شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
سليم بركات ومحمود درويش... ما يزعجكم هو نصف الفضيحة

سليم بركات ومحمود درويش... ما يزعجكم هو نصف الفضيحة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 10 يونيو 202004:17 م

انشغلت مواقع التواصل الاجتماعي والصحافة العربية، وستنشغل أكثر في الأيام القادمة، بمقال للشاعر والروائي سليم بركات، عن الشاعر محمود درويش، والتي يذكر فيها، فيما يذكر، أن محموداً أسرّ له بوجود طفلة له من امرأة متزوجة، وانهالت التعليقات على الشاعر سليم بركات باعتباره قام بجريمة كبرى، بفعل خيانة صديقه الميت، وهو إفشاء سرّ أودعه لديه، رغم أن الشاعر بركات لم يقم بالتصريح عن اسم الفتاة ولا اسم والدتها ولا عمرها، ولا شيء مما يشكل "فضيحة" لأحد أو يصنع سبيلاً لتخمين من تكون، فلو قال إن محمود درويش كان يحب البيرة مثلاً، اللحم المشوي على الطريقة التايلندية أو كان يشخر ليلاً، لكان صيادو الطهرانية قد انبروا، بنفس الطريقة، لمحاسبة بركات على عظمة السرّ الذي أفشاه عن صديقه، ولتباروا في التصويب على دريئة الكردي "الخائن"، كما تروّج الصحافة باستمرار.

ما أرّقهم هو نصف الفضيحة فقط، إذ لم يعطهم سليم بركات ضحيةً أنثى يوجّهون إليها أصابع النقد والاتهام، أعطاهم على قدر مخيّلاتهم الضيقة، فابتدعوا طهرانية أصبح فيها سليم بركات هو الأنثى الخائنة للفحل محمود درويش، تجنّب الجميع التساؤل حول الموقف الغريب لدرويش من رفضه للأبوة

هل الأمر فقط نزوع طهراني مبالغ به صوب "الأخلاق"، ونحن نعلم كم تحترم هذه الكلمة في حياتنا العامة وضمنها الصحافة أو الكتابة، أم أن هناك المزيد مما خلف النوازع هذه؟

في عام 1992 قامت الروائية والشاعرة غادة السمان، بنشر رسائل الكاتب غسان كنفاني الغرامية إليها، ولحسن الحظ لم يكن وقتها مواقع تواصل اجتماعي وإلا لنالها ما ينول سليم بركات حالياً، ورغم ذاك، سال الكثير من الحبر في استفظاع "فعلتها" الشنيعة تلك، إذ إن فعلتها تمسّ الصورة المثالية الناصعة عن غسان، المناضل والثوري والكاتب الذي ليس لديه أي رغبات أخرى غير تحرير فلسطين، وكأنه شخص مصنوع من الرصاص والبارود، وهال جمهوره الذكوري أن تخدش امرأة ظله المنحوت على قدر خيالهم الضيق، وأرّقت فحولتهم أن يقول "فحلهم": "قيل إني سأتعب يوماً من لعق حذائك البعيد"، وانطلقوا في إدانة مستمرة حتى اليوم، للتذكير بفعلتها تلك، وأصبح الأمر بمثابة طرفة يتداولها الجميع عند موت أحد الكتاب الشهيرين، فينتظرون رسائله إلى غادة السمّان.

ما المشكلة في أن يفشي أحد سرّاً؟

ما المشكلة في أن يفشي أحد سرّاً؟ لماذا يجب أن تكون الحياة العاطفية محاطة بهذا القدر من السرية وكأنها جريمة مكتملة الأركان، الأسرار وجدت لتذاع بعد حين، هذه مهمتها، إن لم تذع فلا وجود لها، والحب أو العلاقات العاطفية ليست جرماً، والكتّاب يضمنون حياتهم الشخصية في كتبهم، فهم لا يخترعون علاقات وأحاسيس من خارج الكوكب، هل سنحاسب الكتّاب على خيالهم أيضاً وخلطهم الواقع بالمتخيل؟

أجزم أن لو باح سليم بركات باسم الأم والابنة والزوج، وأظن أن يعرفهم أو يستطيع تخمين ذلك، لنسي الجميع الحكمة التي يوجهونها اليوم نحو بركات بأسف الملائكة، كأنهم لم ينمّوا من قبل ولم يفشوا أسراراً أبداً، ولانشغلوا بالفضيحة الأخرى: امرأة متزوجة تخون زوجها وتنجب طفلة.. ياللعار، لكن ما أرّقهم هو نصف الفضيحة فقط، إذ لم يعطهم سليم بركات ضحيةً أنثى يوجّهون إليها أصابع النقد والاتهام، أعطاهم على قدر مخيّلاتهم الضيقة، فابتدعوا طهرانية أصبح فيها سليم بركات هو الأنثى الخائنة للفحل محمود درويش، تجنّب الجميع التساؤل حول الموقف الغريب لدرويش من رفضه للأبوة، وانشغلوا بتدبيج الحكم الأخلاقي على بركات الذي خان صديقه بإفشاء سره، بينما شاعر القبيلة، الفحل، التارك لطفلة في جحيم عائلة أخرى ونسب آخر فلا جرم عليه ولا تثريب.

ما يؤرّقكم هو هذه الفضيحة غير المكتملة التي تشهد اتهاماً ولو بسيطاً للشاعر درويش، فبحثتم عن ضحية، وها هي موجودة ومناسبة جداً للتصويب عليها: كردي يتفوّق عليكم وعلى شاعركم الفحل في معقلكم، في لغتكم، وينال اعترافاً قسرياً منه بصعوبة التخلّص من تأثيره عليه، فوجدتم فيه نهراً ملائماً لترموا حصاكم الأخلاقية فيه ووسيلة للتذكير بكل الحكم العربية التي تدعو إلى كتمان السرّ، وأنتم أصلاً تعيشون في فضيحة كبرى منذ 1400 عام.

تجنّب الجميع التساؤل حول الموقف الغريب لدرويش من رفضه للأبوة، وانشغلوا بتدبيج الحكم الأخلاقي على بركات الذي خان صديقه بإفشاء سره، بينما شاعر القبيلة، الفحل، التارك لطفلة في أحضان عائلة أخرى ونسب آخر فلا جرم عليه ولا تثريب

لا ريب أن "سوائل" محمود درويش ليست من شأننا ولا يجب أن نكون مشغولين بمكان تبديدها أو زراعتها، لكن يحق لنا أن نتساءل عن غرابة موقفه المرتبط بالاعتراف والصدق، فمحمود درويش الرافض لفكرة الأبوة "لأنه لا يشعر بذلك"، كما يسرّ في لحظة صفاء لصديق، والمطالِب بذات الوقت بثأره القديم من التاريخ، والذي يقول بوضوح أنه "اللغة العربية هي وطنه" وينسب نفسه باستمرار للعرب والعروبة، كما نصّب نفسه سابقاً ونصبه الآخرون، كناطق شعري باسم العرب وقضيتهم، ثم ضاق ذرعاً، كما صرح، بهذه القضية التي أرهقته، كأن في رفضه لأبوّة ابنته المجهولة، القادمة من علاقة غير شرعية، رفضاً ضمنياً لاستمرار هذا النسب إلا بحالته "الشرعية"، بصورته النقية الخالية من أي عيب، وكأن اعترافه بها يخرب الصورة التي جهد مراراً في نحتها وتلميعها، فيأتي خطؤه هنا مضاعفاً، لأنه يلوث صورته كناطق أوحد بصفاء الحق العرقي ومثالاً يحتذى للشاعر النجم الطهراني، الذي لا يلحقه العيب، خصوصاً إن كان على هيئة طفل غير شرعي، كما يظن ويظن الآخرون.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard