارب معيشة
يتداخل الزمنان أيضاً، في رواية "الجحيم" لعالم تأمّلي داخلي للراوي ذاتي الحكاية، وخارجي لعالم فعلي يحدث في الغرفة المجاورة. والجدار الفاصل استعارة لغلالة تفصل بين طبقات وعي المرء في تأملات ما بعد الإطلالة على جُلّ ما يعتري الإنسان من مشاعر القلق الوجودي، حيال الحب المحرّم، والإيمان الديني، وفكرة الألوهيّة، والبؤس، والأمومة، والخشية من المرض والموت وغير ذلك. هو عالم مدمج لا تقال فيه سوى الحقيقة لإنسان مجرّد من المظاهر.
بعد أن خلعت النسوة جلابيبهن من الحرّ والجهد يوم الخبيز، وبقينَ في القميص "البمبي"، وفي ظنّهنّ أن لا حرج عليهنّ؛ فلا يوجد غرباء وعبد العزيز لا خطر منه، ظلّت أم صباح هي الوحيدة حذرة ومحذّرة في قولها: "ما تآمنش للذكير ولو كان صغير"
فالشخصيّات شبه منزوعة الملامح، إذ تتراءى أطيافاً لعين المتلصص (نتيجة لعبة الضوء والظل، وهي تقنيّة تصويرية أجادها الروائي)، تؤكّد أنّها تمثلات فكرية وشعوريةّ ليس إلا. فلا عالم حقيقياً إلا عالم المتلصّص الذي انسحب من الحياة وقامر بوظيفته، لا لشيء سوى الوقوف على حقيقة نفسه والاستماع إليها. ونصدقه القول إنّه ليس متفرّجاً، فدائماً ما كان يتفاعل مع الوجوه في الجهة الأخرى، ويرغب في احتضانها.
وفي عوالم بيريتوس الغرائبيّة، يحاول الراوي النجاة مع شخصياته من ثقل الماضي، فهي أمثولة الفكاهة المرّة بالعودة إلى تاريخ تشكُّل المدينة من سكان هاربين من حروب وقعت باسم الدين والعصبيّة الطائفيّة، فعاشوا بغير دين يؤمنون به، أو كتب يظنون أنّها تفسد أفكارهم. ويتصوّر بطرس أنّ الخروج من أنفاق الذاكرة الكابوسيّة قد يتأتّى له في الكتابة، حين يحدّث جليسه الروائي (في القصة الإطار) بعد التجربة: "إذا أخبرتك القصّة وكتبتها أنت في رواية صارت تبدو لي خياليّة غير حقيقيّة، ولم تعد تفسد عليّ نومي".
وعلى هذا النحو يسرّب هنري باربوس إشارةً ختاميّة إلى مصدر الأدب في استلهامه الحقيقة الإنسانيّة، حين يفصح الراوي عن أنّه على مشارف عمل أدبيّ، وأن لا وجود للجحيم إلا في الخوف من الحياة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...