كنت مضطراً كمحرر أن أقسّم من أعمل معهم من كتاب إلى فئات، هناك أولاً الدائمون: الذين ينشرون بصورة دورية أو شبه دورية، أو "الثقات" الذين لا داعي للنقاش معهم حول الفكرة بل يكفي تركهم على راحتهم. ثانياً أصحاب المزاج: يكتبون متى هبط عليهم الوحي أو احتاجوا للنقود. هاتان الفئتان هما الأقل إجهاداً، لأن النص بالنسبة لهم عمل يرتبط بالفضاء العام وما يحدث ضمنه. يقارنون ويقرأون ويعزّ عليهم أن يكون نصهم أقل من المطلوب، لأنه مرتبط باسم الواحد منهم، هو رأسمالهم، ومكان لإبراز قدراتهم.
هناك نوع ثالث سبب ظهوره أن الصحيفة أو الموقع الإلكتروني مفتوح أمام الجميع (لا مشكلة أبداً في ذلك، بل هو جزء من عمل الصحافة) ويجب نشر عدد محدد من المقالات أو النصوص، ما يؤدي إلى ازدهار النوع الثالث، الذي إما يرسل اقتراحات أو مقالات جاهزة أو يتم تكليف شخص بالكتابة عن موضوع ما لأسباب لن نخوض بها.
هذه الفئة أشبه بصندوق باندورا، أو وادي الملوك، مساحة مليئة بالمومياوات التي لابد من تحسينها وترميمها وجعلها قابلة للعرض، قليل منها ما يكون مذهّباً وجاهزاً ليوضع أمام أعين الناس. تصل نصوص تترك المحرر أمام خيارين، إما الشتم، أو الصمت والعمل. والعمل هنا يعني العمل من مكان يشابه الصفر، هيكل عظمي لا بد من إعادة كسوه باللحم والجلد. ولا أحاول هنا الحديث عن الأسلوب، أو الأخطاء اللغوية، بل الموضوع نفسه، سواء كان راهناً -وهو العرف الصحفي- أو مضى عليه الوقت، ويحاول الكاتب إعادة النظر فيه، أو تقديمه بصورة أخرى.
تصل نصوص تترك المحرر أمام خيارين، إما الشتم، أو الصمت والعمل. والعمل هنا يعني العمل من مكان يشابه الصفر، هيكل عظمي لا بد من إعادة كسوه باللحم والجلد... يوميات محرر صحفي شبح
أحاول أن أشرح هذه العوامل والضرورات لأن ما يحصل هو التالي، أجد نفسي أمام كم من النصوص المختلفة "مقالات، تحقيقات، مقابلات... الخ"، بعضها يثير الغثيان لأنها تنتمي إلى زمن خارج زمننا هذا، أو خاطرة عابرة يرى صحابها فيها قيمة ما، أو، وهي الحالة الأكثر انتشاراً، مقال يتمحور حول حدث أو قضية صاحبها متأخر في متابعتها أو تحولاتها، ولم يبذل عناء البحث، بل اقتنع بأن أفكاره التي تبدو "أوريجينال"، دون أن يأخذ بعين الاعتبار أنها ليست إلا تكراراً لما كتب سابقاً.
مثال حي ومنظف
يصلني مقال مثلاً عن "صور المشاهير وأثرها على المجتمع"، الموضوع مثير للاهتمام، الفكرة بحد ذاتها قديمة قدم التاريخ، من صور راقصات المعبد حتى نجمات الإنستغرام، هنا عليّ أن أتخذ قراراً بعد قراءة المقال، هل أقبل النشر أم لا؟ القبول دائماً متعلق بالنوعيّة وبالضرورة، النوعية يتم التنازل عنها على حساب الضرورة، لابد من نشر التحضير لنشر شيء، فأقرّر: نعم، ويرسل البريد الإلكتروني التالي: "تحياتي، شكراً لكم على المقال، سنقوم بتحريره ونشره، مودتي".
أعيد القراءة مستعداً للتحرير، أفاجأ بداية أن المقال يبدأ بحكم أخلاقي عن التصوير وكيف حرّمه الإسلام لكنه موجود الآن، وكيف أن صور المشاهير ليست إلا ترويجاً لأخلاق متدنيّة "لا تلائم المجتمع". أحذف هذا المقطع وأحاول بعدها استنباط الأفكار التي طرحها الكاتب دون النقاشات حولها. مثلاً هكذا مقال "متخيّل" يبلغ طوله 900 كلمة أستخرج التالي احتراماً للكاتب:
- الإنستغرام أتاح للجميع أن ينشر صوره دون رقابة.
- صورة المشاهير مزيفة وتخضع للتعديل مع مثال.
- علينا ألا نصدق ما نراه، لأن المشاهير كذبة ولا يقفون مع القضايا العدالة دائما ويوظفون ظهورهم سياسياً.
ما إن يتدخل المحرر في صلب النص وينسفه، حتى يأخذ مكان الكاتب
أحذف أيضاً الوصف المتعلق بالصور كونها موجودة ويمكن للقارئ مشاهدتها، كما أحذف الأحكام الأخلاقيّة والدينيّة وغير الملائمة سياسياً كونها وليدة عقلية الكاتب لا شرط العصر، كذلك أحذف الأمثلة غير الدقيقة، لأن الكاتب لا يشير إلى علاقة الفنان مع السياسة والفضاء العام، بل يوزع التهم مباشرة دون دلائل سابقة. ينتهي الأمر بأني أمام الأفكار الثلاث، التي لا تتحدث مع بعضها ولا تشكل مرايا لبعضها البعض.
أنا الآن أمام فكرة جيدة، وثلاث أفكار فرعيّة، العقبة الأولى أني إما سأعيد كتابة هذه الأفكار وأحذف اسم الصحفي، أو (وهي الحالة المثيرة للاهتمام) البعض لا يمانع، يرى أن النص لا يعود إليه، مع ذلك يحافظ على اسمه بالرغم من نسفي لـ80% مما كتب.
أتحير حينها، كيف أجعل المقال راهناً مع الحفاظ على "أفكار" الصحفي؟ هذه العملية على الكاتب نفسه أن يقوم بها، لا أنا، وذلك ليغلق الباب بوجه تدخلاتي. أبحث عن صورة على الإنستغرام أثارت إشكالية، وأقارنها مع أخرى انتشرت بسخف، لأشير إلى أن حرية تبادل الصور سيف ذو حدين، فيها المبتذل وفيها القيم.
أنتقل بعدها للتعديل الرقمي. أشير أنه تقنية قديمة عبر مثال من التاريخ. وأستثني الحكاية المشهورة عن ستالين وحذفه لصور رفاقه، كونها لم تعد "جديدة" وتحفز المخيلة. أختار مثلاً التعديل على صور نيكولا ساركوزي وزوجته عارضة الأزياء. أحاول أن أبين أثر التعديل الجمالي على السياسة. أختار بعدها من صور انتشرت للسيسي وأعضاء من حكومته يقدمون القسم أمامه دون أن يلتقوا به حقيقة. أربط صورة السياسي وأثرها مع مفهوم التعديل، فكلاهما يقدم صورة عن طبيعة السلطة وحضورها، وقد أشير إلى ما يتسرب من صور ودلالاتها، كحالة الصور في منزل اليمنيّة توكل كرمان، وكيف ظهرت ضمن تسريبات البريد الإلكتروني الخاص بهيلاري كلينتون.
انتقل للفكرة الأخيرة، ودور الصورة في رسم التوجه السياسي للفرد. هناك الكثير من الأمثلة، من صور الكتاب الأوربيين مع شخصيات نازية، إلى صورة فنانين ومثقفين وممثلين عرب مع طغاة العالم العربي، كبشار الأسد وعبد الفتاح السيسي، وأربط توظيف الفنانين وصورهم مع الخطاب السياسي الرسمي.
نعرفها لكن لا نقرأها
أنا أمام موضوع مكون من ثلاث كتل. لا مفهوم أناقشه. أعرض للأفكار وأربط بينها محاولاً تحفيز مخيلة القارئ. المهمة التي لا أدّعي العبقرية أو المهارة في إنجازها، بل مجرد البحث على غوغل، بحث سريع عن الكلمات المفتاحية التالية: "مشاهير، تعديل، صور، قادة، إنستغرام، فوتوشوب"، وقراءة أكثر من تفكير فيما سأكتب.
يمكن نشر النص بعد الانتهاء منه، وممكن أن يظهر في أي صحيفة أو موقع. هو يحوي ما هو راهن ومعلومات "جديدة"، وهي القاعدة الأولى في العمل الصحفي. نحدد ما هو جديد بأبسط الطرق، هل نشر ما هو مشابه في صحف أخرى؟ المشكلة تظهر لاحقاً بعد النشر، إذ يُتهم المحرر الذي أُرسل له المقال بأنه يسرق جهد الصحفي أو يشوّه نصه، وهنا أمام موقفين، إما أن أحذف المقال ويضيع جهد المحرر، أي جهدي، هباء، أو اضطر إلى النظر في المقال الأصلي وانتقاده جملة جملة على صعيد الأفكار والحجج، وأرسله للصحفي لتعديله، هذا إن قام بذلك، ما يعني ضياع وقت أكثر، وتهديد النشر اليومي.
الإشكالية الأكبر، أن هذه الجهود يجب أن يقوم بها الصحفي. المحرر مهمته الإرشاد وتصحيح بعض الأخطاء، والإضاءة على جوانب جديدة، ناهيك عن الشؤون الإخراجيّة. لكن ما إن يتدخل المحرر في صلب النص وينسفه، حتى يأخذ مكان الكاتب، وما يحصل أن الكثير من المحررين يتركون النصوص السيئة أو الميتة تنشر بحجة الضغط وغياب الوقت والتشجيع، وهذا منطقي. لكن تراكم هذه الخيارات والنصوص التي تنتج عنها، يحول الصحيفة إلى صفحة هواة ومعجبين تفقد جديّتها وانتشارها. المحرر هنا "حارس بوابة" حسب المصطلح الأكاديمي، ولا نعنيه بالمعنى السياسيّ القاسي، كالرقيب، بل كالمسؤول عن الذائقة العامة، ومسؤول عن الصفحة التي يديرها، والحكمة هنا تختزل بـ"الرديء يفتح الباب أمام الرديء، والجيد يفتح الباب أمام الجيد"، فتراكم التنازلات على أساس النوعيّة يجعل الصفحة تندرج تحت عبارة "نعرفها لكن لا نقرأها".
بالعودة للفئات الأولى، مقال أو نص أو تحقيق واحد جيد، يفتح الباب أمام صاحبه ليتحول إلى كاتب دائم أو شبه دائم، نعم هناك علاقات وشلل ومحسوبيات، لكن النص الجيد يجعل صاحبه مرغوباً كونه يسهل عمل المحرر، بل يجعله يتلاشى نوعاً ما، ويزداد الطلب على هذا الشخص كونه كتب "من قلبه" لا من "قفا يده".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون