لقرون كان صبغ الشعر يعد أمراً حيوياً في مساعدة الناس على الترويج لصورة معينة، قد تتناسب مع معايير الجمال السائدة أو تقلبها رأساً على عقب.
وبالرغم من أن المصريين القدماء كانوا من أوائل الأشخاص الذين استخدموا الصبغة والحنّة على شعرهم الرمادي، فقد تم اللجوء إلى لون الشعر الطبيعي أيضاً بعد سنوات في اليونان القديمة وروما، حيث قام الناس باستخدام مستخلصات نباتية مختلفة لتعديل لون شعرهم.
في روما القديمة، كان الأسود هو الخيار الأول في عملية صبغ الشعر، ولكن بعد سنوات طويلة، قدّم اليونانيون والرومان المزيد من خيارات الألوان التي كانت بمعظمها تعبر عن مكانة اجتماعية، فخلال الإمبراطورية الرومانية مثلاً، كان يُطلب من النساء اللواتي يعملن في مجال الدعارة صبغ شعرهنّ باللون الأشقر، وبينما كان العديد منهن يضعن الشعر المستعار، فقد استخدمت الأخريات مزيجاً نباتياً لتفتيح لون شعرهنّ الطبيعي.
أما خارج هذه الإمبراطوريات القديمة، فقد لجأت حضارات أخرى إلى صبغ الشعر في ساحة المعركة كوسيلة لإخافة العدو.
الصبغة..."سلاح" بيد النساء
لطالما حاولت النساء، على وجه الخصوص، التوافق مع فكرة أن الجمال الأنثوي يظهر جلياً مع الشعر اللامع، سواء أكان أشقر، أسود أم رمادياً، وفق الزمان والمكان.
في مقابلة أجراها موقع سي إن إن مع كاترينا جانتيلي، طالبة دكتوراة من مركز أبحاث المظهر في إنجلترا، أوضحت أنه على "مدار التاريخ، كانت حالة شعرنا بمثابة إشارة بصرية فورية لتقدير القيمة"، وكشفت أنه في العقود الأخيرة، أصبحت منتجات تلوين الشعر أداة أساسية بيد المرأة، لتبقى محط أنظار الآخرين ولتحميها من أكبر الوصمات التي تلاحقها: الشيخوخة.
ولكن كيف كانت تتم عملية صبغ الشعر؟
في البداية كان صبغ الشعر يتم من قبل الرجال والنساء على حد سواء، لتحسين المظهر وإخفاء الشعر الأبيض، بحسب ما جاء في كتاب Encyclopedia of Hair: A Cultural History لفيكتوريا شيرو، الذي تحدثت من خلاله عن الطرق التي استخدم بها الشعر كدلالة على الطبقة والجنس والعرق والتوافق أو عدم التوافق مع السلطة عبر التاريخ، مع التطرق لأمثلة عديدة، بما في ذلك قصات شعر الملوك والملكات، الباروكات التي يرتديها المشرعون والقضاة، تسريحات الشعر الاحتفالية للقبائل في جميع أنحاء العالم، تسريحات شعر السيدات الأوائل، تسريحات المشاهير والنساء اللواتي كن يحلقن رؤوسهن لتخريب التنميط الجنساني، صناعة العناية بالشعر والأمراض والاضطرابات المتعلقة بالشعر...
واللافت أن الحضارات القديمة كانت تلجأ لتلوين الشعر عبر طرق بدائية، مثل استخدام لحاء الكاسيا، الكرّاث، ديدان العلق، البيض المشوي والحنة التي لا تزال شائعة الاستخدام في أنحاء الشرق الأوسط والهند، ناهيك عن صبغ الشعر بغبار الذهب.
وفي حين فضل الإغريق القدماء الظلال الذهبية والذهبية الحمراء المرتبطة بأفروديت، إلهة الحب والصحة والنضارة، فقد اختارت اليونانيات من الطبقة الراقية والرومانيات اللواتي يعملن في مجال الدعارة اللون الأشقر الذي كان مرتبطاً بالشهوانية.
والمفارقة أن صبغ الشعر لم يبدأ بالتحول إلى عادة يغلب عليها الطابع الأنثوي إلا في العصور الوسطى في أوروبا.
كانت الحضارات القديمة تلجأ لتلوين الشعر عبر طرق بدائية، مثل استخدام لحاء الكاسيا، الكرّاث، ديدان العلق، البيض المشوي والحنة التي لا تزال شائعة الاستخدام في أنحاء الشرق الأوسط والهند، ناهيك عن صبغ الشعر بغبار الذهب
وكانت مواد تفتيح الشعر المصنوعة من الزهور والزعفران وكلى العجل رائجة بشكل خاص، على الرغم من أن الروم الكاثوليك ربطوا بين الشعر الأشقر والفساد الأخلاقي، بينما انتشرت في عهد إليزابيث الأولى، ملكة إنجلترا، في القرن السادس عشر، الصبغة الحمراء التي غالباً ما يتم صنعها عبر مزج الزعفران مع مسحوق الكبريت الذي يمكن أن يؤدي لنزف في الأنف وصداع.
أما في القرن الثامن عشر، فقد فضلت طبقة النخبة الأوروبية البودرة المعطرة البيضاء والباستيل المصنوعة من دقيق القمح، واللتين يتم وضعهما بشكل خفيف على الشعر الطبيعي والشعر المستعار.
وعلى الرغم من أن معظم صبغات الشعر كانت تتكون من نباتات ومنتجات حيوانية، فإن تطور هذه الممارسة شهد أيضاً استخدام طرق خطيرة ومميتة لتغيير لون الشعر، كاستخدام أمشاط الرصاص لتغميق الشعر أو حمض الكبريت لتفتيحه، فقد اعتبر الشعب المصري القديم مثلاً أن الشعر الداكن يعكس جمالاً خلاباً، ولم يأبهوا لصحتهم، بل استخدموا صبغة شعر تعتمد على الرصاص لتلوين خصلات الشعر باللون الأسود الداكن.
والواقع أنه لم تظهر صبغة الشعر كمادة كيميائية بألوان قوس قزح، يتم شراؤها من المتجر أو وضعها في الصالون، حتى بداية القرن العشرين.
ففي العام 1907، استخدم كيميائي فرنسي يُدعى أوجين شويلر، بارا فينيلين ديامين (PPD)، وهي مادة كيميائية تم اكتشافها في القرن الماضي، لأول صبغة اصطناعية في العالم، أطلق عليها اسم "أوريال".
وبعد عامين، أسس شويلر شركة حملت اسمFrench Harmless Hair Dye Company بهدف التخفيف من مخاوف الناس من استخدام ألوان الشعر المصنعة، وفي العام 1909، قرر تغيير الاسم إلى "لوريال".
القلق من الشيخوخة
خلال العقود الأولى من القرن العشرين، كانت النساء خائفات من مستحضرات الصبغة التجارية، بحيث كانت تعتبر ملونات الشعر الكيميائية غير آمنة، كما أن استخدامها يعكس صورة سيئة: ففي العصر الفيكتوري كان يُنظر إلى تلوين الشعر على أنه شيء تفعله النساء "التافهات"، وليس ربات البيوت المحترمات.
وفي الأربعينيات من القرن الماضي، وبالرغم من أن اتجاه الجمال هذا بات أكثر شيوعاً، إلا أن الصالونات وفرت مداخل خلفية للزبائن الذين لم يرغبوا بالكشف عن عاداتهم لجهة صبغ الشعر.
كان يُنظر إلى تلوين الشعر على أنه شيء تفعله النساء "التافهات"، وليس ربات البيوت المحترمات
وبهدف توسيع الانتشار في السوق، قررت بعض شركات التجميل الاستفادة من قلق الناس بشأن الشيخوخة وبيع الصبغات كوسيلة لتغطية الشعر الرمادي، وهو أمر ركز عليه إعلان بالأبيض والأسود لشركة لوريال الفرنسية، في عشرينيات القرن الماضي، فأظهر امرأة حزينة المظهر بجانب صورة مبتسمة مع شعر أسود قصير، مرفقة بعبارة كتبت بالإنجليزية مفادها: "لا شعر أبيض بعد اليوم، مظهر الثلاثينيات للأبد".
وفي السياق نفسه، أقامت كليرول حملة إعلانية في العام 1943، حملت عنوان "الشعر الأبيض- ديكتاتور عديم الرحمة"، جاء فيها: "يمكن للشعر الرمادي أن يحكم حياتك دون أي عدالة أو شفقة... يمكن أن يملي عليك أشياء تقولينها أو تفعلينها، فلا عجب أن ترفض نساء أخريات مسامحة هذه الطاغية".
في هذا الصدد، قالت كلير روبنسون، مؤلفة Grey is a Feminist Issue، إن الضغط على النساء للمحافظة على لون شعرهنّ مع تقدمهن في العمر، كانت الحيلة التسويقية التي جعلت صبغ الشعر أمراً رائجاً كاستخدام الصابون"، وأضافت أنه تم اللعب على وتر الإحساس بعدم الأمان والشك الذاتي.
التعبير عن النفس
من المتوقع أن تبلغ قيمة السوق العالمي لصبغات الشعر بحلول العام 2025، حوالي 28 مليار دولار، مع زيادة بنسبة 8% عن قيمتها المقدرة البالغة 17.8 مليار دولار في العام 2019، ما يشير إلى استمرار الطلب القوي على منتجات صبغ الشعر.
ومع ذلك، لا تظهر هذه الأرقام اتجاهاً صغيراً ومتزايداً بين النساء لاحتضان خصلاتهنّ الطبيعية، بما في ذلك اللون الرمادي، كموقف بوجه التوقعات التقليدية بين الجنسين، إذ لم يعد صبغ الشعر يتعلق فقط بإخفاء العيوب، بل بقلب المثل العليا واعتماد خيارات جريئة.
سواء أكان لون الشعر رمادياً أو أخضر ليموني، فإن الإقدام على صبغ الشعر عبر اختيار لون خارج عن المألوف، يبقى بالنسبة للعديد من الناس "شكلاً من أشكال التعبير عن الذات"
والواقع، إن عملية صبغ الشعر لم تعد تتمحور فقط على مسألة المظهر الطبيعي، بحيث أصبحت الصبغات الغامقة وألوان قوس قزح الممتدة من الوردي والفيروزي والبنفسجي، موضة شائعة في أوساط الشابات وحتى الشبان في أنحاء العالم، كما بدأت بالظهور موضة صبغ شعر الإبط بألوان فاتحة، لاسيما من قبل الممثلة والمغنية الأميركية مايلي سايروس.
وعن هذه النقطة، قالت روكسي جين هانت، متخصصة في الصبغات بألوان قوس قزح، إن هذا النهج الجديد وسيلة لإظهار الخيار الشخصي والتلاعب بالهوية: "تشعر الكثير من النساء برغبة في التميز وليس الاندماج".
في الختام، سواء أكان لون الشعر رمادياً أو أخضر ليموني، فإن الإقدام على صبغ الشعر عبر اختيار لون خارج عن المألوف، يبقى بالنسبة للعديد من الناس "شكلاً من أشكال التعبير عن الذات".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...