شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
طقوس الجنازات... التحول إلى مسخ أو إلى شجرة

طقوس الجنازات... التحول إلى مسخ أو إلى شجرة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 21 مايو 202001:34 م

يصف فيليب تشارلييه، عالم الطب الشرعي، الآثار والأنثروبولوجيا، في مقال له بعنوان "الطقوس والميراث"، الطقوس بأنها لغوية أكثر منها أنثروبولوجية حقيقية، وهي وجدت لتنظيم الفوضى من حولنا وما يصاحب عملية الموت، القتل وفقدان الحياة، ويستبعد أن ترتبط الطقوس بشكل عام بحقائق دينية، ويعطي مثالاً عن الطقوس الحالية التي انتشرت مع فيروس كوفيد-19 من التصفيق للفريق الطبي، أو الهتاف والغناء، يقول: "لم يكن الأمر دينياً أبداً، كان مكافأة من جزء من السكان لجزء آخر، ولم تكن الطقوس مدعومة بالأفكار الميتافيزيقية، وهي بدأت بالتفكك ما إن بدأ الحجر بذلك.

لكن هل توجد فعلاً في أوقات المرض والموت طقوس علمانية؟ أليس في حالة التصفيق نفسه نوع من البعد الميتافيزيقي لإبعاد الأرواح الشريرة واستجلاب الحظ الحسن، على الطريقة الشامانية في قرع الطبول وإصدار الأصوات الإيقاعية لدرء الخطر وطرد الأرواح الشريرة؟

هل توجد فعلاً في أوقات الموت طقوس علمانية؟

طقوس الجنازات في الأديان

في دراسة بعنوان "طقوس الجنازة" يقول الباحث لودفيك فيفارد "Loudovic Vievard " إن الطقوس هي مجموعة من الحركات والإيماءات والكلمات التي تهدف لإنشاء معنى تشير بشكل ما، إلى القصص التأسيسية والمقدسة، فتتخذ الطقوس بعداً أدائياً تمثيلياً، يمكنها أن تتصف بطابع طبي نفسي لتهدئة مخاوف الأفراد المتبقين، إذ غالباً ما ينتاب المجموعات الهلع نتيجة غياب أحد الأفراد، وليس بالضرورة الفرد المؤسس أو رب العائلة، إنما الغياب الموت بوصفه احتمالاً صار أقرب، صار في حيز العصا والسجادة والسرير وآنية المطبخ، صار الموت عبر غياب أحد أفراد المجتمع القبيلة الأسرة، عنصراً ضاغطاً على وجود من تبقى منهم.

كل ديانة تتناول مسألة العبور من الحياة إلى الموت بطريقة رمزية مختلفة، لكن الأديان تتفق على فكرة "الممر"، وبالتالي تختلف طقوس العبور هذه لكن لا يختلف الهدف النهائي، المكان الأخروي للديانات:

عند الطوائف المسيحية على اختلافها، يتشارك الحزانى، أو "الآسفون" كما تترجمها العربية لتفصلها عن "الحداد" الإسلامي، قراءة مقاطع من الكتاب المقدس، وتساعد الشموع والزهور والصلاة على المتوفى، بتأمين عبور روح الميت إلى العالم الآخر، والانفصال عن حضوره المادي، كما تسمح بعض الطوائف كالأرثوذوكس بإبقاء وجه الميت مكشوفاً، بينما يقتصر الأمر عند الكاثوليك على الشخصيات الشهيرة أو مجرد رغبة الأهل، يتم الدفن عموماً بعد ثلاثة أيام، وهو الوقت الذي تنفصل فيه الروح عن الجسد، وتستمر الروح أربعين يوماً لتصعد إلى الله.

أما عند اليهود فيجب ألا يبقى الجسد بمفرده أبداً، ويبقى محاطاً بأعضاء الأسرة رجالاً ونساء، بعد تغسيله ولفه في ثوب أبيض، مع إضاءة الشموع وقراءة المزامير، قبل المغادرة إلى المقبرة تمزق الأسرة الثوب الذي ترتديه من الجانب الأيمن كعلامة على الألم، ثم يقوم كل فرد من الجمهور بإلقاء ثلاث معاول من التراب في القبر، من حيث المبدأ لا يتم وضع زهور على القبر قبل مرور 11 شهراً، وعند المسلمين، عند الموت يقلب الشخص على جانبه الأيمن ويهمس في أذنه "لا إله إلا الله"، ويعد تغسيل الجسد ضرورياً، ومثل اليهود، النساء تغسلن النساء والرجال يغسلون الرجال، يوضع الرأس باتجاه الكعبة، ثم يرفع التابوت للأعلى والأسفل ثلاث مرات، في المقبرة، يقرأ الشيخ أو الإمام آيات قرآنية، ويبلغهما بما يجب قوله للملاكين "أنكر ونكير"، ويجب أن يتم الدفن بأسرع ما يمكن.

يكتب لودفيك فيفارد: "لا يوجد مجتمع بدون طقوس جنازة، ولا يوجد مجتمع يتخلص من جثمان موتاه بنفس طريقة مجتمع آخر"، ويذكر أن أول آثار طقوس حول العالم تعود إلى 350000 سنة، إلى موقع سيما دي لوس هيوسيوس، حيث اكتشف علماء الحفريات أقدم شهادة على طقوس جنائزية في التاريخ.

مهما تنوعت الطقوس الجنائزية، فأنها تشترك من خلال احتوائها لمجموعة من المعتقدات وتحددها بالتالي طبيعة الوجود وتفسير مبدأ الخلق، المعنى من الحياة والنظرة إلى الموت، وتم فرض طقوس الدفن بالضرورة الاجتماعية، فالحرمان من الدفن هو أقصى إهانة يمكن أن تلحق بميت، لذا يتم استنكار "المقابر الجماعية" أو ترك أجساد الموتى نهباً للعقبان"، كنوع من الإساءة المتعمدة لحرمة "البشرية"، لكن كيف يفهم ارتباط الممارسات الطقسية للدفن أو التعامل مع الجثة مع تبدل ثقافة المجتمع؟ وهل هناك طقوس "علمانية" لدفن الموتى؟

بالنسبة لدوركهايم، الطقوس هي قواعد السلوك التي تصف تصرف البشر مع الأشياء المقدسة، ويميل لودفيك إلى القول بأن العملية اليوم حالياً هي عملية محض سياسية، وربما من هنا يكتنفها سلوك علماني أو بالأحرى قانوني مدني أكثر منه ديني، فإعلان الوفاة يبدأ من المشفى أو الطبيب ثم الشرطة أو البلدية، ثم تتبعه بقية المؤسسات المدنية بطبيعتها قبل الدينية، إعلان الوفاة طبياً ثم المصادقة على شهادة الوفاة، هذه "طقوس" مدنية أيضاً ولم تضطلع بها الديانات من قبل، لكنها أيضاً تندرج ضمن "الطقوس" المعاد إنتاجها، فالتصفيق ابتهاجاً لدعم الفريق الطبي المقاوم لكورونا، أو الرقص في الجنازات أو البكاء أو إلقاء الخطب، أو تعداد محاسن الميت، كل هذه طقوس اجتماعية ذات بعد ميتافيزيقي، تضمن بها المجتمعات "موافقة" على شغور مكان لأحد أفرادها، سواء بشكل حقيقي أو في ذاكرة الأقرباء، وإعلان الموافقة على تقاسم "تركة" الميت، حتى لو كانت مجموعة من ذرات الهواء التي كان يتنفسها.

طقوس وثنية

نعلم القليل عن طقوس الدفن لدى القبائل الوثنية أو التي خارج "منظومات الأديان الإبراهيمية"، والتي نعتبرها بكل صفاقة مركز "العالم المتحضر"، في مقال للكاتبة والأنثروبولوجية "Anne-Marie Peatrik" بعنوان "أنشودة الضباع الحزينة، عن طقوس الجنازة لشعوب ميرو في  كينيا والشعوب المجاورة"، مجموعة من الحقائق والطقوس المذهلة في بساطتها والتصاقها بجوهر الفرد والتحامه الضروري بالطبيعة الأم.

تلاحظ بياتريك أن طقوس الجنازات والاعتناء بها يتم فقط بالنسبة للأجداد، أي من قاموا بدورهم كاملاً في الحياة الأسرية، أنجبوا أبناء وهم بدورهم أنجبوا أطفالاً، أما الآخرون، سواء من الرجال أو النساء، فيرمى بهم في الأدغال لتأكلهم الضباع والحيوانات القمّامة الأخرى.

يلتقي جميع الأبناء والأحفاد حول الجد الميت، ويمكن لهذا أن يستمر أسابيع لأنهم موزعون في أنحاء المنطقة، يتم التضحية بكبش قاتم اللون، أسود أو بني، ولا يجوز أن يكون أبيض، ويقومون بتغليف الجسد بدهن الكبش المطبوخ، ويلفونه بالصوف، يرقد الرجال على الجانب الأيمن والنساء على الأيسر، ثم يتم الانتظار لمدة شهرين حتى يتم التأكد أن الجسد قد تحلل تماماً، ثم يقومون بدفنه، ويعود الأبناء إلى منازلهم، وعادة لا يستخدم كوخ الرجل الميت بعد موته، يمكن أن تستخدم الأخشاب الصالحة لبناء بيت آخر قرب بيته، أما في حال موت شخص آخر أو حتى قبيل موته، يتم وضع الشخص المحتضر في الأدغال مع أمتعته الشخصية، لأن الميرو يعتبرون هؤلاء الأشخاص خطرين ومعديين أيضاً، ويحظر على المعزين الخروج إلا ليلاً، ولا يستطيعون الحديث مع أحد، وتحظر ممارسة الجنس مع الزوجات، ويستمر هذا أربع سنوات أخرى.

وضع رماد المتوفي مع بذرة شجرة في جرة قابلة للتحلل... "إنها طريقة شعرية للعودة إلى الأرض ولجعل الأحباء يرون عودة المفقودين بشكل جديد، كما أنها طريقة مثلى لموازنة البصمة الكربونية التي خلقتها الحياة"، وبهذا نستطيع على الأقل أن نضمن أننا سنكون جزءاً من العالم الذي أحببناه

وفي تفسير قبائل الميرو لعدم دفن الموتى في الأرض أن الدفن "يغطي الخصوبة"، إي يعيق استمرارية الحياة، ونفس النظام تقريباً نراه في الجماعات المتقاربة مع قبائل ميرو، حيث يجب أن يمر الفرد ضمن الدورة: طفل، مراهق، يافع، صياد، أب شاب، والد الأسرة ثم أب كامل أي جد، ونفس الشيء بالنسبة للمرأة، فالأجداد يتمتعون بصفات وقوى استثنائية، أما الأخرون الذين لم يصلوا لمرحلة "الكمال" تلك، فهم رسومات ليس أكثر، كائنات غير مكتملة، وبطريقة ما يهدد موتهم قبل الاكتمال دورة الحياة.

لكن أن نعود إلى التراب بالتأكيد ليس تحقيقاً لمقولة: من التراب خلقنا وإلى التراب نعود، لكن نتيجة قلة المساحات المرهونة لدفن جثمان الموتى المتزايدين، إضافة إلى التقليل من الطقوس التي نتبعها عند كل فقدان، لم تكن فكرة الحرق بعيدة عن الحياة فالبوذيون يقومون بذلك، بل ربما يعتبر البوذي حياته كلها انتظاراً لتحقيق هذه النهاية والخلاص، أما الفكرة الأكثر إبداعاً وهي تحويل أحبائنا إلى أشجار، تكتب  "Laure Hanggi" عن الموضوع  بعنوان "بعد الموت تصبح شجرة" وتشرح عن مشاريع الشركات العديدة التي قامت لهذا الغرض منذ بداية التسعينيات للمزيد من الاقتناع بجدوى حرق الجثمان، لكن الأفكار الجديدة حول زرع بذور الأشجار ضمن رماد المتوفي، فهي فكرة حديثة بدأت بالانتشار في أوروبا في 2016، والمبدأ، كما تكتب لورا، وضع رماد المتوفي مع بذرة شجرة في جرة جنازة قابلة للتحلل، والتي يمكن دفنها بعد ذلك في أمكنة قريبة، حديقة المنزل أو الغابة القريبة.

والغرض كما تقول، هو تقديم بديل مستدام لتذكر الأشخاص المفقودين بطريقة طبيعية ومعاصرة، والأهم أنها تهزم فكرة الموت والفناء نفسه، "إنها طريقة شعرية للعودة إلى الأرض ولجعل الأحباء يرون عودة المفقودين بشكل جديد، كما أنها طريقة مثلى لموازنة البصمة الكربونية التي خلقتها الحياة"، وبهذا نستطيع على الأقل أن نضمن أننا سنكون جزءاً من العالم الذي أحببناه.

وهناك أيضاً العديد من الطرق التي ترغب بالتخلص من الطريقة التقليدية للدفن، مثل الدفن في توابيت من الورق السريع التحلل، أو حرق الجسم عبر وضعه في محلول قلوي بدرجة 160 مئوية، وتحويله إلى سماد، وجميعها أفكار في شكلها العام علمانية وتستبعد الطقوس الدينية الاعتيادية، لكنها من حيث الجوهر، تحيل إلى أفكار ميتافيزيقية، تبتغي الخلود والاستدامة، وإن بطرق أقل أذى للطبيعة والأحياء.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard