ارتبط فن اليوميات في العالم وحضوره برحلات الضياع التي عرفتها مخطوطاته، بداية بيوميات صمويل بيبس (1633-1703) والتي نشرت بعد أكثر من قرن من وفاته عام 1825، حتى يوميات آن فرانك، وصولاً إلى يوميات الفتاة البولندية روتكا لاسكيير، ويوميات ريفكا ليبشيتس التي روت فظائع النازية، والتي اكتشفت منذ سنوات قليلة. وضياع اليوميات اقترن بقصص مختلفة، بعضها متعمّد من أصحابها وبعضها بسبب أحداث تاريخية. بعضها عثر عليه المنقبون في بقايا المحتشدات والسجون وأنقاض الحروب، وبعضها عثر عليها في المزابل وفي مكتبات بيع الكتب القديمة، وبعضها مازال مفقوداً إلى اليوم.
توفي فرانز كافكا يوم 3 يونيو 1924، ومما يذكر عن صبيحة ذلك اليوم أن كافكا باشر عملية تحرير نصه "جوزفين، المغنية"، ولكنه قبل عام من ذلك التاريخ، وهو يقاوم مرض السل، كتب وصيته لصديقه وناشره ماكس برود، يطلب منه حرق معظم إنتاجه بعد رحيله: "من بين كل ما كتبت، وحدها تملك قيمة الكتب الخمسة التالية (...) لكن هذا لا يعني أني أريد إعادة طبعها وانتقالها إلى حقبٍ تالية، بل على العكس... في المقابل، كل ما تبقى وكل ما كتبته ويوجد هنا... ينبغي حرقه دونما استثناء"....
لم يهتم برود بتلك الوصية، وأنقذت أعمال كافكا ومنها اليوميات، مع أنه مارس رقابة شديدة على النسخ الأولى من أعماله وأسقط منها مقاطع كثيرة، خاصة ما تعلق بحياته الحميمة أو ما كتبه عن دور البغاء، قبل أن تصدر تلك الأعمال من جديد كاملة بعد سنوات.
في المقابل، أقدم أندريه جيد أكثر من مرة على تمزيق كراسات كاملة من يومياته، متعللاً بضعفها أو تكلّفها، فيكتب في يومية بتاريخ 1 كانون الثاني/يناير: "أحذف من مذكراتي، من هذا القسم الأول على الأقل، كل الأفكار والاعتبارات التي بفضلها نكتسب سمعة (مفكّر)، فهي لا تبدو لي في مكانها؛ وكل شيء عندي يعطي الحق للفن".
أما المنظّر العالمي لليوميات فيليب لوجون، فقد أتلف يومياته التي كتبها وهو مراهق، وكان سبباً في تعلقه بهذا الفن.
أما الكاتب المصري عباس محمود العقاد، والذي دأب على كتابة المذكرات، فكان قد مزّق مذكّراته الخاصة وانقطع عن كتابتها نهائياً، متبنياً رأياً خاصاً يوجزه في قوله: "إن المذكرات اليومية نوعان وليست بنوع واحد؛ فهذا الذي ذكرته مقصور على الفكر والقراءة كأنه فصول صغيرة أو موضوع متفرق في عدة صفحات، وهو النوع الذي أكثرت من الكتابة فيه، وعندي منه الآن مجموعة صالحة في انتظار الطبع كما هي، أو في انتظار التوحيد والتأليف، لأنها تصلح لهذا وذاك، أما النوع الآخر وهو المذكرات عن حوادث الحياة وعوارضها فلم أشرع في الكتابة فيه إلا مرة واحدة طالت بضعة شهور، ثم مزقت ما كتبت وأحرقته، ولم أعد إلى تجربة الكتابة في هذا النوع مرة أخرى، ولعلي لا أعود".
من غرائب اليوميات الضائعة، يوميات الكاتب السوري الكردي سليم بركات والتي لم تظهر من 1976، والتي كانت تحضر في كل إشارة للكاتب، لكنه كان حضوراً بالغياب، فلم يقع نشرها مرة أخرى ولا ظهرت في بحث أو مقال تقريباً إلا إشارات
ويعود في ذات الرسالة التي وجهها إلى أحمد عبد اللطيف الحضراوي، من المعهد البريطاني بالإسكندرية، رداً على أسئلته المتعلقة باليوميات، فيذكر أسباب اتلافه ليوميات الخاصة ويشير إلى واقعة الحرق، فإذا اعتبرنا أنه مزّقها كما ورد في كلامه، فإن حرقها بعد التمزيق. يؤكد أنه استشعر منها خطراً كبيراً، فيقول: "الثاني الذي دعاني إلى إحراق يومياتي فهو راجع إلى حوادث الفترة التي نعيش فيها لا إلى البواعث الخلقية، وخلاصة إنني دونت تلك اليوميات لأستعين بها على تاريخ الفترة وتحليل أخلاق رجالها. ثم رأيت في أثناء الثورة الوطنية وبعدها بقليل أن ملفقي التهم ومدبري المكائد يستعينون بأمثال هذه اليوميات على طبخ القضايا وإحراج الأبرياء، وظهر لي أن إثبات ملاحظاتي على رجال الفترة من العسر بمكان مع تعرض اليوميات للمصادرة والسؤال، فآثرت إحراقها أيام اشتداد المحكمات والمصادرات، وأحرقت معها رسائل شتى وصوراً وأوراقاً لها في حياتي الخاصة أثر لا يزول، وفاتني بإحراق هذه وتلك نفع كبير في مراجعة الحوادث التاريخية وصيانة الذكريات النفيسة، ولكنه أقل من الضرر الذي كنت متعرضاً له ومعرضاً له غيري لو أبقيت عليها وحدث ما كنت أتوقعه بسببها".
ومن غرائب اليوميات الضائعة، يوميات الكاتب السوري الكردي سليم بركات والتي لم تظهر من 1976، والتي كانت تحضر في كل إشارة للكاتب، لكنه كان حضوراً بالغياب، فلم يقع نشرها مرة أخرى ولا ظهرت في بحث أو مقال تقريباً إلا إشارات. وكانت رحلتي في البحث عنها شاقة، حيث بدأت ملاحقتي لهذا النص منذ سنة 2008، وكانت المحاولات تنتهي كل مرة بفشل جديد، ولم أمسك الكتاب إلا سنة 2022 في نسخة نادرة مهترئة، تركن في مكان قصي ضمن قسم التاريخ والحرب الأهلية اللبنانية. كانت بداخلي مجموعة من الأسئلة على رأسها سؤال الشاعر الفلسطيني الأردني أمجد ناصر: "لماذا أسقطه من ثبت أعماله؟"، مشيراً إلى كتاب "كنيسة المحارب". كنت تحدثت مع أمجد ناصر مرات قبل وفاته عن سليم بركات، وأخبرني أنه قرأ اليوميات، لكني عندما أسأله عن تفاصيل متعلقة بشكل الكتاب تخونه الذاكرة، فقد قرأه وهو شاب في العشرين أول نزوله إل بيروت. المؤكد عندنا أن أزمة سليم بركات مع النظام السوري بدأت مع نشر هذا الكتاب سنة 1977، فمنع تداول اسمه لسنوات في سوريا.
كان الحصول على الكتاب إجابة لبعض الأسئلة الفنية التي كنت أطرحها حول الكتاب الذي حمل علامة أجناسية تعنيني كباحث "يوميات"، والبحث عن إجابة لتخلص سليم بركات من هذا الكتاب والتنكر له، وهل صحيح أنه كتاب يمس السلطة السورية وينتقد سلوك الجيش السوري عندما دخل لاحتلال لبنان، كما يؤكد إبراهيم الجبين في مقاله "سليم بركات شاعر صرخ بشعوب المشرق: أيتها الأمة الرعاعة"، أم هو سحب الثقة من فن اليوميات؟
هل أسقط سليم بركات اليوميات من مدونته لمستواها الأدبي، أم لمواقفه من الاحتلال السوري للبنان، أم لمساهمته في الحرب ومواقفه من المحايدين فيها؟ هل تغيرت آراؤه حول الحرب ومشروعيتها؟ هل اعتبر أن كتابته لرواية "أرواح هندسية" إعادة كتابة تلك اليوميات في نص أعمق يحق له أن يكون الشاهد الوحيد عن الحرب؟
سليم بركات من اعدام اليوميات إلى اليومية الواحدة
سجل الكاتب الكردي السوري يومياته بحرب الجبل بلبنان 1976، سنة عنونها "كنيسة المحارب، اليوميات الصغيرة لحرب الجبل"، ونشرت في السنة ذاتها، وهي كتابات شذرية تروي الأحداث والأحاسيس التي عاشها الكاتب آنذاك، غير أنه أسقط عن تلك الكتابات أهم خصوصية من خصائص اليوميات، وهي التأريخ. ولئن ذهب بعض النقاد إلى أن إسقاط بعض التواريخ جائز في فن اليوميات، خاصة إذا كانت متصلة المعاني ببعضها الآخر المؤرخ، فإن سليم بركات لم يسجل أي يومية بتاريخ ولا يشير إلى التاريخ إلا عبر علم المتلقي بالأحداث والتواريخ العامة لأحداث في الحرب، أو التنصيص في آخر الكتاب على شهر تموز من سنة 1976.
أسقط سليم بركات من منجزه هذه اليوميات وكأنما أراد لها أن تُعدم، ولا يمكن أن نحسم الأمر في أسباب ذلك، هل بسبب متنها أم بسبب وعي سليم بركات المتأخر بفن اليوميات وشروطه التي يفتقدها كتابه، والذي يدخل ضمن المذكرات أكثر من اليوميات.
احتشد كتاب "كنيسة المحارب" بمواقف سليم بركات من العرب وسوريا والفصائل المتقاتلة والمحايدة، وبدت آراؤه في الكتاب آراء متبنية بالكامل لآراء منظمة التحرير وقتها، ولم يظهر في اليوميات أي ملاحظة تشكك في تلك الرؤية
كان سليم بركات قد أهدى يومياته إلى طلال رحمه ورشاد عبد الحافظ و"فتح"، فيكتب في أول الكتاب: "إلى الذين منحونا دمهم لنصعد الجبل، إلى طلال رحمه ورشاد عبد الحافظ... إلى فتح من فلسطين الثورة"، سليم.
كان طلال رحمه صحفياً بمجلة "فلسطين الثورة" التي يرأسها تحريرها رشاد عبد الحافظ الذي سيقتل في معركة الشياح يوم 24 أبريل/نيسان 1976، وقد عمل جاهداً على بناء التنظيم الثوري لحركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح"، وكانت مجلة "فلسطين الثورة" قد عرفت اغتيالات عديدة، منها رئيس تحريرها الأسبق كمال ناصر، والصحفيين كمال عدوان وأبو يوسف النجار في واقعة ما يعرف بـ"عملية فردان" من العصابات الصهيونية يوم 11 أبريل/نيسان 1973. وكان كمال عدوان من المتحمسين لأفكار غسان كنفاني، ووعد بالثأر له في افتتاحية العدد الرابع في 19/7/1972، حيث عنون افتتاحيته بسؤال "كيف نثأر للشهيد؟". كان كمال عدوان صاحب القولة الشهيرة "علينا أن ندرك أن الثورة دون فكر هي مجموعة عصابات، والمجلة هي فكرة الثورة".
قسم سليم يومياته إلى فصول: الفصل الأول "أوراق حمّانا" والفصل الثاني "أوراق ترشيش" والفصل الثالث "أوراق الكنيسة" وقسم رابع لم يشر إلى أنه فصل رابع "أوراق مختلطة"، وقسم الفصول إلى مقاطع مرقمة، بينما جعل القسم الرابع بعناوين.
ما يعيد الكتاب إلى فن اليوميات رغم إسقاط الكاتب للتواريخ الدقيقة، بدايتها بعض المقاطع المرقمة بتحديد الزمن والإشارة إلى الساعة أو إلى اليوم، فيفتتح اليومية عدد 5 في الفصل الأول: "يشير فوسفور عقارب الساعة في الظلام إلى الثالثة بعد منتصف الليل. الظلام والصمت سيدان، وأنا أتوزع بينهما جالساً القرفصاء، أنتظر ولا أنتظر، عبر شريط رمادي باهت من الإسفلت. فجأة أسمع خشخشة بين أشجار الكرز، إلى اليسار من الكمين، فانتفض. تزداد الخشخشة بين أشجار الكرز، وأنا التصق بالأرض أكثر لأعرف مصدر الصوت، لكني أتبين أن الضوضاء أصغر من أن يكون سببها تسلسل بشري، فيدفعني الفضول إلى البحث...".
بينما يفتتح اليومية رقم 7 بـ "اليوم وقعنا على نموذج للفكر الانعزالي، يجادلنا دون مواربة، وكان ذلك مصدر سعادة بالنسبة إليّ وإلى زميلي إميل". وذات الأمر مع اليومية عدد 10 من الفصل الثاني، التي جاء فيها "اليوم وضعنا صخرة في منتصفها قضيب معدني أمام الحاجز، وأوصلنا مصباحاً كهربائياً صغيراً ببطاريتين، ليضيء إعلانا صارخاً: قف... حاجز. لكن سائق شاحنة الذخيرة لم يقدر مسافة المرور، فجرف الصخرة والقضيب المعدني والبطاريتين... نقول: لا بأس، ونتخلى عن الفكرة نهائياً".
يخوّن سيلم بركات التواجد السوري في لبنان ويصفه بالاحتلال، ويخوّن المتعاطفين معه من الزعامات اليمينية، والذين يسمون نفسهم بالمحايدين، ويخصص لهم اليومية عدد 7 التي ينهيها بـ "نعلن بهدوء أن الزعامات اليمينية التي أيدت الاحتلال السوري، لم يكن يعنيها السيادة والوحدة، بل التقسيم"
ويشير في يومية 11 من القسم الثالث إلى أنه اليوم الذي سمعوا فيه بأن السوريين على وشك الانسحاب من صوفر، بينما وقائع الليل كذبت ذلك، ليبدأ اليومية 13 بـ "اليوم وصلتنا النجدة الأولى، جاءنا صديقنا أحمد حماد بوعد للتبديل، كنا منهكين، وكان منهكاً. بعد يومين نزل إلى حمانا ليصعد إلينا ثانية بمحاربين جدد. تركنا لهم اكتشاف ما لم اكتشاف ما لم نكتشفه نحن من الحرب".
كما يشير في اليومية 16 إلى الزمن بتصدير كلمة "ليل" أول اليومية التي ينقل لنا بكثافة مجزرة تل الزعتر: "ليلاً، يدخل عليتنا أبو علي مسعود بشفافيته وحزنه القاتل، يدخل علينا بحزن ثلاثمائة مقاتل وصلوا من تل الزعتر عبر مونت فردي إلى راس المتن، ويتسع الحزن حتى تتخذ الرئة من إهليلجه فلكاً، وتدور عليه الأحشاء". كما تشير أفعال المضارع في تلك اليوميات المكثفة التي يسجل فيها الكاتب مشاعره أو أحواله دليلاً آخر على أن التسجيل متزامن من الأحداث أو قريب منها، ففي اليومية الثامنة عشر من القسم الأول: "أنا حزين... اغفر لي يا سيدي، تل الزعتر".
كل هذه تعيد الكتاب إلى فن اليوميات وتجذره فيه، على الرغم من ضعف أسانيده الزمنية الدقيقة والتي لم تظهر إلا في آخر الكتاب بتوقيع "تموز 1976".
خيانة الأرمن والاحتلال السوري
احتشد الكتاب بمواقف سليم بركات من العرب وسوريا والفصائل المتقاتلة والمحايدة، وبدت آراؤه في الكتاب آراء متبنية بالكامل لآراء منظمة التحرير وقتها، ولم يظهر في اليوميات أي ملاحظة تشكك في تلك الرؤية.
يكتب سليم بركات في الصفحة 27 بيومية رقم 14 متحدثاً عن خيانة الأرمن:
"الخيانة...
الخيانة...
الخيانة، الخيانة، الخيانة... إننا نشمها في الهواء، نشمها من العمائم، في بقايا اللكنة الأعجمية، في اعتصام مزيف، وتظاهرة مزيفة. نشمها تحت أجنحة العصافير المقبلة من صوب البقاع، ونشمها في أضواء الآليات الذاهبة إلى صوفر ليلاً، نشمها في الرماد المتبقي من العروبة.
"مرة، بين كفر سلوان وترشيش، أفرغنا مخازن بنادقنا: عمر يكسر الذاكرة مع كل طلقة تخرج من فوهة البندقية، ويجتمع على وجهه الغضب والجسارة. وإميل يعلن قسراً وحدة الهواء في لبنان، حيث لا تعرف الطلقة إلا حدود الموت، وانا أجمع جسدي في الحجارة والشجر، وأوزعه ثانية، طلقة طلقة"
لقد استشهدت النبعة التي أعرفها بيتاً بيتاً، شارعاً شارعاً، النبعة التي كانت مأوى العمال السوريين، والشيعة الذين يحملون جراح الحسين.
لقد استشهدت النبعة، وكان في مقدورنا أن نفهم خيانة السوري للسوري، والشيعي للشيعي، ودخول الإمام فاتحاً إلى مدنه، على أسنة حراب الاجتياح، كما دخل الخديوي إسماعيل القاهرة على أسنة حراب الإنكليز... ولكن لماذا أيها الطاشناق؟".
وكذلك يخوّن سيلم بركات التواجد السوري في لبنان ويصفه بالاحتلال، ويخوّن المتعاطفين معه من الزعامات اليمينية، أو مما سمّاهم بنماذج الفكر الانعزالي وأعلامه، والذين يسمون نفسهم بالمحايدين، ويخصص لهم اليومية عدد 7 التي ينهيها بـ "نعلن بهدوء أن الزعامات اليمينية التي أيدت الاحتلال السوري، لم يكن يعنيها السيادة والوحدة، بل التقسيم، وأن القطاعات المضللة في زعامة اليمين مجروفة في عمائها".
أسلوب سليم بركات: المراوحة بين الشعرية والقص الساخر
رواح سليم بركات في هذه اليوميات بين أسلوب السخرية الذي كان جزءاً من الذخيرة في تلك التجربة الحربية للكاتب، وبين التدفق الشعري الذي يرفع النثر التقريري كل مرة إلى مرتبة أعلى من مجرد نقل وقائع المعارك. وهما أسلوبان متناقضان، يرتبط الأول بنقل طرائف الميدان ومفارقاته، وينهمر الآخر مع الأشجان وهجوم الحزن على الكاتب.
فيروي في أسلوب تهكمي مواجهته للبعض جنود الجيش السوري في إحدى اليوميات، فيكتب: "خمسة مقاتلين ينتظروننا، وتنتظرننا صخور الأعالي. نصافح بعضنا كأصدقاء قدامى، وتبدأ مرحلة التعارف بيننا وبين الكمش والمسالك، وعبر منظار مكبر، أحصي أشقائي في الجيش السوري، وسبطانات مدافعه التي أخطأت طريقها إلى ضهر البيدر، وأمام الخطأ قررت أن يكون عبر الـ ب7 لأن عمر كان غائباً، والقذائف في حوزتي".
ويكتب في اليومية السابعة عشر من الفصل الأول، واصفاً أجواء الأجواء السوريالية لإقامة المقاتلين بالكنيسة: "أصرخ: أين سلفادور دالي؟ لقد اتخذ عمر، رامي الـ ب7، من المذبح سريراً، وأضاء شمعه خلف رأسه، وأخرى أمام قدميه، ووضع قاذف الـ ب7 في شكل عمودي يتقاطع مع المذبح، وهو متمدد يقرأ في كتاب (قصص من بلغاريا). لقد جمعنا هنا ما لا يجمع إلا صدفة، مرة واحدة وإلى الأبد: ب7 وسمفونيات كارل أورف، والكنيسة. لقد جمعنا الربح والمدائح، الرب والعالم. الرب والكلاشينكوف لنعلن حرية الفقراء".
تبدو اليوميات في بعض الأحايين قصصاً قصيرة مكتفية بنفسها، وتظهر أحياناً في جمل متشظية متأثرة باللحظة النفسية للكاتب أثناء التسجيل ووقع الأحداث القريبة والبعيدة منه.
إن هذه اليوميات هي العمل النثري البكر لسليم بركات بعد مجموعات شعرية. وقد تميز نثره بشيء من الشعرية التي سرعان ما ستستبد بنصه وتصبح احدى أهم لعلامات الدالة عليه. فكثيرة ما يبدأ يوميته ناثراً وينهيها شاعراً، كيومية رقم 14: "مرة، بين كفر سلوان وترشيش، أفرغنا مخازن بنادقنا: عمر يكسر الذاكرة مع كل طلقة تخرج من فوهة البندقية، ويجتمع على وجهه الغضب والجسارة. وإميل يعلن قسراً وحدة الهواء في لبنان، حيث لا تعرف الطلقة إلا حدود الموت، وانا أجمع جسدي في الحجارة والشجر، وأوزعه ثانية، طلقة طلقة. من يستطيع أن يحكم أننا لم نكن مهرجاناً؟".
لم تخلُ يوميات سليم بركات من نقل الهشاشة الإنسانية للذات وخوفها من الموت الذي يترصدها من كل جانب، ولم يكن الرشاش الذي يحمله، ولا المدفع الذي كلف به أو أصطفي له، ليحجب ذلك الخوف الذي يظهر بين يومية وأخرى
وقد أنهى الكاتب يومياته بقصيدة تحت عنوان "بيان الحب" يرحب فيها الكاتب بكل التجربة، من ترشيش الى الكنيسة، إلى قذائف الهاون وأصدقائه الذين عرفهم في المعركة، وكل عناصر ذلك الفضاء، ذلك الجبل الذي استضافهم تلك الاستضافة الخطرة، لينهي بترحيبه بنفسك بلقب المحارب كأنما يعلن عن ميلاد جديد.
كتابة الخوف والحب
لم تخلُ يوميات سليم بركات من نقل تلك الهشاشة الإنسانية للذات وخوفها من الموت الذي يترصدها من كل جانب، ولم يكن الرشاش الذي يحمله، ولا المدفع الذي كلف به أو أصطفي له، ليحجب ذلك الخوف الذي يظهر بين يومية وأخرى، مذكراً أن هذا التدوينات الطائشة على دفتر مقاتل تكتب تحت الرصاص الطائش الذي لا يعرف قانوناً غير العبث. وحدها العصافير كانت لا تخاف تلك الحرب، وكانت تؤنسه وتزوره في المخابئ.
يكتب في اليومية الثالثة: "كانوا يراقبوننا بمناظيرهم من الأعلى، وكنا نراقبهم من الأسفل بمناظيرنا، وثمة عصافير تنتقل دون خوف بين كمائننا وكمائنهم". وفي خضم ذلك الخوف وذلك الموت المخيم على النفوس والفضاء كان سليم بركات يلتقط أنفاس الحياة عبر رصد الطيور وأشجار الكرز والنساء في حمّانا، وبتلك العلاقة التي ربطها المقاتلون بأهالي حمانا: "شيئاً فشيئاً يتنفس الجبل".
كان سليم بركات ينقل الحرب بعين دقيقة ولكنها انتقائية في رصد علامات الدمار ووحشية الحرب، كما في وصفه لحمانا ونوافذها إثر الاجتياح السوري.
"أشجار الكرز هي محطتنا الصغيرة، أما البيوت على المحور، فإنما تفضح شبابيكها الأمامية عن حقد الآليات: كل شباك يعلن شهادته، إذ السوريون، في المرحلة الأولى من دخولهم إلى المديرج، قاموا بتمشيط هذه الشبابيك بمصفحاتهم خشية الدفاع، وقد عدنا لندافع عن تلك الشبابيك ذاتها، حيث تتكوم الحجارة والطبقات: أبنية قديمة وأثاث رث، وأبنية حديثة وأثاث من أملاك البترول. طبقة تستطيع تعويض خساراتها، وأخرى لا تستطيع تعويض الجرح إلا بالجرح".
في ظل تلك الحرب الأهلية الدموية التي تنقل الأخبار الفظاعات والاجتياحات والمجازر والانتهاكات والاغتصابات، وحتى بقر البطون في المخيمات والأحياء اللبنانية، يروي لنا سليم بركات قصة حب غامض وطاهر ومستحيل أشبه بالأساطير، بين المقاتل المسلح وبين من سماها بالمخلوق الأشقر.
يسجل في اليومية عدد 21: "ثمة مخلوق أشقر يبحث عني بعد كل قداس، مخلوق في الرابعة عشرة من العمر، له وجه خاشع وخجول كوجه العذراء. أبقى بعد كل قداس وحدي في باحة الكنيسة، ويبقى ذلك المخلوق الأشقر. حوار المخلوق الأشقر حوار جارح، صامت وجارح... وأتذكر فركور وصمت البحر. لماذا لا يقول لي شيئاً/ لك المخلوق الأشقر الجميل؟ لماذا يقترب ويباعد؟ لماذا يقف في منعطف الكنيسة حتى يغمرنا الظلام فأمضي؟ لماذا يظل حاملاً طفلة رضيعة طوال الوقت، ويحدب عليها حدب الأم؟ أعرف اسم المخلوق الأشقر، اسم أنثى في الرابعة عشر من عمرها، وأعرف اسم الطفلة الرضيع: طفلة تحمل طفلة، وأنا غريب يخاف أن يجرح الطفولة".
التفت سليم بركات، بعد كنيسة المحارب، إلى فن السيرة الذاتية وقدم فيها عملين مهمين هما: "الجندب الحديدي (سيرة الطفولة)" 1980، و"هاته عالياً، هات النّفير على آخره (سيرة الصبا)" 1982، ثم توقف عن مواصلة كتابة سيرته الذاتية، وانشغل نهائياً بكتابة الرواية ونظم الشعر. أجاب مرة عن توقفه عن كتابة السيرة متعللاً بأنه سيؤذي خلافاً لسيرة الطفولة والصبا، عدداً من الناس، وكان بلا شك واعياً أنه في مسيرته قد احتك بزعماء ومناضلين وساسة وشخصيات أدبية، وإن فتح باب السيرة سيمسّ مجالسهم وأماناتها، وسيخرج أسراراً ومواقف لن تسرهم، وهو يفضل أن تبقى صورهم كما أرادوا لها عند الناس. وربما نرجع ذلك الموقف من يومياته إلى ذلك الاعتقاد.
غير أنه خلافاً لما فعله بيومياته "كنيسة المحارب"، حرص على الاحتفاظ بيومية وحيدة كتبها في قبرص ونشرها في كتابه "التعجيل في قروض النثر" 2010، وهي يوميات في صفحات قليلة تروي نجاته من رصاصة قناص استهدف، من نافذة، مكتبه الذي كان يجلس إليه ليكتب.
إن النقصان سمة من سمات اليوميات وعلامة دالة عليها، إن ارتبط ذلك بحجم المنجز أو بالبياض الذي يرافق التوقف عن الكتابة والتسجيل، وهذا النقصان هو سر قدرتها على النمو والوجود، لأن النقصان أو التوقف عن التسجيل لأيام، وربما شهور أو أعوام، لا يقتل العمل إذا ما عاد كاتب اليوميات واستأنف عمله. لتغدو تلك البياضات والتوقفات جزءاً من شعرية اليوميات وقيمتها التي يقرأها النقاد وفق انتماءاتهم المعرفية.
يبقى أن نشير إلى أن خيانة اليوميات لم تقتصر على خيانة مبدأ التأريخ اليومي الدقيق، بل خانت خصوصيتها كفعل فردي خالص، عندما أشرك فيها سليم بركات رساماً آخر غيره، يضع لها رسوماً داخلية وهو أميل، والحال أننا عرفنا سليم بركات رساماً منذ ظهور أعماله الأولى، حيث اعتمدت أغلفة كتبه رسومه، كما اعتمد رسومه في أغلفة مجلة الكرمل بعد ذلك عندما كان رئيس تحريرها. ولكن أليس أميل بطل اليوميات ونفسها ورفيق التجربة؟
فهل يمكن أن نعتبرها، بشيء من المبالغة، باليوميات المشتركة؟ لا شيء نهائي في قراءة عمل لسليم بركات ولا شيء مألوف، ألم يقل أمجد ناصر أنه ضاعف تلك الغرابة مع كتاباته اللاحقة، قبل أن يستدرك و"كان أيضاً غريباً في مسلكه وهندامه"، مؤكداً أصالة تلك الغريبة في نحت مفارقة كبيرة في المعنى تجعل الغرابة أصيلة، أي خروج عن المسطور، لتكون أعماله إلى اليوم انشقاق عن الخط المحفوظي في الرواية، وانشقاق عن الخط الشعري العربي الذي أسسته له مجلة "شعر"، ومغامرة في مجهول اللغة وإمكانات الشعر، وكذلك سارت أعماله النثرية الأخرى حتى المقال الصحفي ذاته.
فهل أسقط سليم بركات اليوميات من مدونته لمستواها الأدبي، أم لمواقفه من الاحتلال السوري للبنان، أم لمساهمته في الحرب ومواقفه من المحايدين فيها؟ هل تغيرت آراؤه حول الحرب ومشروعيتها؟ هل اعتبر أن كتابته لرواية "أرواح هندسية" إعادة كتابة تلك اليوميات في نص أعمق يحق له أن يكون الشاهد الوحيد عن الحرب؟ أسئلة لم تعد مهمة مع العثور الكتاب وقراءته. ستحتاج فقط أن تعيد سماع قصيدة محمود درويش بصوته "ليس للكردي إلا الريح".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 11 ساعةرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.