كشفت الحرب الروسية الأوكرانية التي اندلعت في شباط/ فبراير 2022، عن نقاط ضعف السوق الدولية في مجال الطاقة، وبالأخص في القارة العجوز، التي اتجهت أنظارها نحو البلدان العربية، وبالأخص في القارة الإفريقية والبلدان المغاربية، إذ تسيطر الجزائر وليبيا ونيجيريا ومصر على 87 في المئة من إجمالي إنتاج قارة إفريقيا.
تحتوي منطقة شمال إفريقيا على أكبر احتياطيات الغاز، إذ تبلغ نسبتها 48 في المئة من إجمالي احتياطيات القارة السمراء التي أصبحت محط أنظار أوروبا التي تريد استبدال الغاز الروسي بمصادر جديدة تمنعها من مفاجأة شتاء بلا مصادر طاقة، إذا ما استمر النزاع مع روسيا التي تهدد بوقف إمدادات الغاز.
توفر الحرب الروسية على أوكرانيا فرصة هامة للدول العربية لتطوير صادراتها من الغاز والحصول على مداخيل هامة من انفتاح الأسواق الأوروبية على منتجعها "الثمين"
يؤكد الباحث التونسي محمد إدريس، أن أوروبا بدأت بطرق أبواب ليبيا والجزائر ومصر أيضاً مع طول أمد الحرب الروسية الأوكرانية وتأثيراتها، وستحقق البلدان مكاسب كبيرةً بكل تأكيد، لكنها تبقى نسبيةً، ومن الممكن للجزائر، بشكل خاص، أن تستفيد بشكل كبير من حرب أوكرانيا، إذ هناك طلب أمريكي أوروبي من الجزائر لزيادة عمليات إنتاج الغاز وتصديره إلى أوروبا. يُضاف إلى هذا، أن هناك اتفاقاً جزائرياً مع روما على رفع صادرات الجزائر إلى إيطاليا، لكن بحسب إدريس فإنه ليس في مقدور الجزائر تغطية تقلص الصادرات الروسية من الغاز إلى كل الدول الأوروبية.
مصائب قوم عند قوم فوائد
مع بداية الأزمة الروسية الأوكرانية، كان يُعتقد أن "العملية الخاطفة" من جانب موسكو مع فرض عقوبات مؤقتة عليها، لن تؤثر على السوق الدولية للمحروقات ومعها الاقتصاد العالمي، ولكن ما حدث هو العكس بحسب الباحث التونسي محمد إدريس، الذي أكد خلال حديثه إلى رصيف22، أن طول أمد الصراع جاء بخسائر فادحة تضررت منها أوروبا بالأخص في مجال الطاقة. لكنّ هذه الأزمة، بدت كأنها انعكاس للمثل الشهير "مصائب قوم عند قوم فوائد"، إذ أصبح الملعب الآن مفتوحاً أمام مجموعة من الدول العربية، وبالأخص الدول المنتجة للغاز، من أجل الاستثمار وجني أرباح حقيقية من ثرواتها الطبيعية، بعد سنوات من تقلص عائدات المبيعات الطاقية.
في السياق ذاته، يقول الباحث في الشؤون الدولية والعلاقات الروسية الأوروبية، باسل الحاج جاسم، إن التوتر بين روسيا وأمريكا اليوم يضع الدول العربية أمام فرص وقيود أيضاً. تكمن الفرص في كسر أحادية القطب، التي تعمل روسيا حسب قوله على كسرها، من بين أهداف أخرى كثيرة معلنة، لما أطلقت عليه "العملية العسكرية الخاصة" في أوكرانيا.
وأضاف الحاج جاسم، في حديثه إلى رصيف22: "كما هو معروف حتى الآن، معظم الدول العربية أخذت موقف الحياد من هذا التوتر، وكذلك لم تنضم إلى العقوبات الغربية على روسيا، لكن طول أمد هذا الصراع سيجعل من الصعب على الكثير من الدول الاستمرار في الجلوس على كرسيين في آن واحد".
هذه الأزمة، بدت كأنها انعكاس للمثل الشهير "مصائب قوم عند قوم فوائد"، إذ أصبح الملعب الآن مفتوحاً أمام مجموعة من الدول العربية، وبالأخص الدول المنتجة للغاز، من أجل الاستثمار وجني أرباح حقيقية من ثرواتها الطبيعية، بعد سنوات من تقلص عائدات المبيعات الطاقية
وقد تكون هناك فائدة اقتصادية للدول المغاربية المصدرة للطاقة من خلال ارتفاع أسعار النفط والغاز، لكن هناك عقبات كثيرةً تقف عائقاً أمام تبوّئها هذه المكانة، ولتصبح مصدراً بديلاً للغاز الروسي إلى أوروبا، وذلك بسبب ارتفاع تكلفة تطوير البنى التحتية اللازمة، وعدم توفر الكميات والبنى التحتية، كما أنه من المستبعد أيضاً أن تسكت روسيا عن أي دولة تحاول الدخول و"المضاربة" على أسواقها في قطاع الطاقة.
على أرض الواقع، قامت أوروبا باللهث وراء الغاز من بلاد المغرب العربي، ففي الجزائر وافقت شركة "إيني" الإيطالية على شراء كميات إضافية من الغاز الجزائري ومراجعة أسعار الغاز، بما يزيد مشترياتها من شركة الطاقة الحكومية الجزائرية "سوناطراك"، بنحو 9 مليارات متر مكعب إضافية سنوياً خلال عامي 2023 و2024، أي ما يعادل 12 في المئة من استهلاك روما من الغاز العام الماضي، بينما تبلغ الاحتياطيات الجزائرية من الغاز ما يقرب من 2،400 مليار متر مكعب، وتسهم في توفير نحو 11 في المئة من الغاز المستخدم في أوروبا، في مقابل 47 في المئة للغاز الروسي.
من جهته، يرى إدريس أن هناك بكل تأكيد تنسيقاً ضمنياً بين الجزائر وروسيا إزاء عمليات زيادة إنتاج واردات الغاز إلى إيطاليا، خاصةً أن الجزائر لن تضحّي بمصالحها الممتدة منذ عقود وتعاونها مع موسكو في مجالات مختلفة أبرزها التسليح والغذاء.
أما موريتانيا، فقد دخلت دائرة الاهتمام الأوروبي بعد الإعلان عن اكتشافات كبيرة من الغاز الطبيعي والغاز المسال، وقدّرت نواكشوط الاحتياطيات المكتشفة بأكثر من 100 تريليون متر مكعب، كما أكدت أنها أكملت مخططات استغلال حقولها الخالصة منه، وأبرزها حقل "السلحفاة أحميم" المشترك مع السينغال، وهذا ما يفتح الباب أمام استفادة مشتركة، إذ يرى مستشار قطاع الأعمال والعلاقات الدولية، تيمور دويدار، أن النقص في واردات الغاز إلى الاتحاد الأوروبي لا تستطيع دولة وحدها أن تسدّه، كما أنه مع حلول الخريف القادم سيكون هناك تغيّر كبير في العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وروسيا الاتحادية.
ويتوقع تيمور دويدار، في تصريحه لرصيف22، "ألا يكون هناك تغير جذري في صادرات الدول العربية النفطية إلى المناطق الأوروبية في القادم من الأوقات، وقد تكون هناك استفادة عربية تكنولوجية، وفي مجال البيئة ومعالجة النفط والعلوم وقطاع التسليح والقطاع العسكري من الغرب الأوروبي وأمريكا خلال الخلاف الروسي الأمريكي الذي لن يدوم طويلاً"، بحسب رأيه.
وتابع قائلاً: "تبقى مشكلة الغذاء أحد أهم الانعكاسات السلبية وأكثرها تأثيراً على أمن دول العالم أجمع، بينما تملك روسيا وأوكرانيا مجتمعتين نحو 30 في المئة من صادرات القمح والذرة عالمياً، ولذلك نجد أن الدول العربية تتعامل بذكاء شديد وتدير معركة الاستفادة من المعسكرين الروسي والغربي".
مصر وليبيا... لاعبون في انتظار "الكعكة"
وقّعت مصر وإسرائيل والاتحاد الأوروبي في شهر حزيران/ يونيو 2022، مذكرة تفاهم وصفتها الأطراف الثلاثة بالتاريخية، لتصدير الغاز الطبيعي الإسرائيلي إلى أوروبا عبر مصر، بينما صدّرت مصر 8.9 مليارات متر مكعب من الغاز الطبيعي المسال العام الماضي، و4.7 مليارات متر مكعب في الأشهر الخمسة الأولى من 2022، وفقاً لبيانات رفينيتيف أيكون، وإن كانت غالبيتها تذهب إلى السوق الآسيوية.
عن تلك الاتفاقية والتوجه الأوروبي، يقول الباحث الاقتصادي في مركز فاروس للدراسات، حسام عيد أبو نعمة: "بموجب مذكرة التفاهم ستتمكن مصر من شراء بعض الغاز المنقول إلى الاتحاد الأوروبي أو إلى دول أخرى عبر البنية الأساسية المصرية حسب ما ذكرت الوثيقة التي قالت أيضاً إن في إمكان مصر استخدام هذا الغاز محلياً أو تصديره".
تشير التقديرات إلى أن الدول المستهدفة، بما فيها ليبيا، لن تعوّض الانقطاع الكامل للواردات الروسية التي بلغ مجموعها نحو 130 مليار متر مكعب عام 2021، وإن كانت ستوفر بعض التعويض لأوروبا التي تواجه نقصاً في الإمدادات، وهي التي تعتمد على نحو 40 في المئة من حاجاتها من الغاز الطبيعي، و30 في المئة من حاجاتها من النفط من روسيا، وسط ندرة البدائل التي يسهل الاستناد إليها.
بالنسبة إلى ليبيا، التي بلغ إنتاجها من الغاز 853.1 ملياراً خلال العام 2018، وذلك استناداً إلى الإحصاء الرسمي الأخير الذي أصدرته مؤسسة النفط حول صادراتها من النفط والغاز، لكنه تقلص بعدها بسبب تداعيات جائحة كوفيد19 والأزمة السياسية في البلاد، فإن الآمال كبيرة بعودة السكة إلى طريقها والاستفادة ولو جزئياً من التحولات الدولية، لضخّ موارد مالية جديدة في الصناديق السيادية لبلد يعاني بدوره من انقسام داخلي لسنوات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...