ليس خفياً على أحد رهاب البكالوريا (الشهادة الثانوية) في سوريا، وهذه السنة انتحر عدة طلاب بسبب التوتر النفسي الكبير من الامتحان الذي سيحدد لهم مستقبلهم. ولا بد من ذكر وضع صفوف البكالوريا في سوريا بشكل عام، فهي خالية تماماً من الطلاب، حيث يعتمدون على الدروس الخصوصية لأساتذة في كل المواد. وأقلّ تعرفة لأستاذ يعطي دروساً خصوصية هي بين 2000 إلى 3000 ليرة سورية، ويرزح الأهل تحت عبء مادي كبير، وبعضهم يأخذ قروضاً من البنك لتسديد أجرة الأساتذة الخصوصيين، والبعض يبيع أثاث منزله.
الوضع المخزي لصفوف البكالوريا
وزارة التربية والتعليم العالي تعرف تماماً هذا الوضع المخزي لصفوف البكالوريا في سوريا، وبعض طلاب البكالوريا يقصدون المعاهد الخاصة التي تتطلب مالاً غالباً ما يعجز الأهل عن تسديده، ومن غرائب الأمور أن هنالك أساتذة مختصين، ليس لشرح الدروس للطالب، بل لتحفيظه الدروس.
كم من طلاب اضطروا أن يدرسوا اختصاصات لا يطيقونها مجبرين بسبب المجموع الذي حققوه، وأهم مقومات النجاح والإبداع أن يدرس الطالب الاختصاص الذي يحبه
ما يعني أنه يوجد أساتذة لشرح الدروس وأساتذة للتسميع، وهذا الوضع الشاذ والخاطئ لصف البكالوريا في سوريا أصبح واقعاً. والغاية أن يحصل الطالب على علامات عالية تخوله دخول جامعة الدولة المجانية أو شبه المجانية، لكن دخول كليات، مثل الطب البشري، الهندسة، الصيدلة أو طب الأسنان، يتطلب مجموعاً عالياً، ولا تستطيع إلا قلة نادرة من الطلاب تحقيق هذا المجموع التام.
فلا خيار آخر أمامهم سوى الجامعات الخاصة فاحشة التكاليف، والتي لا يقدر على أقساطها إلا أصحاب الملايين، فالقسط السنوي لكلية الطب البشري أربعة ملايين ونصف المليون ليرة سورية، والقسط السنوي لكلية طب الأسنان هو ثلاثة ملايين، لذا صار التعليم الجامعي حسب رغبة الطالب حكراً على أبناء الأثرياء. فكم من طالب وطالبة خابت آمالهم وتحطمت معنوياتهم بسبب عدم قدرة أهلهم على إلحاقهم بجامعة خاصة.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن متوسط دخل المواطن السوري الموظف في الدولة هو بين 30 ألف و40 ألف ليرة سورية، ندرك استحالة أن يتمكن هؤلاء من إلحاق أولادهم بالاختصاص الجامعي الذي يرغبون. ولو سألت أي طالب بكالوريا في سوريا: "ماذا تريد أن تدرس؟"، لأجابك: "حسب مجموع علاماتي"، لأن الرغبة والميل مُغيبان تماماً في سوريا.
كم من طلاب اضطروا أن يدرسوا اختصاصات لا يطيقونها مجبرين بسبب المجموع الذي حققوه، وأهم مقومات النجاح والإبداع أن يدرس الطالب الاختصاص الذي يحبه.
وضع التعليم في سوريا سيئ، بل كارثي، وتتحمل الدولة، وخاصة وزارة التربية والتعليم العالي إصلاح هذا الخلل والوضع الشاذين. أين المفتشون التربويون في الدولة؟ ألا يجولون على المدارس ويجدون صفوف البكالوريا خالية من أي طالب؟ كيف يسكتون على هذا الفساد؟ ومدراء المدارس لماذا يتواطؤون مع الفساد ويصمتون تجاه ظاهرة خطيرة هي خلو صفوف البكالوريا من الطلاب؟
التعليم الجامعي في الجامعات السورية الحكومية
أما التعليم الجامعي في الجامعات السورية الحكومية فهو كارثي بدوره، إذ يفوق عدد الطلاب في بعض الاختصاصات 1500 أو 2000 طالب، ولا تتسع لهم قاعة في الجامعة، ولا تنتظر هؤلاء فرص عمل، وفي أحسن الأحوال إذا حصلوا على وظيفة يكون راتبهم بين 30 و40 ألف ليرة سورية، أي بالكاد يتمكن الموظف الجامعي من شراء الخبز. ويجب ذكر بعض الحقائق الهامة في الطاقم التعليمي.
قرار الدولة تعريب الطب في سوريا كان كارثيا، ولا أعرف من قام بتعريبه؟ وخاصة مادة التشريح، حيث أصبح اسم غضاريف الحنجرة "الغضروفين الطرجحاليين"
فقد درّس أستاذ جامعي مختص بالطب البيطري مادة التشريح في كلية الطب البشري لسنوات، وكان يخطئ أحياناً، وتفلت منه كلمات مثل "قانصة" و"قوصرة"، بينما طرد من الجامعة أهم أستاذ تشريح في كلية الطب البشري، بسبب موقفه السياسي المعارض، وحتى حين نجح في الحصول على عقد عمل في جامعة خاصة ليعيل أسرته، ضغطت الأجهزة الأمنية على الجهاز الإداري للجامعة الخاصة، وأنهوا عقد العمل الخاص بالأستاذ الدكتور المعارض للنظام، ولا تزال مادة القومية تدرس في الجامعة وبكل الاختصاصات.
حتى الدراسة الجامعية تفتقد لأهم عنصر وهو البحث العلمي؛ فحين كنت طالبة في كلية الطب، كنا ندرس المواد، من تشريح إلى مادة الجراحة إلى مادة الطب الباطني، على شكل نوط، وكل نوطة خاصة بأستاذ معين.
وكان بعض الأساتذة يحذفون لنا صفحات كثيرة من الكتب، مثل مادة الجراحة العصبية، حيث حذف لنا الأستاذ حوالي نصف الكتاب، ويومها تساءلنا: لو راجعنا مريض مصاب بمرض محذوف ماذا سنفعل؟ وكانت طاقاتنا الفكرية وجهودنا العقلية والحفظية تضيع في حفظ أسماء لا نحتاجها أبداً في حياتنا العملية؛ فعلينا أن نحفظ حوالي خمسين نقطة في عظم صغير كعظم الترقوة، وكلها نقاط لا تفيد الطالب بشيء، بل تهدر طاقاته سدى.
أما الكارثة الأكبر فكانت في قرار الدولة تعريب الطب، ولا أعرف من قام بتعريبه، وخاصة مادة التشريح، حيث أصبح اسم غضاريف الحنجرة "الغضروفين الطرجحاليين" ولا أعرف من أين اشتقت كلمة "طرجحالي"، وهل هي موجودة فعلاً في القاموس اللغوي العربي؟ وكنا نحفظ هذه المصطلحات المُعربة كما لو أننا نحفظ مصطلحات باللغة الصينية.
كم تضيع جهود الطلاب هدراً في سوريا، وكم يعاني الطلاب والأهل من رهاب البكالوريا، وتخيب أحلام ملايين الطلاب بدراسة الاختصاص الذي يرغبون
ذات يوم، وكنت مدعوة للمشاركة في احتفالية بمناسبة اليوبيل الذهبي لمجلة العربي في الكويت، وكانت الندوة عن الترجمة، وخاصة ضرورة أن تلحق اللغة العربية باللغات العالمية في ترجمة العلوم، انتهزت الفرصة وسألت الأستاذ القدير في علم اللسانيات، عبد الوهاب المسدي، عن معنى كلمة طرجحالي، ومن أين اشتق تعبير "الغضروفين الطرجحاليين" في الحنجرة؟ فأجابني بأنه لا توجد في اللغة العربية كلمة طرجحالي.
يمكنني أن أعطي مئات الأمثلة كهذا المثل، لأن تعريب الطب خاصة كان كارثياً في سوريا. كم تضيع جهود الطلاب هدراً في سوريا، وكم يعاني الطلاب والأهل من رهاب البكالوريا، وتخيب أحلام ملايين الطلاب بدراسة الاختصاص الذي يرغبون، لأن فاحشي الثراء وحدهم قادرون أن يدفعوا أقساط الجامعات الخاصة. أما شعار محاربة الفساد في سوريا، فلا يطال الجهاز التعليمي، وخاصة مأساة صفوف البكالوريا.
نُشرت نسخة أولى من هذا المقال في موقع العربي الجديد عام 2019
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نايف السيف الصقيل -
منذ 4 ساعاتلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ 4 أيامتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ 5 أيامحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أيامالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...
HA NA -
منذ أسبوعمع الأسف