لم تنتهِ الاحتفالات بعيد الأضحى في لبنان، وما زالت مستمرةً بين كثيرين من سكّانه، سواء كانوا من اللبنانيين أو من اللاجئين في شتى المناطق، خاصّةً أنّ قدومه تزامن مع انتصاف فصل الصيف، وبعد قرابة عامين على الإغلاق الناجم عن التدابير الاحترازية لمنع انتشار فيروس كورونا، الأمر الذي شجع الناس على الخروج والاحتفال بوتيرة أعلى.
وبالرغم من مرور أيام عدة على بداية العيد، لا يبدو مستغرباً أن يستمر الناس في تبادل التهاني والمعايدات، ويبقى سماع عبارة "كل عام وأنتم بخير" تتردد في الطرقات وبين المارّة، أمراً مألوفاً، ومعبّراً عن رغبة جميع السكان بالشعور بالفرح، وإن كان عابراً أو مؤقتاً.
خلال هذه الأيام، جال رصيف22، في مختلف المناطق بين عرسال والبقاع وطرابلس، ليرصد وجود العائلات في المنتزهات أو على جنبات السهول أو الشاطئ في محاولة منهم للاحتفال قدر المستطاع ووفق إمكانياتهم، كما استطلع نشاط عدد من الجمعيات والفرق المحليّة في إقامة الفعاليات وتقديم وجبات اللحوم من الأضاحي، في ظلّ الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يعيشها لبنان، والتي طالت بآثارها السلبية جميع ساكنيه من دون تمييز.
يبقى سماع عبارة "كل عام وأنتم بخير" تتردد في لبنان أمراً مألوفاً، ومعبّراً عن رغبة جميع السكان بالشعور بالفرح.
كرنفالات مشتركة
عشية عيد الأضحى، امتلأ سوق بلدة بر الياس بالمحتفلين، وهي البلدة التي شهدت وفود عشرات آلاف السوريين خلال السنوات العشر الأخيرة، الأمر الذي طبع العلاقات بين سكانها بطابع مختلف عن غيرها من البلدات اللبنانية.
وبمشاركة لافتة من سوريين ولبنانيين، نظّمت جمعية "شباب بتحب الخير"، مسيرةً كبيرةً في البلدة، ما زالت أصداؤها الإيجابية تتردد بين السكان حتى اليوم، إذ ردَّد المُشاركون تهاليل العيد مع مكبرات الصّوت، ورفعوا أعلاماً ومشاعل ومجسّماً للكعبة، وامتدّت المسيرة في كامل أحياء المنطقة. كما نظمت الجمعية خلال أيام العيد برامج ترفيهيةً تضمنت ألعاباً هوائيةً ورسماً على الوجوه للصغار وسوقاً تجارياً.
"حاولنا جاهدين أن ننقل فرحة العيد إلى كل بيت"، يقول علي جواد (24 عاماً)، واصفاً العيد في بلدة بر الياس.
ويضيف الشاب الذي يعمل في أحد المحال التجارية لرصيف22: "أخبرني صديقي عن نشاط تطوعي في شهر رمضان الفائت في إحدى الجمعيات في المنطقة، شاركتُ فيه، وكنّا نحو عشرين متطوعاً، خمسة منهم سوريون بمن فيهم أنا. أحببت الفكرة وصرت أبحث عن فرص مماثلة، فشاركت في فعاليات عيد الأضحى مع ‘شباب بتحب الخير’".
من احتفالات العيد في بلدة بر الياس - المصدر: مواقع التواصل
وضمن هذا السياق، يضيف جمال موسى، منسق الجمعية ومؤسس الفرقة الفلكلورية فيها: "نصف أعضاء الفرقة من السوريين. نعمل تحت شعار ‘التعامل مع الإنسان بإنسانيته’، واليوم مجتمعنا لا يقتصر على اللبنانيين، لذلك ننظّم فعاليات لمختلف أشكال التراث، ولا نستطيع أن نعمل على تراثنا فقط ونجبر الناس على الحضور ومتابعتنا، إذ ينبغي العمل على جميع المحاور لنستقطب كل المجتمع، وعلينا أن نعطي كل إنسان ما يحبه".
صناعة الحلويات
"منذ أن كنا في سوريا، اعتدنا على صناعة الحلويات الخاصة بالأعياد، مثل المعمول والأقراص، أو شراء الحلويات الجاهزة مثل البقلاوة، وحملنا معنا هذه العادات بعد نزوحنا إلى لبنان"؛ تقول زهرة حربا، وهي شابة سورية ثلاثينية، نزحت من محافظة حمص إلى لبنان قبل قرابة تسع سنوات.
لم تتردد شريحةً من اللبنانيين في التخلي بسهولة عن الشوكولا، واستبدلتها بصناعة الحلويات المنزلية، مثل أقراص المعمول المحشوة بالعجوة والفستق وجوز الهند، على الطريقة السورية
هذه السنة، بدا الوضع الاقتصادي المتردي الذي انعكس سلباً على القدرة على إعداد حلويات العيد، سمةً مشتركةً بين كافة سكان لبنان. "مع ذلك، لم نتوقف عن صنع الحلويات، لكن خففنا الكميات لتصبح محدودةً مع ارتفاع أسعار المواد وفقدان الطحين في البلد"؛ تضيف زهرة.
بدوره، يقول محمد (35 عاماً)، أحد سكان البقاع اللبناني: "لا يمكن أن يمرّ العيد من دون ضيافة الشوكولا، وهي الحلوى اللذيذة التي كان يفضّلها اللبناني على غيرها، لكن اليوم صار شراؤها يقتصر على شريحة معيّنة، يسميها أهل البلد ‘المرتاحة مادياً’، بسبب الأزمة الاقتصادية وتراجع قيمة الليرة اللبنانية مقابل الدولار".
ويضيف المتحدث أن شريحةً من اللبنانيين لم تتردد في التخلي بسهولة عن الشوكولا، واستبدلتها بصناعة الحلويات المنزلية، مثل أقراص المعمول المحشوة بالعجوة والفستق وجوز الهند، على الطريقة السورية.
وضمن هذا السياق، وتحت عنوان "كعك وإلفة"، نظمت مؤسسة "هاند" التي تعمل في مجال مساعدة المجتمعات اللاجئة في العالم العربي، نشاطاً لتحضير كعك العيد في أحد مخيمات عرسال برفقة سيدات سوريات وفي أجواء عائلية تحمل معها التراث السوري خلال الأعياد، ومن ثم توزيع الكعك على سكان عرسال تعبيراً عن الامتنان لحسن الاستضافة، وهي واحدة من الفعاليات العديدة التي نظمتها المؤسسة في مناطق وبلدات عدة تستضيف أعداداً كبيرةً من السوريين، بهدف خلق أجواء من البهجة خلال أسبوع العيد.
من فعالية "كعك وألفة" - المصدر: مواقع التواصل
كان لهذه الفعالية، وغيرها من الأنشطة المشابهة، صدى إيجابي لدى معظم سكان المناطق التي نُظّمت فيها، إذ خلقت جوّاً من الألفة، وأوجدت مساحةً مشتركةً للاحتفال بالعيد وفي الوقت ذاته التقارب بين الناس.
ملابس العيد ضرورة لا بد منها
في بلدة عرسال الحدودية التي استقبلت قرابة ثمانين ألفاً من السوريين خلال السنوات الأخيرة، امتلأت الساحة الرئيسية خلال أسبوع العيد بالناس المتنقلين من محل تجاري إلى آخر. تجد أمّاً وأطفالها، ومجموعةً من الفتيات اليافعات، وغيرهم، يملؤون المحال ويتأملون الألبسة. منهم من يشتري كنزةً أو بنطالاً أو فستاناً لصغيرته، ومنهم من يتأمل ويذهب. قطعة واحدة هي نصيب كلّ طفل في غالبية العائلات التي تقرر الشراء.
في لقاء مع رصيف22، يقول أبو عبد الله، وهو رجل سوري يملك محال تجاريةً عدة للألبسة في عرسال: "أعمل في هذه المهنة منذ أكثر من ثلاثين سنةً، ومن المعتاد بين العائلات السورية، أنّهم يشترون ثياب العيد لأطفالهم في العيد الصغير، أيّ عيد الفطر، ويحتفظون بها لعيد الأضحى، ونسبة المبيع لا تتعدى في هذا العيد العشرين في المئة من مبيعات العيد السابق. لكن بالرغم من الظروف التي يمرّ بها لبنان حالياً، يسعى الأهالي، سواء من السوريين أو اللبنانيين، لإدخال الفرحة إلى قلوب أطفالهم، كما تعمل بعض الجمعيات للمساعدة على ذلك".
ضمن مشروعنا الأخير، كانت لدينا فرصة لإدخال السعادة إلى العائلات اللبنانية والسورية، وفي الوقت نفسه زيادة التفاعل والتعاون بينهم، اللذين يؤديان في طبيعة الحال إلى تقوية التماسك الاجتماعي في المنطقة التي نعمل فيها
ويستكمل حديثه: "كلّنا أهالي ولدينا أطفال، وفي الوضع الراهن إذا ما خُيِّرنا بين شراء الملابس للعيد أو الحلويات أو طبخة اليوم، سنختار قوت يوم عائلتنا، ومع ذلك جميع الأهالي هنا يسعون إلى إرضاء أطفالهم".
توزيع الأضاحي
من أهم مميزات هذا العيد، تقديم الأضاحي وتوزيعها، خاصةً على العائلات الأكثر تهميشاً، وهي في ازدياد داخل لبنان يوماً بعد آخر، ولذلك تنشط جمعيات محلية عدة لتقديم الأضاحي لآلاف العائلات السورية واللبنانية، خاصةً تلك التي لا معيل لها، أو التي تضم أيتاماً، ومرضى، وذوي إعاقة.
يبدأ عمل هذه الجمعيات عادةً قبيل العيد، لجمع التبرعات وشراء الأضاحي وتنظيم قوائم العائلات المستفيدة، ومن ثم تنظيم عملية التوزيع، سواء داخل مقارّها أو ضمن المخيمات ذوات الكثافة السكانية العالية، مع الأخذ بعين الاعتبار الانقطاعات الطويلة للتيار الكهربائي هذه السنة، وتالياً ضرورة الحفاظ على اللحوم طازجة وفي حال جيدة صحياً.
من احتفالات العيد في البقاع اللبناني - المصدر: مواقع التواصل
في مقابلة مع رئيس مجلس إدارة جمعية "الإنماء والتجدد" اللبنانية علي اللويس، أشار إلى أهمية هذه المشاريع التشاركية، مثل مشروع الأضاحي، إذ تُشعر الناس بالاستقرار والأمان، وتقوّي التماسك بينهم. ويضيف لرصيف22: "ضمن مشروعنا الأخير، كانت لدينا فرصة لإدخال السعادة إلى العائلات اللبنانية والسورية، وفي الوقت نفسه زيادة التفاعل والتعاون بينهم، اللذين يؤديان في طبيعة الحال إلى تقوية التماسك الاجتماعي في المنطقة التي نعمل فيها (البقاع)".
وضمن هذا السياق، تقول صفاء، وهي أرملة سورية أربعينية تعيش في البقاع اللبناني: "ننتظر عيد الأضحى، حتى تدخل اللحمة إلى منزلنا. نحن في المنزل ثمانية أفراد، أنا وأولادي وابنتي وأطفالها، وبالكاد نؤمّن المواد الغذائية الرئيسية وبدل إيجار المنزل وفواتير الكهرباء".
تصف وفاء "مساعدة الأضاحي" التي حصلت عليها قبل يومين، بأنها بمثابة "الفرح لأطفالنا، كي نطهو شيئاً مميزاً، ونحتفل بشكل حقيقي بالرغم من غياب الفرح".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...