شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!

"أنا عند خيّاط في الهند وعقلي عند أبي علاء في اللاذقية"... من يرتق لنا أرواحنا؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والمهاجرون العرب

الأربعاء 20 يوليو 202204:41 م

لا أعلم حقيقةً السرّ الذي بين العامل ومهنته. ربما لا يوجد سرّ أصلاً، لكننا عاطفيون، نربط ما أمكن من خصال حميدة بالأشخاص ومِهَنِهم وحتى وجوههم. العامل بدوره يتماهى مع مهنته، ويحقق ذاته من خلالها. على سبيل المثال، في عام 2013، عملت مع حمّال مواد بناء (عتّال)، كان يفتخر بلقب "التركس"، في إشارة إلى قوّته في حمل أربعة أكياس إسمنت دفعةً واحدةً (200 كيلو غرام). بعدها دخلت مجال الإعلام خلال سنوات الحرب التي عرفتني إلى مصوِّر يحمل الكاميرا وكأنّها بارودة قنص يتصيد بها اللقطات المناسبة. وفي الجامعة، كان أحد أساتذتي يحلّ مسائل مادة تصميم التجارب باستخدام الآلة الحاسبة، ويدخِل الأرقام بدقة كأنه خبير آثار يرمِّم لوحةً فسيفسائيةً على جدار يعود إلى ألف عام.

في الخياطة أيضاً، يُتقن الخيّاط استخدام الماكينة فتمنحه طاقتها لتربت على قلوب الزبائن بعد إصلاح ملابسهم، فيبتسمون ولو لوهلة بالرغم من كل ما يمرون به. تتراكم تلك الابتسامات في مخيلة الخيّاط خلال سنوات عمله الطويلة، وتنعكس على وجهه فيبدو سَمِحاً. لذلك، أستطيع الشعور بالطيبة في كل مرّة أقابل فيها خيّاطاً، ولطالما رافقني هذا الانطباع حتى بعد انتقالي إلى الهند بغرض الدراسة، وذكّرني به خياط التقيته مصادفةً، كان يحني رأسه قليلاً ويرفع عينيه ليرى المارة والزبائن من فوق النظارة الطبية، فاقتربت منه، محاولاً التواصل معه باللغة الإنكليزية دون جدوى، كونه يتحدث لغة "الأوريا" (اللغة المحلية لولاية أوديشا في الشرق الهندي)، لكنه ابتسم بلطف وأشار إلى كرسي للجلوس متابعاً عمله.

يُتقن الخيّاط استخدام الماكينة فتمنحه طاقتها لتربت على قلوب الزبائن بعد إصلاح ملابسهم، فيبتسمون ولو لوهلة بالرغم من كل ما يمرّون به

في جواري، كان هناك شاب هندي آخر يجلس أيضاً ويتقن الإنكليزية، فسأله الخياط شيئاً ما، ليوجِّه الشاب الحديث إليّ قائلاً: "يريد الخياط معرفة من أي بلاد أنت"، فأجبته باهتمام، مبدياً رغبةً شديدةً في الحديث عن ذكريات من بلادي تجول في ذاكرتي، لكن الشاب أراد الرحيل بعد استلام ملابسه، ففقدتُ التواصل مع الخيّاط الهندي.

لم تتجاوز مدة جلوسي عنده عشر دقائق، لكنها كانت كافيةً لتُعيدني إلى حيّنا "الرمل الشمالي" في اللاذقية، حيث يسكن خيّاط يدعى "أبو علاء"، كنت قد قصدت محله قبل سفري إلى الهند بأسبوع، وأردت منه تمكين درزة بعض الألبسة القديمة التي يصعب استبدالها بأخرى جديدة، بسبب ارتفاع سعرها مقارنةً بسعرها قبل عام، وأصررت يومها على تمكينها جيداً حتى يدوم عمر الألبسة قدر الإمكان، فالرحلة طويلة وإلى بلاد بعيدة.

لم يستهجن أبو علاء طلبي كونه اعتاد على طلبات مشابهة من معظم شبّان الحي. قال: "إذاً الوجهة الآن إلى الهند"، مومئاً برأسه، وصمت هنيهة، ثم بلل الخيط بلعابه وأدخله في الإبرة من المحاولة الأولى، مطالباً بقراءة ورقة مطبوعة على الحائط خلفه يعدّها أحد مبادئه في الحياة، وكانت مقتطفاً من كتاب نهج البلاغة للإمام علي بن أبي طالب: "كن على حذر من الكريم إذا أهنته، ومن العاقل إذا أحرجته، ومن اللئيم إذا أكرمته، ومن الأحمق إذا مازحته، ومن الفاجر إذا عاشرته، وإني ذقت الطيبات كلها فلم أجد أطيب من العافية، وذقت المرارات كلها فلم أجد أمر من الحاجة إلى الناس، ونقلت الحديد والصخر فلم أجد أثقل من الدين. اعلم أن الدهر يومان: يوم لك ويوم عليك، فإن كان لك فلا تبطر، وإن كان عليك فلا تضجر. فاصبر فكلاهما سينحسر"، العبارة نفسها كنت قد طبعتها وعلقتها على حائط غرفتي في السكن الجامعي.

خطر لي أن أطلب من الخيّاط الهندي تمكين درزة قطعة من ملابسي بالطريقة نفسها التي طلبت فيها من أبي علاء الفعل نفسه، لكن هذه المرّة لا يوجد سفر إلى بلادي البعيدة، أو أن يرتق ما فعلته الغربة بقلبي، فتذكرت كلام أستاذي عن "الرومانسية الزائدة في الكتابة"، ومضيت مسرعاً قبل أن يُجهز الحنين على ما تبقّى من قلبي

يملك أبو علاء محلاً صغيراً ومعدات بسيطةً مقارنةً بغيره من الخياطين. يجلس على كرسي مسمَّر بالأرض رافقه لأكثر من عشرين عاماً. يستطيع الخيّاط الستيني التقاط أي مقصّ أو أي أداة أخرى من دون الحاجة حتى إلى الوقوف بعد أن أحاط نفسه بكل ما يلزم، مراكماً مئات القطع من الألبسة، لكن محال أن ينسى مكان واحدة منها، ولو جئت لاستلامها بعد عام بالرغم من ألوانها المتشابهة والتي هي في معظمها سوداء على اختلاف درجات اللون الأسود الذي فرض نفسه سيّداً على كل الألوان في بلاد يغمرها الحزن ويتجرَّع أهلها الغمّ منذ أكثر من أحد عشر عاماً وكأنهم في حداد أبدي.

مجرد الدخول إلى محل أبي علاء يمكّنك من تقطيب ثيابك وحتى روحك، وكأنه خياط استثنائي يعلم جيداً كيف يسد الثغرات، قماشيةً كانت أم عاطفيةً. ومع شعوري بأن هناك تمزقاً في الروح نتيجة ما يحدث في سوريا، لطالما حاولت وصف رغبتي في الحديث معه وطلب مساعدته لإصلاح ذلك التمزّق، لكني قبل أن أُكمل الوصف، كنت في كل مرّة أتذكر ملاحظة أحد أساتذتي في الصحافة عن الرومانسية والدراما الزائدتين في أحد نصوصي، لذلك كنت أتوقف عن ذلك.

جرت العادة لدى الهنود بوضع صور للآلهة أو القديسين في منازلهم ومحالهم وسياراتهم حسب معتقدات وتعاليم كل منهم

مرَّت هذه المشاهد والذكريات بلمح البصر أمام ناظري، وعدت ألقي نظرةً أدق على محل الخيّاط الهندي. كان أصغر من محل أبي علاء، لكن بالنظام ذاته: ماكينة يدوية أمامه، ومعدات خياطة قريبة من كلتا يديه، وملابس موزعة بعشوائية أجزم بأنه يحفظ مكان كل منها جيداً، وعلى الجدار الذي خلفه ثمة صورة لشخص يُدعى "ساي بابا"، وهو قديس روحي وُلد في منتصف القرن التاسع عشر، يتبعه الهندوس والمسلمون على حد سواء، ويمارسون تعاليمه التي تخلّى فيها عن كل أشكال التمييز الديني والعرقي.

وجرت العادة لدى الهنود بوضع صور للآلهة أو القديسين في منازلهم ومحالهم وسياراتهم حسب معتقدات وتعاليم كل منهم. الفرق الوحيد بين المحلّين كان ألوان الملابس. ففي محل الخياط الهندي معظم ألوان الملابس زاهية، إذ يشتهر الهنود بارتدائها، كما يوجد عيد خاص بالألوان في الهند (Holi الهولي)، ويدل وفق الأسطورة الهندوسية على انتصار الخير على الشر، بعد قيام الإله "فيشنو"، وهو إله رئيسي من بين ثلاثة عند الهندوس، بحرق أحد الشياطين بالنار، وألوان النار نفسها هي التي يفضّلها الهنود في ملابسهم من باب إحياء أسطورة الانتصار تلك، فيما غلب السواد وألوان البزّات العسكرية في محل الخياط السوري.

خطر لي أن أطلب منه تمكين درزة أي قطعة من ملابسي بالطريقة نفسها التي طلبت فيها من أبي علاء الفعل نفسه، لكن هذه المرّة لا يوجد سفر إلى بلادي البعيدة، في المدى المنظور على الأقل، أو أن يرتق ما فعلته الغربة بقلبي، فتذكرت كلام أستاذي عن "الرومانسية الزائدة في الكتابة"، ومضيت مسرعاً قبل أن يُجهز الحنين على ما تبقّى من قلبي، مناجياً كل خيّاطي العالم وقديسي الهند وآلهتها، ليصلّوا لبلادي لتتجاوز كل ما فيها من تمزق وسواد.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

"نؤمن في رصيف22، بأن متابعة قضايا العرب خارج العالم العربي، في المهجر/ الشتات/ المنفى، هي أيضاً نظرة إلى أنفسنا، وإلى الأسباب التي اضطر -أو اختار- من أجلها الكثيرون إلى الهجرة بحثاً عن أمانٍ في مكانٍ آخر، كما أنها محاولة للفهم وللبناء وللبحث عن طرائق نبني بها مجتمعات شاملةً وعادلةً. لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard