شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
الجنس بين الهتك والشبق واللعنة وكتاب اليوميات الحميمة

الجنس بين الهتك والشبق واللعنة وكتاب اليوميات الحميمة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الاثنين 20 يونيو 202203:00 م

لا شيء نستحضره ونحن نلفظ كلمة "حميم" أكثر من الجنس، فالجنس في عرف التقاليد الإنسانية العامة هو الأمر الحميمي الأول والمعلن، والذي يغرق تاريخياً ودينياً في محيط من المنع والتحريم، وقد ارتبطت فكرة الاعتراف نفسها بالخطيئة الجنسية، وارتبط النشاط الديني، وخاصة منها المسيحي، بالتحرر من الحاجة الجنسية وضرورة إشباعها، ومنها انطلقت ظاهرة الرهبنة.

فالإنسان لا يمكن أن يتطهّر إلا بالتخلص من الجسد وحاجاته، ولئن جعلت المسيحية من الاعتراف في رحاب الكنيسة طقساً للتخلص من الخطايا، وعلى رأسها الخطيئة الجنسية، فإن الإسلام ذهب إلى التقية والتستر والحجب مع التوبة.

ويرجع نقّاد ومنظرو أدب الكتابة عن الذات ازدهار هذه الكتابة في الغرب وانحسارها في الشرق إلى هذه الخصوصية في الدينين. ومن ثم، فعبارة "يوميات حميمة" لا يمكن، في الظاهر، إلا أن توحي بعالم الاعترافات الجنسية في جانب منها. وبتشريح مدونة اليوميات العالمية نجد أن هذا الاعتقاد وإن لم يكن شاملاً إلا أنه قائم الذات في قسم كبير منها. فالجسد وقضاياه هو أقرب الأمور إلى الكائن البشري باعتباره كائناً اجتماعياً ونفسياً وطاقة ليبيدو محاطة بالسرية. وتبدأ أسرار الجسد تتكون من اللحظة التي يعي فيها الكائن جسده باعتباره ملكية، ويبدأ في تغطيته عبر اللباس بشكل ارادي. تلك اللحظة التي وعى فيها وعياً قطيعياً أن عليه أن يحجب ذلك الجسد عن الآخرين، وأن يبعده عن العين الفضولية أو الشهوانية. 

قلت لها: اخلعي ثيابك وانبطحي على السرير. لن أفعل شيئاً، سأكتفي بالنظر إليك عارية للحظات". فعلت كما طلبت ولما غادرت الغرفة. لاحظت بقعة من بلل فوق غطاء السرير الأبيض. بقعة مستديرة تتوسطها زرقة. ما هذا؟ ومن يومها لم أقرب امرأة...

الاغتصاب أو عالم الانتهاك: البيت، الشارع، السجن

تمثل واقعة الاغتصاب التي يتعرض لها الكثيرون من الأسرار الدفينة التي يحرصون على قبرها سنيناً، والتي تشكّل مع الوقت إحدى العقد المركبة لشخصيتهم، فتنعكس على نظرتهم للعالم وللآخرين، وتحدد علاقاتهم مع الجنس الآخر أو مع جنسهم. الاغتصاب، كما تعرفه جاني بتراك Jenny Petrak وبربارا هيدج Barbara Hedge: "هو نوع من أنواع الاعتداء الجنسي والذي في الغالب إيلاج جنسي أو أي أشكال أخرى من الانتهاك الجنسي التي ترتكب بحق شخص ما دون موافقته. وقد يرتكب هذا الفعل إما بالقوة الجسدية، والإكراه، أو سوء استخدام للسلطة تجاه شخص غير قادر على إبداء موافقة صحيحة، مثل شخص فاقد للوعي، عاجز، يعاني من إعاقة فكرية أو دون السن القانوني لإبداء الموافقة".

ولعل فيرجينيا وولف مثال لتلك الكاتبة التي تعرّضت للاغتصاب والتحرش من أخيها غير الشقيق جيرالد داكورث، وهي بعد في السادسة من عمرها، وهو ما تؤكده الناقدة الأمريكية المختصة في فرجينيا وولف، لويز ديسالفو في كتابها فيرجينيا وولف-تأثير الاعتداء الجنسي على الأطفال (1990) فهو، حسب رأيها، الحدث الذي حطمها نفسياً، ودفعها نحو المثلية في بداية الأمر والنفور من الرجال بعد ذلك، وربما كان سبباً عميقاً لانتحارها في 28 مارس 1941 مثقلة جيوبها بالحجارة وهي ترمي بجسدها في نهر أووز. وتؤكد الناقدة في بحثها المطول عن فرجينيا وولف أنها تعرضت لانتهاكات جنسية أسرية، وأنها من ضحايا سفاح القربى، وأن الكثير من يوميات مراهقتها وطفولتها لم ينشر. وتعتبر الناقدة أن ذلك الاعتداء وراء اكتئابها وكرهها لنفسها وعدم رغبتها في مواجهة المرآة ومحاولاتها المتكررة للانتحار.

وتعتبر لويز ديسالفو أن هذه الإساءة الجنسية وقع التستر عليها من قبل كتّاب سيرها والمهتمين بأدبها، وتشير الناقدة أن فرجينيا ولدت في عام 1882، لعائلة فيكتورية، أي أن سفاح القربى والتحرش الجنسي العائلي كان ظاهرة منتشرة بين العائلات، ويجب على النقاد الآن إعادة قراءة فرجينيا وولف وفق هذه الحقيقة، ورفع تلك التهمة البائسة بأنها كانت "مجنونة".

كما كشفت الناقدة أن الانتهاك طال أخت فرجينيا غير الشقيقة، والتي كانت تحبس في العلية لوقت طويل كلما أبدت تمرداً على القوانين الذكورية التي فرضتها العائلة في البيت.

خلع سروالي وبدأ يستكشفني بأصابعه الملطخة بالأوساخ. لقد تألمت، وبذعر، نهضت من ذهولي وطلبت منه التوقف، لكنه لم يفعل

أما في يوميات الكاتبة الكندية إفلين لو هروب، يوميات طفل شارع (1989)، فيتخذ الاغتصاب صورة أخرى، كنتيجة للتمرّد على البيت العائلي العنيف والخروج للشارع. فقد غادرت الطفلة المراهقة إفلين بيت العائلة بحثاً عن الحرية والنجاة من القبضة العائلية، لتجد نفسها في عالم الخوف والجوع والانتهاك، حيث اغتصبت في الأيام الأولى قبل أن تنطلق في رحلة مؤلمة لبيع جسدها من أجل الاستمرار في الحياة.

تكتب في يوميتها يوميات طفل شارع يوم 26 مارس: "أشعر وكأنني تعرضت للاغتصاب. إن مشاعر كراهية الذات والاشمئزاز وكراهية الرجال، غير المألوفة تخترقني. تناولت الليلة الماضية بعض المشروبات على معدة فارغة، أصابتني بالمرض والدوار. كانت الكابينة فارغة، جلست على حافة سرير جو وتحدثنا. في النهاية طلبت أن أنام على أرضية غرفته، لأنه يشعل ناراً هناك كل ليلة وغرفتي باردة بشكل لا يطاق. جر حشية وبطانيات إلى الداخل، ثم عانقني وسألني إن كنت أرغب في النوم معه بدلاً من ذلك.

بدت كفكرة جيدة. كنت أشعر بالوحدة الشديدة وأحتاج إلى سرير دافئ مع شخص ما بجواري. (ربما من السذاجة أن تصدق أن الفتاة يمكن أن تزحف إلى سرير الرجل آخر الليل وتتوقع أن تُترك بمفردها. ولكن كيف استطعت أن أنسى هذا؟) خلع جو سترتي وتجاهلت ذلك، تعب وغثيان، ودفنت نفسي في الوسادة. لكنه بعد ذلك خلع سروالي وبدأ يستكشفني بأصابعه الملطخة بالأوساخ. لقد تألمت، وبذعر، نهضت من ذهولي وطلبت منه التوقف، لكنه لم يفعل. ثم جاء على يدي والإملاءات.

اعترف جو هذا الصباح أنه كان يعلم أنني لم أرغب في الذهاب بعيداً، وأوضح أنه لم ينم مع امرأة لمدة ثمانية أشهر، وأني أثرته. كان يعتقد أنني سآتي إليه! أخبرني أنه سيُلقى في السجن إذا أخبرت أي شخص في أي وقت، وأن معظم رفاقه الثلاثة سيرفضون رؤيته مرة أخرى إذا علموا بما حدث.

هل تركته يفعل ما فعله فربما سمح لي بالبقاء هنا لفترة أطول؟ لكن الآن أريد أن أغادر".

يورد كولن ولسن مقطعاً من يوميات نجنسكي يقول فيها: "لقد كرهته لأن صوته كان قوياً معتداً، إلا أنني تبعته، إلى غرفة دياكليف في الفندق، لأنني كنت أنشد المستقبل... وبدأ، فسمحت له مباشرة بـ... وكنت أكره ذلك، إلا أنني تظاهرت بأنني كنت أميل إليه، لأنني كنت أعرف أني وأمي سنموت من الجوع إن لم أفعل ذلك..."

لقد حشدت الكاتبة في الجملة الأولى من يوميتها كل استتباعات الاغتصاب، من كراهية الذات إلى الإحساس بالقرف وكراهية الرجال، وبذلك تخرج حادثة الاغتصاب الضحية من توازنها النفسي والاجتماعي وتحولها إلى حالة نفسية معقدة، ترفض الواقع والحياة، وقد زاد من عمق اللحظة البائسة تصويرها الأدبي الرائع مراحل الاعتداء وترويض الضحية واستغلال وحدتها وقساوة الطقس، وهي بتأكيدها على أصابعه الملطخة بالأوساخ تشير إلى فداحة الفعل التي تقترفه أصابع المُغتصب.

المثال الآخر لكتاب اليوميات المغتصبين هو الراقص الروسي الشهير فازلاف نجنسكي الذي أدت به عذاباته النفسية إلى الجنون، بعد أن وقع فريسة صاحب شركة الإنتاج الذي اغتصب جسده وضمه إلى ممتلكاته. لم يكن نجنسكي مجرد راقص، بل كان أسطورة الباليه وفن الأوبرا قبل أن يصاب بانهيار عصبي أدى به إلى نوع من الجنون. ناضلت زوجته رومولا من أجل إنقاذه وإنقاذ يومياته التي كتبها عن حياته البئيسة، لكنها نشرتها مهذبة، ثم بيعت بعد وفاتها في مزاد علني ونشرت سنة 1995، غير أن النسخة الكاملة والأصلية لم تنشر إلى اليوم.

يتوقف الناقد البريطاني كولن ولسن في مؤلفه اللامنتمي(2020) طويلاً عند هذه الشخصية التراجيدية، وسقوطها في شراك رجل الأعمال الشاذ دياكيليف وجرّه نحو علاقات جنسية تحت الابتزاز.

يورد كولن ولسن مقطعاً من يوميات نجنسكي يقول فيها: "لقد كرهته لأن صوته كان قوياً معتداً، إلا أنني تبعته، إلى غرفة دياكليف في الفندق، لأنني كنت أنشد المستقبل... وبدأ، فسمحت له مباشرة بـ... وكنت أكره ذلك، إلا أنني تظاهرت بأنني كنت أميل إليه، لأنني كنت أعرف أني وأمي سنموت من الجوع إن لم أفعل ذلك...".

ولعل هذا التاريخ الرذيل لجسده هو الذي دفعه بعد ذلك إلى الجنون، وقبل ذلك إلى الاعتقاد بأن الله يسكنه، في حس صوفي يذكرنا بما قاله الحلاج قبل إعدامه، عندما قال: "ما بالجبة إلا الله"، قال نجنسكي: "إني الله في جسد. وكل إنسان يحس بهذا الإحساس، إلا أن أحدا لا يستخدمه. أنا الله في جسد... أنا الله. أنا الله. أنا الله". ظل نجنسكي يشتكي من مرض روحه بينما الأطباء يفحصون جسده حتى مات.
لا يمكن إثبات الكآبة للآخرين بوضوح، لذلك من الأفضل أن تلتزم الصمت حيال ذلك

 تزدحم في المقابل اليوميات السجنية كما السير الذاتية للمساجين وخاصة منهم السياسيين بالحديث عن الاغتصاب الجنسي باعتباره عقاباً وأسلوباً من التعذيب السياسي. ويشمل الاغتصاب السجين، وأحياناً أهله، أو يهدد السجين بهتك أجساده الحميمة، كجسد أمه أو زوجته. تعتبر يوميات غوانتانامو (2015) للسجين الموريتاني محمدو ولد صلاحي مثالاً على ذلك.  فنقرأ ما كان يقوله له محقق أمريكي يلقّب بـ"وليام المعذّب": "ثم هددني قائلاً: سنرسلك إلى سجن الولايات المتحدة لتقضي بقية حياتك فيه. لن ترى أسرتك أبداً. زوجتك سينيكها رجل آخر. في السجون الأمريكية يتم اغتصاب الإرهابيين أمثالك من قبل عدة رجال في آن واحد. والحراس في بلدي يؤدون واجبهم على أكمل وجه، ولكن الاغتصاب أمر حتمي. إذا ما قلت لي الحقيقة فإننا سنطلق سراحك على الفور".

وبسبب الوصم المجتمعي الذي يتعرض له السجين إذا اعترف بتلك الانتهاكات الجنسية له في السجون، يحجم الكثيرون منهم عن ذكر ذلك، ويكتفون بالتلميح أحياناً فقط، ولكن تلك البياضات التي يتركونها في رواية سيرهم ويومياتهم بالسجون ومعرفة المتلقي بواقع السجون في تلك الأنظمة التي اعتقلتهم يشي بكل تلك الانتهاكات. خاصة أن قاموس الخطاب في المؤسسات السجنية، كما في مؤسسات الشرطة بأنواعها، هو خطاب جنسي وانتهاكي، فمنذ لحظة الاعتقال يتعرّض السجين لتعنيف جنسي عبر الخطاب قبل المفاحشة الفعلية، وتسرد لنا الوثائقيات واعترافات السجناء في المذكرات والسير واليوميات أشكال وأنواع هذا الانتهاك، ويبدو أن اليوميات في هذا الشأن قليلة، لصعوبة التسجيل اليومي عند أغلب المساجين السياسيين، إما لأنهم تحت وقع التجربة المؤلمة أو لأنهم محظورون من ممارسة الكتابة وعدم توفر أدنى شروطها.

الشبق الإيروسي والبورنوغرافي في اليوميات

في مقابل الجنس بالإكراه عبر أشكال الاغتصاب والتحرش التي تعرض لها كتاب اليوميات والتي كتبوا بعضها في يومياتهم، ينهض نوع آخر من الجنس الإرادي، مثّله مثلاً جيمس بوزويل وفريدا كاهلو وكلاوس مان وأنييس نن، وهو جنس يمكن أن نعتبره الأكثر حميمية وتناغماً مع الذات الكاتبة، ويبدو مدفوعاً بالعاطفة تارة والمغامرة تارة أخرى. وقد أفردت له الكاتبة الفرنسية الأمريكية أنييس نن قسماً كبيراً من منجزها اليومياتي، وخصصت له كتاباً برمته بعنوان سفاح القربى (1992)، مثلما فعل كاتب اليوميات السكوتلندي جيمس بوزويل.

كان جيمس بوزويل رجلاً شهوانياً، ومنذ وصوله لندن لم يشغله أمر، إلى جانب صامويل جونسون، غير الجنس والنساء، وكان يلتقط النساء من الشارع ومن الملاهي، ورغم أنه أصيب أكثر من مرة بأمراض جنسية، إلا أنه لم يكف عن حياته الداعرة وملاحقة النساء، ولم يكن أجرأ منه ككاتب يوميات في سرد مغامراته غير أنييس نن.

يكتب يوم الثلاثاء 17 ماي: "مشيت ذهاباً وإياباً كل هذا، وتناولت العشاء مع اللورد إجلينتون، حيث كان السير جيمس، الذي قال إنه يتساءل كيف يمكنني أن أشتكي من كوني بائساً مع هذا التدفق المعنوي دائماً. لا يمكن إثبات الكآبة للآخرين بوضوح، لذلك من الأفضل أن تلتزم الصمت حيال ذلك. كان يجب أن أكون في طريق ليدي نورثمبرلاند الليلة، لكن حلاقي مرض؛ لذلك نزلت إلى الشوارع، وفي أسفل منطقتنا، التقطت فتاة شابة جديدة ومقبولة تدعى أليس جيبس. نزلنا في ممر إلى مكان مريح، وأخرجت الواقي، لكنها توسلت ألا أرتديه، لأن الرياضة كانت ممتعة جداً بدونه، ولأنها كانت سليمة تماماً. كنت متهوراً جداً لدرجة أن أثق بها، وكان لدي لقاء رائع".

التحفظ بخصوص الجنس يمكننا أن نرصده في جل اليوميات العربية منذ نشأتها، ولعل ذلك التحفظ كان وراء عدم نشر اليوميات أو الامتناع عن تسجيلها أصلاً. بل إن الكثير من اليوميات العربية يتحفظ حتى عن التطرق للحياة العاطفية بشكل عام، خوفاً من ردة فعل المؤسسة الدينية أو الاجتماعية

لقد غامر بوزويل حتى بصحته عندما رضخ لطلب الفتاة بنزع الواقي، وكان قبل أشهر قليلة يتألم بسبب ما أصابه إثر مضاجعة امرأة، حتى صار يرى كوابيساً، كتب واحداً منها يوم الجمعة 4 فبراير: "لقد كنت متعباً للغاية طوال الليل، وكنت في خوف رهيب من أن خصيتي، التي كانت في السابق مريضة، قد انتفخت مرة أخرى. حلمت أن دوغلاس وقف بجانبي وقال: هذه مسالة صعبة للغاية. استيقظت اليوم وما زلت في رعب. في الواقع، كانت هناك عودة طفيفة للالتهاب. لقد أصبت ببعض البرد. ومع ذلك، قبل الليل تحسنت مرة أخرى".

كان وقتها خارجاً بطوع إرادته من علاقة غرامية كتب فيها الكثير، مع الممثلة لويزا التي أظهر نفسه كعاشق متيّم، حتى واقعها وتعلقت به، فانقلب عليها واضعاً حداً للعلاقة، مؤكداً أنه برد تجاهها، وأن العلاقة لم تكن سوى نزوة جنسية. ويعترف في إحدى اليوميات أنه لا يصلح ليكون زوجاً، وأن المرأة التي ستتزوجه ستعيش بلا شك في تعاسة بسبب شهوانيته. ولكنه للتخلص منها اتهمها أنها من نقلت له العدوى، وقد أصيب فعلاً بأوجاع كبيرة وحمى وإفرازات بغيضة، نقل أعراضه في أطول يومية بالكتاب يوم الخميس 20 يناير.

يتساءل بوزويل كيف لامرأة بذلك الجمال وتلك الحكمة وذلك اللطف أن تقدم على نقل العدوى له، ولكنه حتى في أثناء مقاومة الوجع والتفكير بمصابه كان يتساءل إن كان عليه أن يتوقف عن ممارسة الجنس، وإن كان عليه ألا يواقع السيدة "ميرال"، لينطلق في مخاطبة ذكره: "يا عزيزي يا عزيزي! يا له من شيء ملعون! يا له من مخلوق بائس!".

وبسبب بؤسه المادي فكر أن يذهب إلى مشعوذ ليعالجه، قبل أن يصارح لويزة في حوار مواجهة قائلاً: "سيدتي، ليس لدي أي صلة بأي امرأة غيرك في هذين الشهرين. كنت مع جرّاحي هذا الصباح، الذي أعلن إصابتي بعدوى قوية، وأن التي أصابتني لا يمكن أن تكون جاهلة بذلك. سيدتي، مثل هذا الشيء أسوأ ما تنتظره من امرأة في المدينة، لقد جعلتني مريضاً جداً. لم أستحق ذلك. أنت تعلمين أني قلت إنه لم تكن هناك ثقة، ولم أكن أثق بأحد. لكني بالتأكيد وضعت بعض الثقة فيك. أنا آسف لأنني كنت مخطئاً". كان ذلك قبل أن يقرر الكتابة إلى لويزة رسالة غريبة، الخميس 3 فبراير، يطلب منها مالاً لكي يتعالج ويحملها المسؤولية: "لم أكن جيداً مثل البارحة. كنت كئيباً إلى حد ما. اعتقدت أن لويزا الخائنة تستحق المعاناة بسبب فسادها. لذلك كتبت لها الرسالة التالية:

سيدتي: سيطلب مني الجراح قريباً خمس جنيهات لعلاج المرض الذي نقلته إلي. لذلك يجب أن أذكرك بالمبلغ الصغير الذي كان لديك مني منذ بعض الوقت. لا يمكنك أن تنسى ما هي الظروف التي سمحت لك بالحصول عليها. أنا لم أدفعه مقابل الدعارة ولم أتصدق به. لقد قدمته لك كقرض تقريباً، وقد وعدت بإعادته. أنتظر أن أحصل عليه قبل يوم السبت بعد منتصف الليل".

لقد كان جيمس بوزويل رجل الشهوة بامتياز، ذلك الرجل الإسكتلندي المتعطش للجنس طوال الوقت، والذي استغرب في  بداية يومياته يومي 14 ديسمبر من بقائه لأسابيع بلندن دون ممارسة الجنس، على الرغم من أنه كان محاطاً بكل أصناف النساء، فيكتب: "إنه لمن الغريب للغاية أن أظن أنني كنت الآن في لندن لعدة أسابيع دون أن أستمتع بالجنس الممتع، على الرغم من أنني محاط بعدد من السيدات خاليات القلوب من جميع الأنواع: من سيدة رائعة بخمسين جنيهاً في الليلة، وصولاً إلى حورية مدينية ذات جوارب بيضاء، تتعثر على طول ستراند وتتنازل لك عن شخصيتها الجذابة مقابل نصف لتر من النبيذ والشلن".

الجنس الملعون

يقودنا المغربي محمد خير الدين في يوميات سرير الموت (1995) إلى حضور آخر للجنس، ذلك النشاط الملعون والمدمّر. يكتب خير الدين يومياته وهو على فراش الموت، طريح مرض السرطان، يراقب انهيار جسده تدريجياً، وفقدانه لعضلاته وسقوطه في العجز التام. بدا كأنما هذا الجسد المهزوم هو الذي يكتب اليوميات وهو الذي يتذكّر. وبهذا الرجوع بالجسد إلى فترات عنفوانه، عبر المذكرات المقحمة في اليوميات، يصدر الكاتب الأحكام والمواقف من الجنس وممارسيه. في نبرة من الندم يكتب خير الدين حياته الداعرة في الشباب ويحملها مسؤولية هذا الانهيار وهذا المرض المميت نفسه.

يكتب يوم الاثنين 5 أغسطس 1995 متحدثاً عن آخر عهده بالنساء: "أصبت بالتهاب الأذن في الفندق. وقد كان يمكن علاجه من دون إضرار بالأسنان. وهو ما لم يحدث.  وها هي ذي نتيجته: نزيل باليما يلاقي في هذا الفندق عناء وأي عناء! فالضجيج لا ينقطع عنه ليلاً ولا نهاراً. مومسات يكتسحن المطعم من المغرب إلى المشرق. ويلبثن فيه منتظرات أن يفتح النادي الليلي أبوابه. فإذا خيّم الليل، أطلق العنان لرقص صاخب يظل يهتزّ له الحي حتى الثالثة صباحاً. موسيقى رديئة، وأغان متباكية، تمنع المرء من النوم.  وكذلك يضج المصعد، لا يتوقف الليل بطوله. زد إلى ذلك الطعام، فهو رديء عفن! كذا ابتدأت أمراضي وبلاياي كلها. الإهمال والانفاق الجنوني. في الشرب على المومسات. كانت آخرهن قحبة تعمل في قنصلية إسبانيا. مطلقة، ولها ولد. كان مريضاً في مضاجعتي الأولى والأخيرة لها. لا يستبعد أن تكون هذه المرأة من نقلب إلي فيروس التهاب الأذن. طفل مريض.  التهاب الأذن. شيء ممكن... عادت إلي مرة أخرى بعدها. أعطيتها 200 درهم، وقلت لها: اخلعي ثيابك وانبطحي على السرير. لن أفعل شيئاً، سأكتفي بالنظر إليك عارية للحظات". فعلت كما طلبت ولما غادرت الغرفة. لاحظت بقعة من بلل فوق غطاء السرير الأبيض. بقعة مستديرة تتوسطها زرقة. ما هذا؟ ومن يومها لم أقرب امرأة".

وبعد أن يحمل النساء ومن ورائهن الجنس مسؤولية تدهور صحته، يذهب محمد خيرالدين بعد ذلك إلى أن النساء كن سبباً رئيسياً لكل ما يحدث له من إخفاقات، وأنهن كن دائماً سبباً في كل ارتباك حدث لمساره الأدبي، وكان عليه أن يتخلص منهن لينعم بالطمأنينة وبالكتابة وبالمتعة الحقيقية.

"إني ما عدت أهتم لهذا الجانب من الحياة، فما كان لي في بعض النساء غير المعاناة. لن تفلح في شيء وإياهن. لقد آذينني أيما إيذاء. وأضررن بكتاباتي. عرفت من بينهن اثنتين كان مجرد وجودهما يعني عقماً محتوماً لا ريب فيه. أمضيت وإياهما سنوات لم أهتد فيها إلى شيء من الكتابة، مهما كان ضئيلاً. كانتا العدم بعينه. وقد خلصني الله منهما. فليس أفضل للكاتب من عزلة هادئة. فهي وحدها القادرة على إلهامه. ما عدت اليوم قادراً على تحمّل هذا النوع من النساء الشبيهات بمصاصات الدماء وبالجنّيات. والمجون؟ ما عدت أفكر فيه مجرد التفكير.  مُتعي كلها صرت أجدها في أمور أخرى أبعد ما تكون عن شهوات الجسد. من متعي الكتابة والقراءة. فماذا غنمت من هذا النوع من النساء؟ لا شيء".

لقد نقل محمد خيرالدين طلب المتعة من الإيروسي إلى الفكري والفني. وهذا التحوّل رافقه تحوّل في الوقع باللذة ومصادرها، حيث انتقل إدراك اللذة من الجسد الحيوي إلى العقل والروح، وكأنما بالكاتب ينتقل من تبني فلسفة نيتشوية إلى فلسفة ديكارتية وأفلاطونية أحياناً، لأنه بهذا التحوّل يعطي مفهوماً جديداً للإنسان وللكاتب وللفعل الإبداعي.

يؤكد محمد خيرالدين في أكثر من مناسبة في يومياته أنه كان يعاني إدماناً على ممارسة الجنس مع أي كان، ولذلك كان يهدر ماله وجهده ويشقى من أجل أن يوفّر ذلك المال لتمتصه منه بائعات الجنس. واعتبر نفسه قد تخلص من مرض، وكانت اعترافاته بداية لتشخيص عالم بعض الكتّاب والفنانين المتكالبين مثله على الجنس، واعتبرهم مرضى.

لقد خرج محمد خيرالدين من تفكيك التجربة الذاتية إلى بناء تصورات لظاهرة جماعية، حين تتحول حاجة هؤلاء للجنس أكبر من الحاجة إلى اللذة الحسية، بل حالة من الهذيان الإيروسي.

يكتب في ذات اليومية: "حدثت نفسي أنني لن أعيش بعد اليوم، برفقة امرأة داخل البيت. والجنس؟ قد لا أكون انتهيت منه. لكن صار عندي شيئاً ثانوياً. فلست مهووساً بهذا الشيء، مثل بعض أصدقائي من الفنانين. فهم يلهثون وراء النساء كأنهن طوق نجاة. هؤلاء أسميهم غرقى الجنس. إنهم مرضى. فهذا واحد منهم، وهو فنان ساخر ذائع الصيت، تلزمه ثلاث نساء مختلفات في اليومي الواحد. هذا يجعله ينفق كل ما يكسبه على الجنس... من دون أن يجد فيه متعة، ولو كانت ضئيلة. ما عاد الجنس عنده إلا عملية آلية.  فهو في حاجة دائمة، حيث كان إلى واقيات وفتيات. فإذا أعوزنه، يصير في حالة من الهذيان، حتى لتسمعه يدمدم حنقاً من جوعه إلى الجنس... أظنه مكبوتاً. صارحته بالأمر، ونصحته باتباع علاج نفسي، لكنه لم يأخذ بالنصيحة. إنه مريض بالجنس". 

ويختم محمد خير الدين يوميته بعد أن يستعرض حياة هذا الفنان الماجنة بخطاب ساخر مباشر: "أيها السيد. امنح عضوك تقاعداً، فهو في حاجة إلى الراحة. ذلك ما ينبغي أن يقال. أما أنا، فبعيد عن ذلك كله، وليحيا الأدب".

تواصل حضور الجنس في يوميات محمد خيرالدين كلعنة على الكتابة وعلى الصحة في أكثر من موضع، ويتخذ خطابه شيئاً فشيئاً شكل الخطاب المحافظ. وهذا التحفظ بخصوص الجنس يمكننا أن نرصده في جل اليوميات العربية منذ نشأتها، ولعل ذلك التحفظ كان وراء عدم نشر اليوميات أو الامتناع عن تسجيلها أصلاً. بل إن الكثير من اليوميات العربية يتحفظ حتى عن التطرق للحياة العاطفية بشكل عام، خوفاً من ردة فعل المؤسسة الدينية أو الاجتماعية، كالأسرة والأقرباء والمجتمع، وهو نفس المأزق الذي تعيشه كتابة السيرة الذاتية التي عانت الملاحقة والمنع، ولعل تجربة المغربي محمد شكري مع كتاب الخبز الحافي (1973) أهمها.

لم تتعد الآثار العربية في مجملها حدود الحديث عن الحب وعذاباته، مع الفلسطيني غسان كنفاني في حديثه عن علاقته بغادة السمّان، كان ذلك الأمر حاضراً في ذهني وأنا أكتب يومياتي بالجزائر سنة 2009 -2010 التي نشرت تحت عنوان واحد صفر للقتيل (2018).


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image