شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!

"ونّاسة وحفّافة ودكّاكة"... نساء "القرباط" في سوريا مهن غريبة وظلم مجتمعي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الثلاثاء 26 أبريل 202205:49 م

ما تزال سمية، تراقب الطرقات بالكثير من الحسرة، وهي تتمنى العودة إلى مهنتها التي كانت تمارسها قبيل الحرب في سوريا، بالصعود إلى جانب أحد سائقي الشاحنات لتقص الحكايات أو تغنّي حتى وصوله إلى هدفه، ومن هناك تعود في رحلة مشابهة إلى حرستا في ريف دمشق، حيث كانت تعيش وأسرتها في خيمة مصنوعة مما تيسر من أقمشة، لتكون الخيام أشبه بأزياء نسوة القرباط، أو "النَوَر" كما يسميهم السوريون.

هذه المهنة ليس لها اسم لدى سمية، لكن السائقين كانوا يطلقون عليها تسمية "الونّاسة"، وهو اسم مشتق من اللفظة الشعبية في اللكنة السورية "وَنَس"، والتي قد يعود جذرها الفصيح إلى "الأنس".

الونّاسة

تخشى سمية من إمساكي الهاتف المحمول كي لا أصوّرها أو أسجل صوتها، لكون الأمر قد يتسبب لها بتعنيف شديد من زوجها أو أبيها.

تقول في حديثها إلى رصيف22: "كانت السفرية بمبلغ 300 ليرة إلى مدينة اللاذقية، وبمبلغ 500 ليرة إلى حلب شمالاً، ومن هناك أعود بمبلغ مماثل، ويقع على عاتق السائق تأمين وجبة طعام قد تكون ‘سندويش’، والسائقون عموماً يأكلون الكباب أو السودة وهي سندويشات لذيذة في الاستراحات".

الخوف أجبر القرباط على النزوح نحو المدن والاختباء تحت الأسقف الإسمنتية خشية الرصاص الطائش أو القذائف المتساقطة.

في كل مرة كانت تصعد فيها سمية، وهي في عمر الـ17 عاماً، إلى الشاحنات، كانت تتعرض للتحرش بالملامسة، وقد تقبل الأمر إن بدا لطيفاً وبأجر، وإلا كانت تستخدم "الموس الكبّاس"، أي السكين الصغيرة، لتدافع عن نفسها في وجه السائق الذي سيرتبك من فعلها وهو يقود الشاحنة. فلم تكن الفتاة تقبل بغير الغناء وسرد الحكايات والنكات التي يكون بعضها بذيئاً ليمتّع السائق ويضحكه، وغالباً ما كانت تأخذ "بقشيشاً"، إذا ما رضي الزبون عن خدماتها.

تلقّت سمية خلال رحلاتها، الكثير من عروض الزواج من قبل بعض السائقين، شرط ألا يتم تسجيله في المحاكم الشرعية، كما عُرضت عليها مبالغ مالية كبيرة آنذاك لتقبل بممارسة الجنس مع السائق في "كبين النوم"، الذي يشكل سريراً يقع خلف السائق مباشرةً، لكنها كانت ترفض بشدة، بحجة أنها "بكر وتخاف من أهلها"، لكنها وبـ"شيطنة بنت السابعة عشر"، وفقاً لتعبيرها، كانت تنزل من السيارة ومعها ألف ليرة كاملةً، مقابل السماح للسائق بلمس صدرها أو تقبيلها مرةً أو اثنتين خلال الرحلة.

لم نكن تعمل في هذه المهنة سوى الفتيات العزبات اللواتي يقدرن على الغياب عن الخيام طوال النهار، من دون التفكير في حاجة طفل إلى الرضاعة أو ما شابه، و"الشطارة" تُقاس بحجم العائد الذي يمكن جنيه في نهاية يوم العمل الذي قد ينتهي في ساعة متأخرة من الليل، برحلة عودة قد تتضمن التنقل من شاحنة إلى أخرى بين مدن عدة، وفي هذه الحال تمر "الونّاسة" بأكثر من زبون، ولا يزيد الأجر آنذاك عن 1،500 ليرة في أحسن الأيام (ما يعادل حينها 30 دولاراً، وأقل من نصف دولار في يومنا هذا).

يعيش القرباط في تجمعات تتراوح بين الصغيرة والمتوسطة، ولا تقتصر مهنهم على الغناء والرقص، فالرجال يشتغلون في صناعة السكاكين، وتبييض الطناجر النحاسية، وصناعة الأسنان من الذهب والفضة والعظم وتركيبها

غابت هذه المهنة عام 2012، تقريباً، بسبب الحرب، فالخوف أجبر القرباط على النزوح نحو المدن والاختباء تحت الأسقف الإسمنتية خشية الرصاص الطائش أو القذائف المتساقطة، كما أن حركة الشاحنات خفّت على الطرقات، وما يتحرك منها غير مضمون من حيث سلامة الوصول أو أخلاق السائقين، فـ"الناس تبدلوا كثيراً"، وفقاً لتعبير "الونّاسة" التي تحولت إلى "متسولة"، تعيل أسرةً من خمسة أطفال أنجبتهم خلال الحرب، وأكبرهم لا يزيد عمره عن التسع سنوات.

كنتُ "حفّافةً"... وجدّتي "دكّاكةً"

تدير ميسون -وهو اسم غير حقيقي على ما يبدو- شؤون أسرتها من التسوّل، فيما يعمل زوجها في نبش القمامة، وتقول السيدة التي يقارب عمرها الخمسين عاماً، إنها كانت تعمل "حفّافةً"، وتشرح لرصيف22، معنى الكلمة: "كنت أطوف على النساء لأعيدهن صبايا". وتبدأ العملية بترطيب الوجه بواسطة "دهن القطن"، أي الفازلين، ثم بخيط قطني تشكله بين أصابعها وأسنانها تعمل على "نتف" الشعر، أي نزعه، ورسم حواجب النساء بالاستعانة أيضاً بالملقط للشعيرات الصغيرة التي لم يطَلها الخيط، وتنتهي العملية بدهن الوجه بالفازلين ووضع شيء من الكحل العربي.

تشير ميسون إلى أن بعض النساء كن يرغبن في إزالة الشعر من كامل أجسادهن، ما عدا المناطق الحساسة، وكانت "العقيدة"، المصنوعة من السكّر المذاب مع قطرات من عصير الليمون، هي الأداة المستعمَلة، ولم تكن العملية تطول، فـ"المشعرة" أي السيدة الكثيرة الشعر، تحتاج إلى ربع ساعة لـ"تطلع من تحت أيدي تبرق برق"، في إشارة إلى مهارتها في ممارسة المهنة التي لم تعد متاحةً اليوم للقرباطيات، فـ"النساء اليوم يرغبن في الكريمات والصالونات والأدوات الكهربائية لإزالة الشعر"، وتقول ميسون: "يحببن دفع الكثير من النقود، كنت أتقاضى 25 ليرةً عن حف الوجه، و50 ليرةً عن الجسد كله".

بالإضافة إلى ذلك، فإن الوشم هو من أوائل المهن التي خسرتها نساء القرباط. تقول ميسون إن جدتها لأمها كانت "دكّاكةً"، وهي المرأة التي كانت تشم للنساء في قرى المنطقة الشرقية ما يردن على أجساد بناتهن.

تحكي لرصيف22: "كانت جدتي تحكي لنا عن تجوالها ومجموعة من النساء في القرى شرق سوريا، في أيام موسم القمح، ليشمن الفتيات الصغيرات مقابل المال أو كميات من القمح والشعير، وكن يستخدمن عدداً كبيراً من الإبر، وحبراً مصنوعاً من الكحل العربي والحليب، أو من رماد التنور الممزوج بالحليب".

كانت هذه المهنة محترمةً لدى نساء المنطقة الشرقية، لكونها تزيد من جمالهن، حتى أن اسم المهنة حضر في بعض الأمثال الشعبية مثل "دكّاكة وتدك لبنتها"، أي أن المرأة حين ستشم ابنتها ستكون حريصةً على أن يكون الوشم مثالياً.

أمي كانت حجيّةً

لم تعد ثمة مخيمات للحجيات على الطرقات، والمعنى الحرفي لهذه الكلمة هي مخيمات قرباط يقدم سكانها وجبات من اللحم المشوي للزبائن، وهم في غالبيتهم من سائقي الشاحنات أو سكان القرى القريبة، وزياراتهم تكون غالباً بحثاً عن التمتع بغناء القرباطيات ورقصهن.

لم تعد ثمة مخيمات للحجيات على الطرقات في سوريا.

تحكي عبير (وهو أيضاً اسم مستعار)، أن والدتها كانت "حجيّةً" في صباها، وكان الزبائن يؤمّون خيمتها من كل حدب وصوب للتمتع بأمسية تمتزج فيها رائحة الشواء مع صوت البزق والمهباج، ومن يعزف يكون غالباً زوج الحجيّة أو أحد إخوتها، ولا مكان للدعارة في تلك الخيام، وإن كان بعض الزبائن يقدمون على أفعال مثل الحصول على قبلة من خدها أو مداعبة مؤخرتها، والحجيّة التي تكتسب شهرةً لفرط جمالها أو غنجها في الرقص تساهم في زيادة دخل عائلتها، فالزبائن سيأتون حتى من القرى البعيدة، ولا ينتهي عمر الحجيّة المهني إلا إذا أصيبت بالبدانة المفرطة، أو ورثت عنها ابنتها المهنة.

لم تعد هذه المهن حاضرةً منذ بداية الحرب، وغياب أي مهنة يحيل نساءها إلى ممارسة المهنة التي تحولت إلى وصمة في حق القرباط، ترافقهم أينما حلّوا وإن لم يمارسوها، وهي التسوّل، كما أن المرويات الشعبية تلصق بهم تهماً مثل خطف الأطفال والسرقة والدعارة، من دون أي دليل، ويشتكي القرباط أيضاً من رفضهم مجتمعياً من قبل سكان القرى التي يحلّون بالقرب منها.

روايات متعددة

يعيش القرباط في تجمعات تتراوح بين الصغيرة والمتوسطة، ولا تقتصر مهنهم على الغناء والرقص، فالرجال يشتغلون في صناعة السكاكين، وتبييض الطناجر النحاسية، وصناعة الأسنان من الذهب والفضة والعظم وتركيبها، ناهيك عن عمل بعضهم في تجبير الكسور وختان الذكور بطرق بدائية، ولهم لغة تُعرف باسم "الدومرية"، وآخرون يسمّونها "لغة العصفورة"، وهي من اللغات غير المكتوبة، فمن غير المعروف إن كان لها حرف أو نصوص سرية متداولة في مجتمعهم الذي يتصف بالانغلاق، علماً أن بعضهم عاشوا في مناطق قريبة من القرى والبلدات الكردية شمال سوريا، ما تسبب في إتقان عدد منهم اللغة الكردية.

لم نكن تعمل في هذه المهنة سوى الفتيات العزبات اللواتي يقدرن على الغياب عن الخيام طوال النهار، من دون التفكير في حاجة طفل إلى الرضاعة أو ما شابه، و"الشطارة" تُقاس بحجم العائد الذي يمكن جنيه في نهاية يوم العمل الذي قد ينتهي في ساعة متأخرة من الليل

هناك روايات متعددة حول أصل القرباط في سوريا، كتعدد الأسماء التي تُطلَق عليهم، فتعاد تسمية "النَوَرْ"، التي ليس لها مرجع دقيق وموثق، إلى كونها لفظاً محرّفاً عن كلمة "نور"، أو "الأنوار"، كنايةً عن جمال النساء منهم، وهناك رواية تقول إنهم من نسل قبيلة ربيعة العربية، ومن أحفاد جساس بن مرة البكري.

وتسمية "الزط"، ترتبط برواية ترجعهم إلى أصول هندية، وتقول إنهم مجموعة من القبائل التي هُجّرت من الهند بفعل تعرضها للعنف من قبل الممالك البوذية نتيجة اعتناقهم الإسلام، فحلّوا في جنوب العراق وكان العرب يسمّونهم الزطّ" من دون وضوح السبب، إلا أن ذلك لم يمنع القبائل العربية من احتضانهم والتحالف معهم، وحصلوا في البداية على حقوق مساوية لبقية المسلمين، لكن وضعهم المعيشي كان سيئاً، فاعتمد بعضهم على اللصوصية.

وتتحدث روايات أخرى عن انضمام مهمَّشين آخرين إليهم، وخروجهم في ثورة يعرّفها المؤرخون باسم "ثورة الزط"، قرابة العام 820 ميلادي، وفي ظل تزايد قوتهم قرر الخليفة المعتصم القضاء عليهم، ونفاهم إلى الأناضول، ثم نُقِلوا قسراً إلى منطقة "جبل كوربات" في رومانيا الحالية، وبعد احتلالها من قبل العثمانيين، عاد الزط إلى الشرق الأوسط حاملين اسم "قرباط".

كل ما تقدّم من روايات لا يرحم القرباط من الصورة النمطية التي يتعامل من خلالها غالبية السوريين معهم، فهم متهمون بالعديد من الممارسات الخارجة عن القانون، وغالباً ما يقال إنهم شكلوا ثروات ضخمةً خلال سنوات عملهم في التسوّل ومهن أخرى.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard