لا تخلو فترة عيد الأضحى في المغرب من طقوس واحتفالات شعبية تصاحبها، ومنها التقليد أو الكرنفال السنوي بُوجْلُود (صاحب الجلود)، الذي دأب سكان سوس (جنوب) على تنظيمه.
عادت احتفالات بوجلود أو "بيلماون"، هذا العام من جديد بقوة، بعد منعها لسنتين متتاليتين بسبب جائحة كورونا، وتواصلت طوال أيام بمشاركة جماهير غفيرة من مدينتَي الدشيرة وأكادير.
فما قصة "كرنفال بوجلود"؟
ممارسة موغلة في التاريخ
يؤكد كثيرون من الباحثين الأنتروبولوجيين، أن بوجلود أو بيلماون بالأمازيغية، طقس من الطقوس الوثنية السابقة على الإسلام، فيما ينسبها البعض إلى ممارسات مجوسية ويهودية، وفرعونية. ويرى آخرون أنه ينتمي إلى طقوس معيّنة كما هو الشأن في بعض العادات المنتشرة (تغنجة على سبيل المثال). ويذهب آخرون إلى أن أصولها رومانية، بحكم أن طقس الرجال- الخرفان حاضر في العديد من دول الضفة الشمالية للمتوسط إلى يومنا هذا، وهي بحسب البعض كانت ضمن طقوس الاحتفال بالعبور إلى الربيع، بل وتجد صداها في بعض الأساطير الإغريقية.
في هذا الخصوص، يرى الباحث في الأنثروبولوجيا الحسين بويعقوبي، أنه يصعب إعطاء جواب حاسم بخصوص أصل بوجلود أو "بيلماون"، لأنه ممارسة قديمة جداً تعود إلى قرون عديدة قد تتجاوز فترة وصول الديانات التوحيدية إلى شمال إفريقيا.
عادت احتفالات بوجلود أو "بيلماون"، هذا العام من جديد بقوة، بعد منعها لسنتين متتاليتين بسبب جائحة كورونا، فما قصة "كرنفال بوجلود" حيث يتحول الشباب إلى رجال-خرفان؟
وأضاف بويعقوبي، في حديث إلى رصيف22، أن المغرب، كونه بلداً متوسطياً، شهد الممارسات التنكرية، وهو بلد إفريقي حيث للقناع والتنكّر مكانة خاصة، فليس غريباً أن يتوفر شمال إفريقيا والمغرب على وجه الخصوص، على هذا النوع من الممارسات الثقافية المعتمدة على القناع والتنكّر.
أشار المتحدث إلى أن الدراسات المهتمة بهذا الموضوع تأخرت إلى حدود فترة الاستعمار الفرنسي لشمال إفريقيا، وهو ما جعل المعلومات عن تطور هذه الممارسة غائيةً، مبرزاً أن هذه الكتابات نفسها على قلّتها سمحت لنا بمعرفة أن هذه الممارسة موجودة لدى كل سكان شمال إفريقيا، سواء كانوا ناطقين بالأمازيغية أو بالعربية، وإن انقرضت في العديد من المناطق.
تسميات مختلفة والاحتفال واحد
تختلف تسميات طقس بوجلود من منطقة إلى أخرى، ولكل منها خصوصيتها، لكن الاحتفال يبقى واحداً. فسكان منطقة سوس، التي تضم مدينتَي أكادير والدشيرة، في جنوب المغرب، يطلقون على هذا الاحتفال السنوي اسم بوجلود، أو "بيلماون"، في حين يُسمّى في منطقة دكالة والشاوية، في وسط البلاد، بـ"هرمة بولحلايس". أما في مناطق الشمال فيُعرف هذا الاحتفال باسم "بولبطاين"، وعلى ساحل الأطلسي يقال له "ميمون" أو "أمعشار".
كرنفال "بيلماون" في منطقة سوس، فقد بات مهرجاناً فلكلورياً تراثياً أمازيغياً يقام سنوياً بمناسبة عيد الأضحى في مدينة الدشيرة، ويُعدّ أشهر هذه الاحتفالات
ويشتهر باسم "بوهو" في مناطق عدّة من غرب المملكة المغربية، وباسم "سونة" في شرقها، بينما يطلق عليه أهالي الأقاليم الصحراوية اسم "سبع بْطَايْن" (بطانة الخروف)، لأن بطل الكرنفال يلبس سبعة جلود أو "بطاين"، على أطراف جسده، أما السابع فيوضع على الرأس بقناعه وقرنيه.
أما كرنفال "بيلماون" في منطقة سوس، فقد بات مهرجاناً فلكلورياً تراثياً أمازيغياً يقام سنوياً بمناسبة عيد الأضحى في مدينة الدشيرة، ويُعدّ أشهر هذه الاحتفالات، وتشرف على تنظيمه جمعيات من المجتمع المدني، من خلال ارتداء مجموعة من الشباب جلود الأضاحي التي تم ذبحها في العيد.
طقوس الاحتفال
طقوس الاحتفال بموسم بوجلود، تبدأ في مدن سوس، مع عشية يوم عيد الأضحى وتستمر أياماً عدة، لكن الاستعداد لها يكون قبل ذلك.
محمد، واحد من أبناء المنطقة الذين يحضرون هذا الطقس، يقول في هذا السياق إن التحضير لطقوس بوجلود يكون قبيل العيد، إذ يشرع الشباب في جمع جلود أو فراء الأغنام والماعز من المجازر في المدن، وهناك من يوصي السكان بالحفاظ على جلد الأضحية -أو "الهيدورة" بالعامية المغربية- في أثناء سلخها وعدم إحداث ثقوب فيه ليكون مناسباً وصالحاً للتنكر فيه.
بعد ارتداء الجلود، يخرج عدد من الشباب وهم على هيئة خروف أو ماعز في مشهد شبيه بـ"هالوين"، الذي يتنكر المحتفلون فيه بأقنعة الأشباح والوحوش، ويجوبون أزقة المدن وشوارعها
"بمجرد الحصول على جلود الأضاحي يقوم الشباب بغسلها وتجفيفها، ثم رشّها بماء الزهر، وكذا وضع بعض الأعشاب العطرية للقضاء على رائحتها الكريهة، ثم خياطتها من طرف شخص محترف، ويرتدونها بعد ذلك في بيت مهجور أو غابة أو مكان بعيد عن السكان تفادياً لانتشار الروائح"، يضيف محمد في حديثه إلى رصيف22.
لا يقتصر الحاضرون لهذا الاحتفال على أهالي هذه المناطق فحسب، بل تتقاطر أعداد من المغاربة من مدن مختلفة إلى مدينتَي أكادير والدشيرة لمتابعة هذه الاحتفالات التي لا تخلو من الغرابة والإثارة والفرجة.
ضرب جالب للحظ والبركة
بعد ارتداء الجلود، يخرج عدد من الشباب وهم على هيئة خروف أو ماعز في مشهد شبيه بـ"هالوين"، الذي يتنكر المحتفلون فيه بأقنعة الأشباح والوحوش، ويجوبون أزقة المدن وشوارعها. الاختلاف هنا، أن البالغين هم من يحتفلون أساساً بالطقس، وترافقهم في الأحياء التي ينتقلون إليها فرق موسيقية تردّد أهازيج وأغاني شعبيةً بالأمازيغية لإدخال البهجة والسرور إلى نفوس المتفرجين.
يحمل الشبان المتنكرون قوائم الخروف أو الماعز ويعترضون سبيل المارة مطالبين إياهم بهدية العيد، أي بمبلغ من المال، ويطرقون أيضاً أبواب المنازل المغلقة.
في هذا السياق، أبرز محمد في حديثه إلى رصيف22، أن بوجلود يستعمل القوائم التي تبقى ملتصقةً بالجلود، لتهديد الناس للحصول على المال، وكذلك ضربهم بها بشكل خفيف على الظهر لمنحهم البركة، لافتاً إلى أن هذا الضرب يجلب الحظ للشخص الذي يتعرض له، إذ يحميه، حسب المعتقدات الشعبية، من المرض طوال عام كامل.
من جهته، يؤكد بويعقوبي في حديثه إلى رصيف22، أن هذا الطقس في أصوله كان له بعد روحيّ وتعبّدي، قبل أن يغلب عليه البعد الفرجوي، بيد أنه ما يزال إلى اليوم محاطاً لدى بعض الناس بالقدسية سواء من خلال استعمال الملح وقراءة المعوذتين أو الفاتحة قبل الخروج للتجوال، بالإضافة إلى الاعتقاد بالبركة المصاحبة لـ"بيلماون"، إذ إن هناك اعتقاداً شعبياً بأن ضرباته الخفيفة تُذهب المرض وتأتي بالحظ، ولكلّ فرد حسب تمنياته.
طقوس "دخيلة"
طرأت تحوّلات وتغييرات عدة على احتفالات بوجلود، إذ عدّدها بويعقوبي حسب طبيعة الجلد المستعمل، وكذلك الأقنعة المصنعة، إذ إنها تأثرت بالأقنعة العالمية، بالإضافة إلى تعدد الأزياء التنكرية وطبيعة المواضيع المطروحة والشخصيات التي يتم تقمّص أدوارها.
أردف المتحدث أنه يلاحظ أيضاً استعمال الصباغة والماكياج بدل المواد التقليدية (كالفحم) التي كانت تُستعمل سابقاً، مشدداً على أن المنظومة الثقافية التي يمارَس فيها هذا الطقس تغيرت هي الأخرى.
بالرغم من أن هذا الاحتفال ما يزال يخلق الفرجة، غير أنه، في نظر بويعقوبي، لم يعد يؤدي الأدوار نفسها التي كان يؤديها قديماً، إذ تسلّلت إليه، خاصةً في المدن الكبرى، بعض الممارسات الأخرى التي تسيء إليه، مؤكداً أنها مرتبطة في العمق بالتحولات العامة التي عرفها المجتمع المغربي، والتي أثّرت بطبيعة الحال في طقس "بيلماون" أو بوجلود.
إلى جانب الطقوس الدخيلة، تشوب احتفالات بوجلود بعض الأفعال والسلوكيات السلبية والمرفوضة في السنوات الأخيرة، من قبيل السرقة والتحرش والتلفظ بالكلام النابي، بالإضافة إلى استغلال الكرنفال من أجل تصفية الحسابات بين الشبان، وهو الأمر الذي يستنكره السكان والناشطون المحليون في تلك المناطق.
من "أقنعة مخيفة" إلى "وجوه جميلة"
كان التنكر في هيئة خروف، أو ماعز، ضخم وشرس، وإخفاء ملامح الوجه بأقنعة مخيفة، أو طلاؤها بالفحم الأسود، ما يميز الاحتفال في هذا الطقس.
فالظهور في حلة جميلة من بين الأمور الجديدة التي يشهدها كرنفال بوجلود أو "بيلماون"، إذ يحرص العديد من الشباب المتنكرين على وضع مساحيق الماكياج وارتداء أزياء نسائية، وهو ما يخالف أصل هذا الاحتفال. وفي هذا الجانب، عبّر محمد في حديثه إلى رصيف22، عن استيائه قائلاً: "هذا الأمر مبتدَع، ولم نعتده في السنوات الماضية"، مشيراً إلى أن فكرة بوجلود "مبنية في الأصل على الرعب".
يتنافس الشباب المشاركون في هذا المهرجان على لفت الانتباه، والتباري على لقب أفضل شخصية في بوجلود، والاحتفال الأخير ببوجلود عرف ظهور شخصية متنكرة على طريقة "الفاتكين"، ونال صاحبها لقب أفضل زي، بينما فاز آخر بجائزة أجمل شخصية في بوجلود، إذ ظهر بأزياء وماكياج وحلي نسائية كفتاة حسناء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...