"دمشق، تلك المدينة الوادعة، القديمة والمهترئة، تسكنها مجموعة من البشر، يفصلهم عن الجنون جدارٌ رقيق لا يتمزّق بسهولة. أحد هؤلاء السكان، وهو مصوّر، استطاع العبور، فوجد نفسه قد تحول إلى غراب يلتقط صوراً للناس ويطير هارباً؛ تماماً كما يلتقط الغراب طعامه".
بهذه الكلمات يلخّص المصور الفوتوغرافي عمر ملص قصّة كتابه البصري "عين الغراب" الذي أطلقه، مترافقاً مع معرض تصوير فوتوغرافي، في المدينة القديمة في دمشق، يوم الأحد 16 أيار/مايو 2021.
في هذا المقال سوف أستغلّ قربي الشديد من الغراب-المصور وأتلصص على دفاتر ملاحظاته التي كان يكتبها أثناء العمل على المشروع الذي بدأ العمل عليه -للمصادفة السعيدة- بتاريخ 18/10/2018، وهو نفس اليوم الذي بدأت فيه علاقتي معه.
التحليق بين الأبيض والأسود
يحكي كتاب "عين الغراب" قصة يومٍ من حياة طائر غراب يعيش في مدينة دمشق، عن طريق صورٍ فوتوغرافية مرفقة بتعليقات تصف مشاهداته من منظوره الخاص، وبطريقته التي لا تخلو من الطرافة حيناً والإحساس العميق الميلانكولي حيناً آخر.
دمشق، تلك المدينة الوادعة، القديمة والمهترئة، تسكنها مجموعة من البشر، يفصلهم عن الجنون جدارٌ رقيق لا يتمزّق بسهولة
يستعير عمر لسان الطائر الأكثر حضوراً في يوميات المدينة على حد قوله، كما يستعير عينه لرؤية الواقع وترجمته إلى صور بالأبيض والأسود وتدرجات الرمادي العديدة بينهما. ويخبئ كل ذلك في كتابٍ بصري من 85 صفحة
يدوّن الغراب في دفتر ملاحظاته:
- أرغب في هذا الكتاب أن أعبّر عن الحياة اليومية للإنسان في هذه المدينة بما فيها من معاناة. هذه المعاناة التي لا يبدو أن أحداً يهتم بها أو ينتبه لها من الأساس، وكأن الغراب هو الوحيد الذي يلاحظها.
- عندما أحمل الكاميرا يجذبني تصوير من لم يخطر له في حياته أن أحداً ما يرغب بتصويره. معظم صوري هي لأناسٍ منسيين على هامش الحياة.
- أكره التجميل. أحب الأشياء على حقيقتها، الحياة جميلة حتى بقسوتها.
- ترى شخصاً مستلقياً مع كأس شاي فارغ في الشارع على الرصيف. بالتأكيد لا يمكنك أن تتخيل غرابة القصة التي أوصلته إلى هنا. (أحد القصص التي سمعتها وعلقت في رأسي أنه ربما ضرب على رأسه كثيراً ونسي من أين أتى ومن هو. ستسألني فوراً: من الذي ضربه؟ وما أدراني أنا الغراب من ضربه ومن هو أصلاً؟)
- أنا معجب بالأشخاص المنهمكين في عملهم. تعبر المآسي والحروب فوق رؤوسهم، وتراهم يستيقظون ويكنسون الغبار من أمام محلاتهم. إعادة إعمار حقيقة كل صباح. عندي آلاف الصور اليوم لهؤلاء الأشخاص. اكتشفت أن دمشق تمتلئ بهم.
لكن... لماذا الغراب؟
كل من قرأ الكتاب وزار المعرض أو سمع به يتساءل السؤال ذاته، لما لطائر الغراب من علاقة مثيرة للجدل مع البشر وقصصهم وأساطيرهم، ولما له من دلالات مرتبطة في معظمها بالخراب والموت. وغالباً ما يجيب عُمر كل من يتساءل بابتسامة: "ليش شبو الغراب؟ والله حلو ولابس طقم وذكي".
بالنسبة لي أعتقد أن الجواب الحقيقي موجود في الصفحة الأولى من الكتاب حيث يضع عمر إهداء: "إلى روح ن. و"، أسفل لوحةٍ تصور غراباً يجلس على أريكة ويشرب قهوته كإنسان، في غرفة يظهر من شباكها جبل قاسيون ببيوته المتراصة.
هذه اللوحة تعود إلى عام 2013، عندما رسمته صديقته نجلاء الوزة، كغراب يعيش في الاستديو الخاص به. ربما كان لهذه الرسمة أن تمر مرور الكرام لولا أن نجلاء غادرت عالمنا بعد عامٍ تقريباً من ذلك التاريخ، في شقة بعيدة في جنوب أفريقيا تحت ظروف غامضة، تاركةً جرحاً عميقاً في وجدان كل من عرفها إنسانةً وفنانة.
يحكي كتاب "عين الغراب" قصة يومٍ من حياة طائر غراب يعيش في مدينة دمشق، عن طريق صورٍ فوتوغرافية مرفقة بتعليقات تصف مشاهداته من منظوره الخاص، وبطريقته التي لا تخلو من الطرافة حيناً والإحساس العميق الميلانكولي حيناً آخر
يكتب عمر في دفتر ملاحظاته:
- حضور الغراب في مدينة دمشق وانتشاره على أسطحها بشكل كبير إضافةً إلى ذكائه المرتفع دفعوني للتساؤل مراراً كيف يمكن لهذا الطائر أن يكون قد عايش هذه المأساة الإنسانية الكبيرة؟
- نجلاء الوزة ترى أنني غراب يعيش على سطح مُطلّ على حديقة السبكي ?
- الغراب لا يثق بالإنسان، يبتعد عنه مسافة كبيرة، يخاف منه.
الخوف عنصر كبير حاضر في المعرض والكتاب. هذا الخوف الذي أتشاركه مع الغراب من أن نقع في أيدي أشخاص لا يفهمون تصرفاتنا. هو يلتقط طعامه من بين الناس بخوف وذكاء وسرعة، وأنا ألتقط صوري بنفس الطريقة.
- الخوف والشعور بالعجز جعلاني أنعزل عن نفسي في بيتي. ولكني بقيت أفكّر وأراقب وأصوّر من بيتي. وللصدفة السعيدة أن بيتي كان في مكان مرتفع على سطح بناء من ثلاث طوابق وسط المدينة، وهذا ما جعلني صديقاً للطيور، وبالأخص السيد غراب.
- بما أن حقوق الإنسان لم تفلح معنا ربما حقوق الحيوان تأتي بنتيجة... مو حرام هالغراب المسكين؟
السينما: الحاضرة الغائبة
يصف عمر مشروعه بأنه "فيلم وثائقي عن الإنسان صوّره غراب"، وهذا ليس بالغريب بالنسبة للشاب السينمائي الذي ولد في السينما وعاش فيها على حد قوله. كيف لا وهو الابن الأكبر للمخرج السينمائي السوري محمد ملص، صاحب "الليل" و"أحلام المدينة" وغيرهما من الأفلام التي تركت بصمتها على خارطة السينما العربية والعالمية.
يقول عمر إن السينما هي من أتت إليه، لا هو من سعى إليها، وبأنها موجودة في جيناته. درس الإخراج السينمائي في مدرسة السينما في باريسESRA Ecole Supérieure de Réalisation Audiovisuelle، وكانت له العديد من التجارب في العمل السينمائي داخل سوريا وخارجها. لكن ومع اندلاع الحرب في سوريا أصبح العمل السينمائي شبه مستحيل لاعتبارات عديدة ومعقدة، فاتجه نحو التصوير الفوتوغرافي كوسيلة للتعبير عن نفسه وعن رؤيته للواقع.
الكثيرون ممن قرؤوا الكتاب وشاهدوا الصور في المعرض عبّروا عن شعورهم بأن تجربة المشاهدة تشبه تجربة مشاهدة فيلم.
في دفتر الملاحظات يكتب عمر:
"حضور الغراب في مدينة دمشق وانتشاره على أسطحها بشكل كبير إضافةً إلى ذكائه المرتفع دفعوني للتساؤل مراراً كيف يمكن لهذا الطائر أن يكون قد عايش هذه المأساة الإنسانية الكبيرة؟"
- أنا أصور لكي أمتلك سبباً للعيش.
- أي زمنٍ هذا؟
الحديث عن الأشجار يوشك أن يكون جريمة / برتولد بريخت.
- هذا المشروع رومانسي. يعبّر عن علاقتي الرومانسية بمدينة دمشق.
- أشعر أن العالم اليوم يتجنّب الحديث عن شيئين: الرومانسية والحقيقة.
- هذا المشروع يلعب من خلال الطائر على الحقيقة المختفية خلف الرومانسية في مراقبة الواقع، والرومانسية هي النقيض الصريح للوحشية والحرب.
هامش/1:
عندما قلت لعمر بأنني سأكتب لرصيف22 عن المعرض والكتاب، طلب مني أن أكتب عن التجربة من وجهة نظري كشريكة في العمل وفي رحلات التصوير. لم يعرف بأني غير قادرة على الكتابة بحيادية عن تجربتي، وبأني بدلاً من كتابة مقال قد أخرج بقصيدة شعر.
هامش/2:
تم إنجاز مشروع كتاب ومعرض "عين الغراب" بمنحة من اتجاهات – ثقافة مستقلة، ومعهد غوته.
الناشر: دار كنعان للدراسات والنشر والخدمات الإعلامية في دمشق.
يقام المعرض في غاليري قزح، دمشق القديمة – طالع الفضة 8 ويستمر حتى مساء الأربعاء 26 أيار/مايو 2021.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...