دوّنت بعض الأفكار لهذا المقال، إثر مشاهدتي فيلم "قضية رقم 23" (2017) للمخرج اللبناني زياد الدويري؛ وأرجأت الكتابة. ويتأخّر المقال مرّة أخرى مع كل نزاع يطفو على السطح، بأوجه لا تبقى في إطار السجال الكلامي بين الجماعات، بل تتعدّاها إلى العنف الدموي أو التهديد به، في المستوى اللبناني على أقلّ تقدير، بغير الذهاب بعيداً إلى ما يجري في العالم. إنّما الحدث العسكري الراهن والأكثر بروزاً لا يقبل إرجاء البحث في جذور العنف، أعني الصراع الروسي الأوكراني.
يخبر أحد المتخرّجين اللبنانيين في جامعة أوكرانيّة، وقد كانت ضمن منظومة دول ما يعرف سابقاً بالاتحاد السوفياتي، أنّه عاين في غير قرية أنصاباً تذكارية عملاقة لضحايا الاعتداء الألماني إبان الحرب العالمية الثانية، وهي أنصاب تمجّد الصمود والانتصار في الوقت عينه. غير أنّنا بالمقابل لا ننسى جرائم ضد الإنسانية مورست بحق الألمانيات على وجه الخصوص، بدخول الحلفاء الأراضي الألمانية وإسقاط النازية. هو مثال ليس إلا، إذ إنّ تاريخ البشرية العنفي لا يخفى على أحد، وليس من جماعة لا تني تستعيد ذكرى اضطهاد تعرّضت له أو تحتفل بأمجادها. الأمر الذي يطرح سؤال المجد والنصر في علاقته بالآخر.
أعترف بمعاناتي!
فيلم "قضية رقم 23" يفتح نافذة ضرورية للإطلالة على فصول من الذاكرة اللبنانية، ممنوع الاقتراب منها أو مقاربتها...
يقول زياد الدويري في ما يتعلّق بفيلمه "قضية رقم 23" (The Insult) إنه "أراد أن يثبت أن ما من فئة (في حرب لبنان 1975-1990) يمكنها أن تقول عن نفسها إنها كانت وحدها مضطهدة، وما من فئة يمكنها أن تقول إنها وحدها جُرحت، فثمة فئة أخرى لها الحق أن تقول أيضاً إنها دفعت دماً خلال الحرب". ذلك بحسب ما جاء في موقع فرانس 24. وبالمثل، يرى الناقد نديم جرجورة أن الفيلم "يفتح نافذة ضرورية للإطلالة على فصول من الذاكرة اللبنانية، ممنوع الاقتراب منها أو مقاربتها... وتلك الذاكرة بين اللبنانيين والفلسطينيين".
رؤية كلّ من المخرج والناقد تحيلنا إلى ما جاء به أرسطو في نظرية العدل من الكتاب الخامس في "علم الأخلاق إلى نيقوماخس"، في أنّ العدل يتعلّق على الخصوص بالأغيار. وعليه فإنّ واجب الذاكرة هو واجب إقامة العدل، عن طريق الذكرى، لآخر غيرنا. غير أنّ وضع اليد على الذاكرة ليس من اختصاص الأنظمة الشموليّة وحدها، بل هو ميدان كل متعطّش إلى المجد. ففي كتابه "إساءات استعمال الذاكرة"، يوجّه تزيفان تودوروف، اتّهامه ضد الهوس المعاصر بإقامة الاحتفالات للذكرى، مع ما يستتبع ذلك من مواكب وطقوس وأساطير مرتبطة بالأحداث المؤسّسة، وهذا ما يتّفق أيضاً مع كلام بول ريكور، في أنّ الأحداث تعني للبعض المجد في حين أنها تعني للبعض الآخر المذلّة.
بين الكناية والتصريح بالتسمية
كما الشعراء الذين غالباً ما يهربون في المجاز تحسّباً لأيّ وقيعة سياسيّة، فإنّ من يتناول مسائل حسّاسة قد يتكئ على التنظير، لا فراراً من وجه الحقيقة، بل لأنّ التسمية في أمثلة محدّدة وقريبة على تماس مع واقعه قد يستتبعها مساءلة أخلاقيّة أو وطنيّة، بما يُعرف في لغة اللبنانيين أن يخضع الجريء بالمجاهرة "لفحص دم وطنيّة". كأن يعترف أو يشير إلى عذاب اليهود وتشتيتهم عبر التاريخ، في ظلّ ما يلاقيه الفلسطينيّون من أعمال عنفيّة مماثلة، وكأنّ الاعتراف بالأوّل ينفي إدانة الثاني وتجريمه. كما أنّه ليس بالهيّن أن يعترف التركي أو الكردي بما اقترفته جماعات من أسلافهما بحق الأرمن وشعوب أخرى متاخمة، من آشوريين (في سيفو)، من إبادات جماعيّة إبّان الحرب العالميّة الأولى. فالاعتراف، في توقيت ما خارج نيّة المصالحات التاريخيّة بين الشعوب والدول، قد يدخل صاحبه في دائرة الارتياب والتخوين.
إلا أنّ مصطلح الخيانة ملتبس المعنى إن لم نقل إنّه فاقده، في حالات معيّنة يشهد لها التاريخ، وليس زمننا هو الوحيد زمن التفكيك بحدوده المائلة ومفاهيمه الملتبسة. ففي الزمن الوسيط، لنا أن نسأل إن كان الأمير فخر الدين المعنيّ الثاني، مؤسّس لبنان الحديث، بطلاً وطنياً أراد أن يبني إمارة مستقلة عن السلطنة العثمانيّة، أم أنّه خائن للدولة العليّة، بتعاونه مع جهات أوروبيّة ليستحقّ الشنق. وبالمثل، تصنيفنا للبناني المتعاون مع إبراهيم باشا المصري (في النصف الأول من القرن التاسع عشر) في وجه العثماني للتخلّص من سيطرة هذا الأخير، ونسأل عن الخانة التي بإمكاننا أن نضع فيها المتعامل مع أي جهة أجنبية في الزمن المتأخر (إبان الحرب العالمية الأولى) للتحرّر من طغيان السلطة العثمانية. الأمثلة تتعدّد والتاريخ يحفل بها.
إقامة الاحتفالات والعودة إلى الذاكرة ينبغي لها أن تكون تكريماً لمن رحلوا، وللذاكرة الجمعيّة، وليس للعيش في بكائيّة ممتدّة تمجّد الألم؛ فتبقى الجماعة مسوّرة بفكرة أنّها الضحيّة الوحيدة
العنف والذاكرة وهشاشة الهويّة
أبرز من تناول جذور العنف، الفرنسي رينيه جيرار في كتابه "العنف والمقدّس"، حيث ينطلق من طرح مؤدّاه أن العنف ذو طبيعة محاكية، وهو في أساس كل فكر ديني وثقافي. ويعود به إلى فكرة الحلّ الذبائحي، حين تبتكر الجماعة وسيلة تقيها خطر التفتّت والانهيار في ذروة الأزمة المحاكية. هذا الإجماع العنفي على التضحية بفرد واحد بديلاً عن جماعة يترصّدها خطر الإبادة الشاملة، هو ما يسمّيه جيرار بالإبدال الذبائحي الأول، وبإمكاننا إسقاط هذه النظرية على الجماعات والدول في الحروب، كأن تكون "كبش فداء" تَسوَوي.
ويرى أنّ العيد يشكّل إحياءً لذكرى الأزمة الذبائحيّة، وأن الطابع الخيّر للإجماع التأسيسي ينزع إلى الماضي، ويتوق إلى تجميل الجوانب الشريرة للأزمة. فوظيفة العيد لا تختلف عن وظيفة ما عداه من طقوس ذبائحية؛ والمطلوب هو إحياء النظام الثقافي وتجديده بتكرار التجربة التأسيسية. يذكّر جيرار بظاهرة الإغفال والإنكار، التي باتت تطرح عقبة جدّية أمام كل بحث في العلوم الإنسانية، الأمر الذي ينذر بعودة العنف.
لا يبتعد بول ريكور عن هذه القضية وما يدور في فلكها، في كتابه "الذاكرة، التاريخ، النسيان"؛ إذ يقول إنّ ما نحتفل به كإحداث مؤسّسة هو عبارة عن أعمال عنيفة اكتسبت شرعيتها بعد وقوعها عن طريق دولة القانون. ويتحدّث عن الذاكرة التكرارية لكل الاحتفالات التأبينيّة، فالإفراط في الذاكرة يستدعي إلزام التكرار، ويذكر في هذا السياق ثلاثة أسباب رئيسة لهشاشة الهويّة.
في الزمن الوسيط، لنا أن نسأل إن كان الأمير فخر الدين المعنيّ الثاني، مؤسّس لبنان الحديث، بطلاً وطنياً أراد أن يبني إمارة مستقلة عن السلطنة العثمانيّة، أم أنّه خائن للدولة العليّة، بتعاونه مع جهات أوروبيّة ويستحقّ الشنق
فعلاقة الهويّة الصعبة مع الزمن يدفعها إلى اللجوء إلى الذاكرة بما هي عنصر زمني مكوّن لها، وعلى صلة بتقدير الحاضر وإسقاطه على المستقبل. هذا في سبب أوّل؛ والسبب الثاني للهشاشة هو المواجهة مع الآخر الذي نشعر به بوصفه تهديداً وخطراً على هويتنا الخاصة، فلا نقبل، والحال هذه، أن يكون للآخرين طرق مختلفة عن طرقنا لعيش حياتهم. أما السبب الثالث للهشاشة، فيرجعه ريكور إلى إرث العنف المؤسّس؛ فلا يوجد مجموعة تاريخية لم تولد من علاقة يمكن تسميتها أصلية بالحرب. هذه الأسباب المذكورة تحيلنا إلى تأمّل الخرائط السياسية للأوطان وتغيّرها على مرّ التاريخ.
المصالحة للخروج من الماضي
المصالحة مع الآخر لا تكتمل من دون المصالحة مع الذات
يشدّد نديم جرجورة على أنّ المصالحة مع الآخر لا تكتمل من دون المصالحة مع الذات. وهذه الأخيرة تحتاج إلى العودة إلى الماضي للخروج منه. وجميل أن ندرج رأي ريكور في أنّ الكلام السياسي يبدأ حيث يتوقف الانتقام، وإلا بقي التاريخ محاصَراً ضمن التناوب القاتل، بين "الحقد الأبدي" و"الذاكرة الناسية". والأهم قوله إنّ التاريخ يسمح بتوسيع الذاكرة الجماعية إلى ما وراء كل ذكرى فعليّة، وبتصحيح ذاكرة مجموعة معيّنة ونقدها أو تكذيبها، حين تنكمش على ذاتها وتغلق نفسها على آلامها الخاصة لتغدو عمياء وصمّاء أمام آلام الجماعات الأخرى.
إذن، إقامة الاحتفالات ينبغي لها أن تكون تكريماً لمن رحلوا، وللذاكرة الجمعيّة، وليس للعيش في بكائيّة ممتدّة تمجّد الألم؛ فتبقى الجماعة مسوّرة بفكرة أنّها الضحيّة الوحيدة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 20 ساعةعن أي نظام تتكلم عن السيدة الكاتبة ، النظام الجديد موجود منذ سنوات ،وهذه الحروب هدفها تمكين هذا...
Tester WhiteBeard -
منذ 3 أيامtester.whitebeard@gmail.com
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 6 أيامجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...