شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
العيد في سوريا... الجميع يلعب

العيد في سوريا... الجميع يلعب "الحرب" صغاراً وكباراً

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الخميس 7 يوليو 202204:39 م

عيدنا قبل الحرب

الاستيقاظ مبكراً وحملُ كيس ملآن بحلوى العيد ثم السير قبل شروق الشمس باتجاه المقبرة كان طقسي الأول في العيد.
لم أدرك حينها السبب الذي كان يدفع بأبي وأمي لزيارة المقبرة بين صلاتي الفجر والعيد، حيث ثمة عدد مهول من الأطفال ممن يبدؤون عيدهم هناك بالطواف حول القبور، مرددين جملة "كل عام وأنتم بخير... الله يرحمه"، ليحصل كل منهم على قطعة حلوى. هم مجرد أطفال غرباء ليسوا من أقارب الموتى، يجمعون الحلوى في أكياس بلاستيكية للذكور، وحقائب صغيرة للإناث.
ظل منظر أمي وغيرها من النساء يشغل تفكيري حين كبرتُ محاولاً فهم سر عشقهن للبكاء في بداية أجمل أيام العام. إذا ما حاولنا معرفة سبب زيارة الأموات وبحثنا في محرك البحث "غوغل" فستطالعنا آلاف الروابط التي تأخذك إلى فتاوى يتصارع أصحابها في إثبات جواز أو حرمة هذه الزيارة.
بعد زيارة المقبرة، كنت أخرج إلى الملاهي التي كنا نعرفها باسم "الحديقة"، وهي مجموعة من الألعاب الموجودة طوال السنة لكن متعتها تزداد في العيد. نركب الأرجوحة ونغني "يا حج محمد... عطيني حصانك". الطريف أن هذه الأغنية كانت سبباً في تأنيبنا من قبل أحد أئمة المساجد حين مر بنا ذات عيد ونحن نغنيها، إذ نهرنا قائلاً:
"هذي الأغنية حرام... طلعها اليهود على سيدنا محمد، عيب تقولوها وأنتم مسلمون"، قال الشيخ جملته هذه ومضى، ومرد هذه الحرمة من وجهة نظره أن محمد لم ينجب ذكوراً، وفي الأغنية مقطع يقول:
خلّف بنات
بناته سود
مثل القرود

في العيد أيضاً كنت أصعد ورفاقي إلى "الزحلوطة" ثم ننتقل للألعاب المشتركة مع الفتيات، وحين كبرنا قليلاً تحولنا إلى الألعاب الإلكترونية أو لعبة "فيشة" وهي عبارة عن طاولة تحتوي على ملعب كرة قدم، ولاعبين من الخشب يتوزعون وفق خطة 3-5-2، وعلى المتنافسين التحكم بالقبضات ليتمكنوا من ربح المباراة، ثم تطوّر طموحنا لنصبح من لاعبي البلياردو المتمكنين.
لم يكن في مدينتي "الحسكة" سينما لنزورها في الأعياد خلال مراهقتنا.
كان هذا العيد الذي عرفته صغيراً. لم تكن الحرب قد بدأت بعد.

عيدهم...

المقاهي التي اعتدت الجلوس فيها هرباً من انقطاع التيار الكهربائي في العيد تكتظ بأطفال يتحلقون حول الطاولات، وقد طلب كل منهم "نرجيلة".   يتنافسون في طريقة إخراج النفَس ويحمل كل منهم علبة سجائر في جيبه لأن "التدخين في العيد" فعل لن يحاسبه عليه والده.
تصبح شوارع العاصمة وتحديداً في أحياء المخالفات مسرحاً للاشتباكات بين مجموعتين من الأطفال ممن يستخدمون الأسلحة البلاستيكية التي تأتي معها ذخيرة من الخرز. يبدو أنهم سعداء بتمثيل واحدة من المعارك التي يسمعون عنها في زمن الحرب، حتى إن زيّ العيد وقَصة شعر كل منهم يشيران إلى رغبته في تقليد طرف ما.
خلال عيد الفطر الماضي لمحت طفلاً صغيراً يرتدي بدلة عسكرية ويمسك بيد أبيه الضابط، قلت له ممازحاً وبطريقة العسكر "احترامي سيدي"، وقف مستعداً ورفع يده ليرد بتحية عسكرية، لم يكن قد تجاوز الست السنوات، وجاء جوابه "بدي صير متل بابا" سوى انعكاس لرغبته في أن يجسد القوة التي يستشعرها في أبيه.
بساطة الطفل عكست إيمانه المطلق بأن والده يمثل القوة المطلقة، وهو ما يحاول التماهي معه. مثل هذا الطفل هناك الكثير من أقرانه في كل المدن السورية وأياً كان انتماء عائلة الطفل السياسي أو العسكري، فهي مسألة خطرة لأن ترك المساحة للطفل في ممارسة التقليد يزيد من قناعته بطبيعية وجود السلاح بيد من هم أكبر منه، وبأن العنف وسيلة تعبير مقبولة.
تصبح شوارع العاصمة وتحديداً في أحياء المخالفات مسرحاً للاشتباكات بين مجموعتين من الأطفال ممن يستخدمون الأسلحة البلاستيكية التي تأتي معها ذخيرة من الخرز. يبدو أنهم سعداء بتمثيل واحدة من المعارك التي يسمعون عنها في زمن الحرب

المال


لم يعد بمقدور موظف بدخله شهري يبلغ 150 ألف ليرة -أقل من 50 دولاراً- أن يؤمّن مصاريف العيد التي تصل لنحو مليون ليرة سورية لعائلة تتألف من خمسة أفراد، لأنّ عليه أن ينفق على ملابس العيد، والحلوى إن وجدت، وكمية خبز وخضار تكفي خلال العطلة التي تقفل فيها المحالّ التجارية.
المراجيح التي كنت أهرول لأركبها صغيراً تغيرت، وما كان يعرف باسم "ساحات العيد" في العاصمة دمشق باتت مكلفة وفوق طاقة معظمنا لاضطرار أصحاب الألعاب لدفع تكاليف إضافية، أهمها شراء الوقود اللازم لتشغيل المولدات الكهربائية.
ما سبق تسبب برفع أسعار الألعاب، وبالتالي صارت خرجية العيد أو العيدية لا تكفي الطفل للعب أكثر من ربع ساعة هناك.
بسبب التردي الاقتصادي، يبحث الطفل عن البدائل التي ستمكنه من اللعب لأطول فترة ممكنة، والبديل الأجدى هو السلاح البلاستيكي الذي سيمكنه من المشاركة في لعبة الحرب طوال اليوم
مع انتهاء كل جولة تبدأ أخرى، والمرعب أن معيار فوز أحد الفريقين هو قتل وأسر الفريق الآخر، وحتى إن كان قتلاً مجازياً مصطنعاً، فوجود القتل في المفردات اليومية يصغر المسافة بين المجاز والحقيقة.
لعل جذر هذه اللعبة هو "شرطة وحرامية" التي كنت وأقراني نلعبها بالمطاردة، الفرق أن الجميع كانوا يريدون دور الشرطي لما لهذا الوصف من انعكاسات خيّرة. لم يكن هنالك عنف في لعبتنا القديمة، بل سرعة في الركض، عكس هؤلاء الأطفال الذين لم يعرفوا إلا زمن الحرب. فهم لا يحددون من هم رجال الشرطة أو من هم الحرامية، بل يتقمصون أدوار عصابات تتحارب بالخرز، ولبعضهم أن يطلق على نفسه ألقاباً مثل شيخ الجبل تقليداً لشخصية تيم حسن في مسلسل "الهيبة".

دائماً الصغيرات


كزدورة صغيرة في حدائق دمشق خلال العيد تبعث على الأمل، لم تتغير ألعاب الفتيات الصغيرات في زمن الحرب.
مجرد التجول في بعض الحدائق العامة يعني أن تمر أمام مجموعات جميلة ومتلاحقة من الصغيرات اللواتي يجلسن في حلقات صغيرة ليقلدن الجلسات النسائية.

لعل الجميل حقاً أن الصبيان لا يقبلون بإشراك الفتيات في لعبة الحرب، وإلا لكان دورهن سيقتضي حتماً استقبال القتلى والمصابين.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image